"[...] ليسو أمواتاً، ولكنهم ذهبوا قبلك" (أرسطوفانِس)

(1)

ترى، ما المسافة بين ماء المشيمة والصرخة؟ كيف نُقْيمُ المدى بين السماء والقلب؟ ما المكيال العادل الرزين بين الخطوة والنجمة؟ ما القياس بين الرَّحِم وآخر الكواكب؟ ما الخطوط التي تفصل بين الطريق والثَّكل؟ ما التمايز بين الدرب وما خلَّفه "العابرون فوق شظاياهم"؟ كيف صار الغدر أخي من الأم أو شقيقي من ثدي الفقائد؟ ما الكون بين الرثاء المتأخر القليل الموجَع والتذكُّر الكثير الدائم الموجِع؟ ما البرازخ الضبابيَّة بين محفوظة حبيب في الضوء وعبدالعزيز الفارسي في الشمس التي تشرق وتذوي، ثم تشرق، وتشرق، وتشرق بما يكفي العذاب؟ ولماذا لا يُكتب لي سوى الإقامة مترنِّحاً بين الاحتمال وحجرة أُمِّي، وغرفة مُرضِعة رفيقي، وعِلِّيَّة والدة صديقي مع كل ابتسامة أو مع كل قبر (لا فرق)؟ كيف لم يُقَيَّض لي إلا أن أذهب إلى الحب (متأخراً) كمن يستقبل اللوعة (مبكراً)؟

عند قدمي عبدالعزيز تخرُّ كافة أسئلة الحزن مثل سُحُب تتداعى في طقس الطاعة، وإن لم يمكن لي أن أُنادم المحبة في كل من أحببتهم فهأنذا أُخادِنُ الندم في كل من أحبوني. إن خانني اقتباس أَثَرِهِ فأنا لا أَكثر في ثراه، وكمن يتعلم اللثغة في السواحل: إذا ما هم تركوني برضاهم فإنهم لا يغادرون بمشيئتي.

ليت ذلك التاريخ الذي عصف بنا لم يُحفر على ضلوعنا، أو ليته نُقش على عِظامنا وهي رميم يوم يَنفخُ إسرافيل في الصُّوْر، كي نراه -- ذلك التاريخ، عنيتُ -- لمرَّة واحدة وأخيرة قبل تكالب العدم من كل حدب وصوب؛ أعني تاريخ 11 أبريل 2022.

كان الوقت، حسب النواقيس العجلى، لا وفقاً للنواميس الأكثر ثقة في المسارات والمدارات، بُعيدَ منتصف الليل الذي لم يتوقف ظلامه منذ ذلك الحين؛ بل تمدَّد حتى أضحى سيِّد الميقات وواهب المواعيد، وذلك حيث يقتضي البروتوكول التَّهذيبي المعتاد بيننا -- سليمان المعمري وأنا -- حين يريد أن يبعث أحدنا إلى الآخر مرسالاً عندما تكون هناك ضرورة لحديث على الهاتف في وقت متأخر برسالة "واتسأب" تقول: "أمستيقظ أنت يا صاح"؟، ليرد الآخر: "صاحٍ يا صاح"، أو بتنويع ودود مثل هذا، أو بعدم الرد مما يعني الوجود في مكان لا يصل إليه الوصل.

هكذا، إذاً، هاتفت سليمان المعمري -- وهو، بمألوف الذكريات ووطيد المعرفة، رابط الجأش أكثر مني في المعتاد من العوائد والملمَّات -- لشأن خاص أو عام لم أعد أتذكره، وذلك ليسري صوته الراعف والمرتجف في شراييني مثل زلزال في قارورة بحجم الأرض. سألته: "صوتك ما عاجبنِّي. خير إنشالله"؟. أجاب: "عبدالعزيز الفارسي في المستشفى السلطاني في حالة خطيرة". هل كان هناك أمر في الأصل كي أعرف عنه شيئاً في الأساس؟ سليمان قال لي كل الجزع وكامل القليل الذي يعرفه، وليس كمن يشترك يقيناً مع صاحبٍ في كتابة رواية مشتركة لا يدري أيٌّ من الكاتبين شيئاً عن الفصل القادم فيها، ومن سيكتبه، وإلى أين سيذهب البطل المغدور. أول ما افترضته في ذلك الخوف الغامر أن في الأمر حادث سيارة من تلك التي توجع دروبنا حيث مجانيَّة كل شيء لولا أن دهستني مجانيَّة أخرى في الحديث عن حالة عبدالعزيز الطبيَّة. "قوم نسير المستشفى تَوْ". "وأيش الفايدة، وأيش ممكن نسوِّي؟ هوَّه في غرفة العناية المركزَّة وممنوع حد يشوفه أصلاً".

