لا أبالغُ إن قلتُ بأنّي لم أجلس يوما لمتابعة مباراة، فقد كانت تُرعبني فكرة التشجيع، فكرة انقسام الناس بين من يتوجُ بطلا وبين من ينسحبُ كشبح ذليل. تلك الاستعارة التي تُذكرني بالمدرجات الرومانية، حيث يفتكُ مصارعٌ بحياة الآخر تحت تأثير الهُتاف والرغبة بإحداث العنف.
ولذا لطالما تساءلتُ: ما الذي يُثيرُ الناس في هذه اللعبة؟ وما الذي تفعله كرة القدم أكثر من تأجيج الانحيازات؟ وكأن البشرية لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن دراما الانتصار والخسارة!
تحدث الكاتب البلجيكي جان فيليب توسان عن نوعين من الناس، نوع يذهبُ إلى المكتبات، وآخر إلى ملاعب كرة القدم، ولطالما ظننتُ بوجود حائط سميك وخفي يفصلُ بين العالمين، ولذا فضلتُ أن أنفق وقتي بين القراءة ومشاهدة الأفلام.
لكن صدمتي الأولى تمثلت في الكُتّاب الذين كسروا الحواجز بين الكتابة وكرة القدم.. أليس مُرعبا أن يراها جان بول أوستر "مجازا عن الحياة"؟ باعتبارها مرآة للصراعات الواقعية؟ أليس مُدهشا اكتشافنا أنّ ألبير كامو كان يوما ما حارس مرمى؟ وكان من الممكن أن يكون في قلب الهجوم لولا أنّ جدّته نبهته إلى ضرورة ألا يتلف حذاءه وهو ابن عائلة فقيرة؟!
في الحقيقة، ثمّة ما تغير هذا العام، ليس لأنّ البطولة تُقام على أرض عربية، وليس لأنّ الحدث بهذا القرب منا، بل لأنّ قشرة متوهمة من الخلافات بين الشعوب العربية انجلت كما تنجلي غيمة من سماء صافية، فلقد شعرنا بتقارب عربي فشلت ربما السياسة والثقافة في غرسه فينا، بينما تلك اللعبة الغامضة أحدثت هذا العام تأثيرا لا يمكن نُكرانه.
لقد أججت عواطف جامحة وشبه منسية بين أوطاننا العربية، أججت شغفا مجنونا، وحرّضت سكونا عربيا، فجعلتنا نتجاوز شجوننا الظاهرة والخفية.. لقد أحدثت ذلك الخفقان الذي افتقدناه. فكم تقزمت الشعارات السياسية الفضفاضة وتضاءلت وتناءت إزاء أجساد تركض، أجساد تخلقُ حركتها وتمريراتها، غضبها وهياجها وتكتيكاتها، المعنى والقيمة في آن.
كل حركة يُعاد استقراؤها كما قد يُقرأ كتاب جيد أو فيلم عظيم. كل شيء يُفصح عن استعارة ما، فالذات العربية المُثخنة بانكساراتها، وجدت في هذه الأفراح التي جلبتها الفِرقُ العربية، وعلى رأسها المغرب -في تأهلها التاريخي الأخير- تفكيكا لتاريخ من السيطرة الكروية، قلما قد نشهده في حياتنا القصيرة، وكأننا نكتبُ حكاية جديدة ونعيدُ ترتيب أماكننا على رقعة الشطرنج، فنتحول من كوننا أطرافا مقصية إلى مركزية مُفتقدة منذ قرون.
إدواردو غاليانو في كتابه: "كرة القدم بين الشمس والظل" وجد أنّها مرآة للعالم، تجسدُ المجد والاستغلال والحب والبؤس، "إنهم يلعبون اليوم من أجل الربح، أو لمنع الخصم من الربح، وهذا هو الأسوأ، ولكن يظهر على الدوام بين اللاعبين أناسٌ يجعلون الوهم ممكنا".
بيتر هاندكه في روايته "خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء"، ربط هو الآخر كرة القدم بالحياة، وكأنّه يُعلمنا "بأنّ الاحتمالات مهما بدت بعيدة إلا أنّها قابلة للحدوث، ولا مفرّ من حدوثها، ما يعني أن الاستثناءات وحدها تبقى على دكة الاحتياط"، وهذا بالضبط ما راهنت عليه الشعوب العربية التواقة إلى انتصار صغير مهما بدا مُستعارا من لوحة الحياة الأكثر شساعة. فكما يقول بول أوستر: "كلما أحرز لاعبٌ هدفا تتردد أصداء الانتصارات القديمة".
لقد خلخت كُرة القدم هذا العام مشاعري الشخصية، فتلك المحاكاة المُضمرة لمجاز الحياة، جعلت كل شيء في المباراة يكتسبُ رمزيته الخاصة. الزمن في بطئه وتسارعه، الخفقان، صافرة البدء والانتهاء، الخصمان المتأهبان، الأهداف، التعادل، ضربات الترجيح، الفوز، الخسارة، الدموع التي تنزف في الملعب والمدرجات أمام الفُرجة المُشرعة كعرض مسرحي بين خيبة ورجاء.
ما صنعه أسود الأطلس المغاربة خرج من المستطيل الأخضر ليضرب أوتارا شديدة الحساسية، حتى أنّ البعض أصرّ على نعته بالفوز الإفريقي، لكنه في حقيقة الأمر فوز الأفارقة الذين يُمثلون العرب من الخليج إلى المحيط، ولأنّ "الحلم عند الحالمين هو اضمحلال الاستثناء، وانكشاف للاحتمالات القصوى"، فإنّنا على الأقل في هذا العام حلُمنا.