في الساعات الشحيحة المتشنجة التالية كانت جبال الليمون تتهاوى من دون أن نراها إلا يابسة، وكانت المجاذيف، والأشرعة، والذكريات، والمزارع تزحف حجَّاً من شناص إلى خافق عبدالعزيز الفارسي. توالت المكالمات والجمرات المتأوِّهة بين عدة أشخاص وأرواح (سليمان المعمري، الهيولى، حمود الشكيلي، الضباب، نعيم الفارسي، الخوف والوخز، غيرنا، وأنا) في ذلك البرزخ المباغت كما في انهيار أقدم سقف طينيٍّ على أكثر القصص القصيرة نضارة. ثم، في ساعة متأخرة من الوجد المحموم، أدركنا بمنتهى العجز والقنوط أن عبدالعزيز لم يعد موجوداً بيننا، ولن يكون؛ بل ذهب بذهول الرضى إلى ما يصفه شكسبير بـ "المكان الذي لا يعود منه أحد".

فجأةً، بغتةً، مَحْقَاً، هولاً، سحقاً، شوكاً، فجيعةً، ماءً رماديَّاً أصبحنا "كائنات إجرائيَّة" (التعبير لمسعود أمرالله، وقد قاله في سياق مختلف بعض الشيء لكنه يليق تماماً بالمُصاب الذي أصابنا): صار الحديث المخذول يدور عن تفاصيل تقولها الألسن من دون أن تعيها الأفواه ولا الأذهان الذاهلة، وذلك من قبيل موعد نقل الجثمان من مسقط إلى شناص، وهل صار عزيزنا عبدالعزيز يعرف الفرق بين الزهرة والزمهرير، وهل عبدالعزيز يتذكرنا كما نتذكره، وعما إذا كنا سنتمكن من حضور صلاة الجنازة (متى سيكون موعدها أصلاً)؟، والمشاركة في إيداع التراب من جاء من الطين، ومن سيذهب مصاحباً لِمَن في سيارة مَن، إلخ من لوجستيَّات كان عبدالعزيز، وقد بدأ يشرب أولى قطرات السرمد، يستهجنها في تلك اللحظات بالضبط، ويستعجل انصرافها بسبب إدراك كم هي خاوية الوفاض من المعنى الذي وصل هو إليه، ولا يريد أن يقوله لأحد.

في الحقيقة، وبتبكيت شديد، أقول كمن لن يسامح نفسه: لم يكن حظِّي ونصيبي في الفانية أن أعرف عبدالعزيز الفارسي جيداً (أقصد: قبل أن أبدأ في قراءة كتبه بعد رحيله). والليلة، في كل هذا الندم، أتمنى لو كنت أحد المرضى الهالكين الذين كان يطبِّبهم، ثم يحرص على السير في رحلة المثوى الأخير مع أهاليهم وذويهم، ويحضر مجالس العزاء "كالسيف فردا" (والحقيقة إني، في مجلس عزائه، التقيت بمن يقول: أنا لم أعرف المرحوم شخصيَّاً، ولكنه عالج أخي أو أختي، أو حضر عزاء أمي أو أبي بعد أن كانت أو كان تحت رعايته العلاجيَّة قبل أن يسترد الله وديعته). والليلة أتمنى أن أذهب قبل أن يرحل أحد آخر ممن أحبُّ بصورة أكتشف، بعد فوات الأوان، أنها ليست طفيفة.

لا تصلح كلمة "صديق" (في الحياة) في توصيف العلاقة بين الراحل العزيز عبدالعزيز وبيني (في الموت) إلا من باب التَّمني من طرفي. أما "الزمالة" (في الكتابة) فهي أكثر المفردات استهلاكاً وعطباً بين الكتابة والبحر في ما يخصنا. وأكتشف في هذه الليلة العلقميَّة كم أنا حزين أني لا أفقه عبدالعزيز لا في الجهل، ولا في المعرفة. في الحقيقة، لا يبلغ عدد لقاءاتي به عدد أصابع اليد الواحدة، وإن بلغها فإنه لن يزيد عن ذلك بموعد مؤجل آخر.

كل لقاءاتنا اليتيمة والسريعة كان مرتبطاً بمناسبات ثقافيَّة: معارض الكتاب في مسقط، أو حفل توقيع كتاب لأحدنا أو كلينا ضمن فعاليَّات المعارض سابقة الذكر، أمسية شعريَّة أو أدبيَّة، أو حفل تسليم جوائز، أو مناسبة تكريميَّة.

أطول تلك اللقاءات النادرة بالراحل العزيز عبدالعزيز (حوالي ساعتين أو ما يربو عن ذلك قليلاً) كانت في سهرة لتوديع الشاعر الراحل (بدوره) أمجد ناصر الذي كان مدعواً للمشاركة في شيء من الفعاليات الثقافية هنا في مسقط. كانت السهرة تأخذ مكانها في إحدى ليالي فبراير 2008 بأريحيَّة بالغة في فندق إقامة الراحل أمجد، فندق الإنتركونتنتَل في مسقط. كان اللقاء، الذي رُتِّب على عجل، قبيل موعد رحلة عودة أمجد إلى بريطانيا حيث كان يقيم حين اكتشف فجأة، ومرتبكاً، أن ليست لديه حقيبة يضع فيها الكتب التي أهديت إليه في مسقط، وأن لديه وزناً زائداً أصلاً بمقاييس واشتراطات شركة الطيران. قال عبدالعزيز لأمجد ببداهة سريعة: "لا تخف، لديَّ في السيَّارة حقيبة تكفي لغرضك". وقبل أن نسمع نهاية جملة عبدالعزيز كان قد عاد من موقف السيارات بحقيبة سوداء متوسطة الحجم من ذلك النوع الذي يُحمل على الظهر، وقدَّمها لأمجد قائلاً بما معناه: ستتسع هذه الحقيبة للكتب!

الذي أتذكره وأستشعره جيداً من ذلك المشهد البعيد ليس الكرم الذي لا ينبغي أبداً أن نستكثره من عبدالعزيز فحسب، بل العفوية والتلقائيَّة اللتان تصرَّف بهما في غمضة عين، ولم أكن حينها أعلم أن فقيدنا إنما كان في طور حزم حقائبه والتخلص منها في الآن ذاته.

أما ثاني أطول لقاء بيننا (أو تقريباً كذلك) وآخرهما فقد حدث في مطعم تناولنا فيه وجبة العشاء -- عبدالعزيز، وآخرون، وأنا -- في 23 فبراير 2017 بعد إغلاق معرض الكتاب في إحدى لياليه التي وقَّع فيها راحلنا العزيز وسليمان المعمري روايتهما المشتركة "شهادة وفاة كلب"، وكنت قد تشرفت بقراءة مخطوطها (وما يجعلني أتذكر ذلك التاريخ وأذكره هنا هو وروده في الإهداء المشترك من الكاتبين لعملهما، والمرفق في هذه المادة). كان عبدالعزيز منهكاً بسبب وصوله في نفس الليلة من كندا البعيدة التي كان يواصل فيها دراساته وأبحاثه العليا في مجال طب السرطان، وهو المجال العملي الذي امتهنه ونبغ فيه فنفع البلاد والعباد. لكن، وعلى الرغم من الإنهاك، فإنه لم يبخل علينا بقفشات سريعة وثاقبة مليئة بالسخرية الفاقعة، مثلما هو الحال في جُلِّ كتاباته، ولكن في هذه المرة كان هدف التهكُّم وموضوعه هو الأحوال الثقافيَّة الأقل من مثاليَّة بكثير في بلادنا. وا أسفاه، لم نكن ندري أنه "عشاء أخير" بكثير من المعاني والمقاييس.