ولذا لطالما تساءلتُ: ما الذي يُثيرُ الناس في هذه اللعبة؟ وما الذي تفعله كرة القدم أكثر من تأجيج الانحيازات؟ وكأن البشرية لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن دراما الانتصار والخسارة!
تحدث الكاتب البلجيكي جان فيليب توسان عن نوعين من الناس، نوع يذهبُ إلى المكتبات، وآخر إلى ملاعب كرة القدم، ولطالما ظننتُ بوجود حائط سميك وخفي يفصلُ بين العالمين، ولذا فضلتُ أن أنفق وقتي بين القراءة ومشاهدة الأفلام.
لكن صدمتي الأولى تمثلت في الكُتّاب الذين كسروا الحواجز بين الكتابة وكرة القدم.. أليس مُرعبا أن يراها جان بول أوستر "مجازا عن الحياة"؟ باعتبارها مرآة للصراعات الواقعية؟ أليس مُدهشا اكتشافنا أنّ ألبير كامو كان يوما ما حارس مرمى؟ وكان من الممكن أن يكون في قلب الهجوم لولا أنّ جدّته نبهته إلى ضرورة ألا يتلف حذاءه وهو ابن عائلة فقيرة؟!
في الحقيقة، ثمّة ما تغير هذا العام، ليس لأنّ البطولة تُقام على أرض عربية، وليس لأنّ الحدث بهذا القرب منا، بل لأنّ قشرة متوهمة من الخلافات بين الشعوب العربية انجلت كما تنجلي غيمة من سماء صافية، فلقد شعرنا بتقارب عربي فشلت ربما السياسة والثقافة في غرسه فينا، بينما تلك اللعبة الغامضة أحدثت هذا العام تأثيرا لا يمكن نُكرانه.
لقد أججت عواطف جامحة وشبه منسية بين أوطاننا العربية، أججت شغفا مجنونا، وحرّضت سكونا عربيا، فجعلتنا نتجاوز شجوننا الظاهرة والخفية.. لقد أحدثت ذلك الخفقان الذي افتقدناه. فكم تقزمت الشعارات السياسية الفضفاضة وتضاءلت وتناءت إزاء أجساد تركض، أجساد تخلقُ حركتها وتمريراتها، غضبها وهياجها وتكتيكاتها، المعنى والقيمة في آن.
كل حركة يُعاد استقراؤها كما قد يُقرأ كتاب جيد أو فيلم عظيم. كل شيء يُفصح عن استعارة ما، فالذات العربية المُثخنة بانكساراتها، وجدت في هذه الأفراح التي جلبتها الفِرقُ العربية، وعلى رأسها المغرب -في تأهلها التاريخي الأخير- تفكيكا لتاريخ من السيطرة الكروية، قلما قد نشهده في حياتنا القصيرة، وكأننا نكتبُ حكاية جديدة ونعيدُ ترتيب أماكننا على رقعة الشطرنج، فنتحول من كوننا أطرافا مقصية إلى مركزية مُفتقدة منذ قرون.
إدواردو غاليانو في كتابه: "كرة القدم بين الشمس والظل" وجد أنّها مرآة للعالم، تجسدُ المجد والاستغلال والحب والبؤس، "إنهم يلعبون اليوم من أجل الربح، أو لمنع الخصم من الربح، وهذا هو الأسوأ، ولكن يظهر على الدوام بين اللاعبين أناسٌ يجعلون الوهم ممكنا".
بيتر هاندكه في روايته "خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء"، ربط هو الآخر كرة القدم بالحياة، وكأنّه يُعلمنا "بأنّ الاحتمالات مهما بدت بعيدة إلا أنّها قابلة للحدوث، ولا مفرّ من حدوثها، ما يعني أن الاستثناءات وحدها تبقى على دكة الاحتياط"، وهذا بالضبط ما راهنت عليه الشعوب العربية التواقة إلى انتصار صغير مهما بدا مُستعارا من لوحة الحياة الأكثر شساعة. فكما يقول بول أوستر: "كلما أحرز لاعبٌ هدفا تتردد أصداء الانتصارات القديمة".
لقد خلخت كُرة القدم هذا العام مشاعري الشخصية، فتلك المحاكاة المُضمرة لمجاز الحياة، جعلت كل شيء في المباراة يكتسبُ رمزيته الخاصة. الزمن في بطئه وتسارعه، الخفقان، صافرة البدء والانتهاء، الخصمان المتأهبان، الأهداف، التعادل، ضربات الترجيح، الفوز، الخسارة، الدموع التي تنزف في الملعب والمدرجات أمام الفُرجة المُشرعة كعرض مسرحي بين خيبة ورجاء.
ما صنعه أسود الأطلس المغاربة خرج من المستطيل الأخضر ليضرب أوتارا شديدة الحساسية، حتى أنّ البعض أصرّ على نعته بالفوز الإفريقي، لكنه في حقيقة الأمر فوز الأفارقة الذين يُمثلون العرب من الخليج إلى المحيط، ولأنّ "الحلم عند الحالمين هو اضمحلال الاستثناء، وانكشاف للاحتمالات القصوى"، فإنّنا على الأقل في هذا العام حلُمنا.