وفي السنوات اللاحقة، بين 2017 و2022، حدثت بضع مكالمات هاتفيَّة، براغماتيَّة وخاطفة، بين عبدالعزيز وبيني أتذكر منها اثنتين. الأولى تتعلق باستشارة طبيَّة تخصني، أما الثانيَّة فقد كانت التوكيد على ضرورة متابعة الوضع الصحي لراحلنا العزيز الآخر أحمد الزبيدي الذي كان مُنَوَّماً في المستشفى السلطاني في أيامه الوداعيَّة، وهنا كان رد عبدالعزيز مما لا ينبغي أن يثير أي عجب أو استغراب: "ولا يهمِّك أبداً. لا توصِّي حريص". وهذا ما كان بتكريس شديد منه.

والآن، حيث لم يعد أحمد الزبيدي ولا عبدالعزيز الفارسي بيننا، فلا أدري من سيوصي من بنا نحن الذين لا نزال نترنح ونراوح بين قبر وقبر.

(2)

ليس بعيداً أبداً عن الموضوع على الإطلاق، بل في صميمه ولُبِّه، كان سعيد العويناتي شاعراً واعداً وموهوباً بدأ لتوِّه تعليمه الجامعي في بغداد، وكان أيضاً كادراً تنظيميَّاً في جبهة التحرير الوطني البحراني (أعني في مرحلة العمل السياسي السرِّي قبل أن تتحول الجبهة التي تأسست في 15 فبراير 1955 إلى جمعية سياسيَّة معترف بها تعمل اليوم، بعد نضالات السنين وتضحياتها المريرة، بصورة شرعيَّة وعلنيَّة تحمل اسم "المنبر التقدمي" اعتباراً من 14 سبتمبر2001).

وفي أحد أيام سنوات النار والحديد الماضية تلك، وتحديداً في 12 ديسمبر 1976، ألقي القبض على الشاعر/ المناضل سعيد العويناتي (يُقال إن ثمَّة وشاية كانت في الأمر، ويقال إن نسخاً من بعض قصائده قد "ضُبِطَت" مُتَلبِّسة بالحرية في حوزة جندي في الجيش فكان هذا سبباً كافياً للموت، وتقال أشياء أخرى)، وخلال أربع وعشرين ساعة فقط من بدء الاعتقال لم يعد العويناتي بيننا. خلال أربع وعشرين ساعة فقط صار يتحتَّم الحديث عنه بصيغة الماضي. خلال أربع وعشرين ساعة فقط لم يعد سعيد العويناتي موجوداً هنا على الأرض، بل ذهب إلى مكان آخر؛ ذلك "المكان الذي لا يعود منه أحد" وفقاً لشكسبير مرة أخرى.

بعد ذلك دار الحديث وتبودلت التكهُّنات والتوقعات عن مسألة "الأربع وعشرين ساعة" تلك، وعما حدث خلالها؛ إذ لا أحد يعرف على وجه الدِّقة كم بالضبط تمكَّنت روح العويناتي من الحياة في منزل الوحش: مجرد دقائق قليلة قبل انهيال العصي واللكمات؟ ساعة أو بعض ساعة قبل اندلاق الكهرباء في الجسد وتهشيم الجمجمة؟ بضع ساعات في الغيبوبة يمكن أن يكون قد وصل حدها الأقصى في الهول إلى أربع وعشرين؟ لا أحد يعرف على وجه التحديد والدقة، لكن بعد أربع وعشرين ساعة من رؤيته الشمس لآخر مرة كان سعيد العويناتي يرى إلى العالم من تحت التراب.

بعد سنوات طويلة من ذلك كتب الدكتور حسن مدن مستذكراً صديقه ورفيقه سعيد العويناتي ملفتاً الانتباه إلى حقيقةٍ مُفارِقَةٍ بالقول إنه حدث شيء غريب؛ فالمعهود من الأشياء أن يُعتَقَل كادرٌ سياسيٌّ ما، وبعدها يُقاد إلى الغرف المظلمة، ثم تتناقل الألسن ما يتسرب من الأخبار من المعتقَل وأساليب وطرائق التحقيق، ثم يدري الناس عن الحكم الصادر بحق الأسير مهما بلغت قسوته.

لكن في حالة سعيد العويناتي (والكلام للدكتور مدن) حصل العكس تماماً: عرفنا عن استشهاده أولاً، ثم علمنا عن اعتقاله ثانياً.

تكرر الأمر في حالة عبدالعزيز الفارسي (مع إن الظروف والحيثيَّات المباشرة مختلفة بعض الشيء من اختلاف السياق، ولكن من الخارج فقط): لقد علمت الغالبية العظمى من مرضى، وأصدقاء، وزملاء، بل وبعض من أهل فقيدنا الحبيب عبدالعزيز الفارسي، عن وفاته أولاً قبل أن يعرفوا أنه كان مريضاً في الأساس، وأنه كان مُنَوَّماً في المستشفى تحت رحمة الملائكة. ومثل سعيد العويناتي، لم تمهل الملائكة عبدالعزيز الفارسي إلا قليلاً جداً.

وأستحضر هنا أن تاريخ ميلاد عبدالعزيز الفارسي يتقاطع مع تاريخ استشهاد سعيد العويناتي في نفس العام بفارق بضعة شهور فقط: الأول ولد في 27 أغسطس 1976، أما الثاني فقد قضى تحت التعذيب في 12 ديسمبر 1976.

هكذا آخى الموت الذي، في العادة، يميِّز الأحياء من الأموات بين سعيد العويناتي وعبدالعزيز الفارسي، تاركاً العبرة، والوجد، والوجود في القراءة والكتابة.

هكذا ننتظر حتوفنا في تواريخ الذاكرة والذكريات.

(3)

"-- لو جاءك سيَّاف ووضع النصل على رقبتك وقال: "اختر بسرعة وإلا قتلتك: طبيب أم قاص"؟ ماذا ستختار؟

-- سأختار الموت طبعاً. في هذه الحالة يصعب عليَّ تصوُّر أني قد أعيش طبيباً دون كتابة، أو كاتباً دون طب. إني أجد نفسي في كوني طبيباً يسعى لمعالجة مرضى السرطان وتخفيف كل آلامهم. ليس من السهل الحصول على ثقة أي مريض يواجه الموت ويسعى لدفعه، فكثير من الأشياء تتحكم في عقله حينئذٍ، ويكون في صراع نفسي مرير. إن الثقة التي يعطيك مريض السرطان إيَّاها لَثِقَةٌ غالية لأنه يشاركك في كل شيء: الصدمة، الخوف، الحزن، الأمل، الرغبة في التحدي، نوبات الألم، لحظات الضعف النفسي، مرارة الدواء، فرحة الانتصار على المرض، أو فجيعة الهزيمة. باختصار يكون المريض جزءاً منك، وقد تكسب به حياة أخرى، أو قد تخسره فتفقد معه جزءاً من روحك. ممارسة الطب جزء لا يتجزأ من حياتي اليوميَّة، وأشعر بالمرض إن توقفتُ عنها، ولكن للأسف هي رهينة بوجودي على هذه الأرض. أما الكتابة فهي طريقتي في مواجهة الحياة، وتحقيق نفسي، وإضافة معانٍ أكبر لحياتي. الكتابة رؤية أعيد بها صياغة ما أعيش، وسعيٌ حثيث لمواجهة كل أنواع الموت، وإثبات أنني لم أدخل وأخرج من هذه الحياة لأعيش على الهوامش عاجزاً عن تغيير أي شيء. إنها رغبة التغيير المستمرة التي تبقى بعدك في انتظار أن يلتقطها قارئ آخر من زمن آخر يعيش نفس تجربتك ويشاركك الهم، ثم يسعى للتغيير وإكمال مسيرتك. إنها روحك الباقية مهما مر الزمن على رحيل جسدك" (عبدالعزيز الفارسي، من حوار أجراه معه سليمان المعمري في كتابه "من مسافة قريبة: حوارات مع مثقفين عرب"، قيد الصدور عن "دار الرافدين").