أقيمت في القاهرة خلال الشهر الماضي احتفالية بمناسبة ذكرى بدء العلاقات الدبلوماسية الرسمية في التاريخ المعاصر بين سلطنة عمان ومصر ( ١٩٧٢-٢٠٢٢)، وهي العلاقات التي توجت بأول تمثيل دبلوماسي عقب قيام النهضة العمانية الحديثة التي بدأت مع اعتلاء السلطان قابوس، طيب الله ثراه، مقاليد الحكم (١٩٧٠)، رغم أن العلاقات بين البلدين لم تبدأ منذ هذا التاريخ، وإنما هي علاقات ضاربة في عمق الماضي السحيق، حينما ازدهرت التجارة بين البلدين، فقد تبادل العمانيون والمصريون الكثير من صنوف التجارة كالنحاس وأشجار المر والصمغ وخصوصًا اللبان، مع ظفار (بلاد بونت)، وتشير النقوش المكتوبة على جدران معبد الدير البحري في مدينة الأقصر بأن الملكة المصرية حتشبسوت زارت منطقة ظفار.
لم تنقطع هذه العلاقات طوال التاريخ القديم والحديث، فقد زار السلطان برغش بن سعيد مصر ١٨٧٥م، حينما كان في طريقه إلى بريطانيا، وتجول في مدن السويس والإسماعيلية وبورسعيد، والتقى بالخديوي إسماعيل ودارت بينهما مباحثات دبلوماسية، تمخضت عن عقد اتفاق لتنسيق العمل المشترك في منطقة القرن الأفريقي، إلا أن البريطانيين قد حالوا دون إبرام هذا الاتفاق، كما زار السلطان تيمور بن فيصل مصر ١٩٢٨م أثناء عودته من أوروبا، ونزل في الإسكندرية التي أحبها وأقام فيها لما يقرب من عشرين يوما (نهاية نوفمبر وأوائل ديسمبر)، كما زار السلطان سعيد بن تيمور القاهرة (أبريل ١٩٤٤)، والتقى بالملك فاروق.
منذ عصر النهضة العمانية التي توجت باعتلاء المرحوم السلطان قابوس مقاليد الحكم ١٩٧٠، كانت مصر دائما من أوائل الدول التي زارها الراحل (ديسمبر ١٩٧٢)، وقد استقبله الرئيس الأسبق أنور السادات، ومنح جلالته قلادة النيل العظمى كما منح وسام الجمهورية لجميع أعضاء الوفد المصاحب لجلالته، بعدها توطدت بينهما علاقات وثيقة، وكان من أوائل القادة الذين زاروا مصر عقب حرب أكتوبر (٢٤ نوفمبر ١٩٧٣)، ولم ينسَ المصريون مواقفه الكريمة حينما أصدر مرسوما سلطانيا بالتبرع بربع رواتب الموظفين العمانيين للمجهود الحربي المصري، وإرسال بعثتين طبيتين خلال الحرب واحدة لمصر وأخرى لسوريا.
زار السلطان قابوس مصر مرات عديدة، وتوثقت علاقته بالرئيس الأسبق أنور السادات، كما زار مدن القناة والأزهر الشريف وتعمقت العلاقات بين هذين البلدين الكبيرين، وكان السلطان الراحل يكن تقديرًا كبيرًا لمصر ودورها التاريخي، وكانت المطابع المصرية أول من طبع العديد من كتب التراث العماني، كما كان المعلمون المصريون من أوائل من شاركوا في العملية التعليمية، التي خصها الراحل بعناية خاصة، وكان جلالته دائما ما يثني على دور المعلم المصري، وأتذكر أنني شرفت بلقاء جلالته أثناء زيارة فضيلة شيخ الأزهر وبحضور سماحة المفتي الشيخ أحمد الخليلي ووزير الأوقاف العماني في ذلك الوقت الشيخ عبدالله السالمي مايو ٢٠١٣، وقد راح جلالته يتحدث عن مصر ودورها الثقافي والسياسي، باعتبارها الركيزة الأهم لكل القضايا العربية، وقد أثنى جلالته على دور المعلم المصري، الذي شارك في النهضة العمانية منذ سنواتها الأولى.
لفت نظري في هذا اللقاء، هذا الفيض المتدفق من المعارف الإنسانية والتاريخية، وكان متابعا لما ينشر في مصر من كتب يحرص على اقتنائها في مكتباته الخاصة، لذا حرص على أن يكون أول إصدارا لكتاب "مصلح على العرش" يصدر من مصر، وعن دار الكتب المصرية، وكان لي شرف الإشراف والمتابعة لهذا الإصدار الذي شرفت دار الكتب بإخراجه للنور.
عند إنشاء جامعة السلطان قابوس، كان المصريون هم قوام هذه الجامعة، حينما استقدمت السلطنة نخبة من أفاضل الأساتذة الذين شاركوا العمانيين في إنجاح هذه التجربة، التي جعلت من جامعة السلطان قابوس واحدة من المؤسسات المضيئة في العالم العربي، وهي تجربة تستحق التوثيق والكتابة، وكلما زرت السلطنة رحت أتابع النتائج التي حققها خريجو الجامعة في كل برامج التنمية، وفي كل ربوع عمان، لذا أعتقد أن الجيل الأول الذي تخرج من الجامعة قد حمل على عاتقه المسئولية الأكبر في كل مناحي الحياة العمانية، ولعل تجربة الجامعة تعد بداية تحول في تاريخ عمان، فقد تخرج منها المعلمون والمهندسون والأطباء والإداريون، وكل من يتابع مشروعات التنمية في عمان يلحظ أن هذا البلد العظيم يفخر بهذا الجيل، الذي حمل على عاتقه إدارة كل مؤسسات الدولة، وجميعهم من خريجي هذه الجامعة التي تركت بصمات واضحة في كل ربوع هذا البلد.
لقد تعمقت العلاقات المصرية العمانية منذ عصر الرئيس الراحل أنور السادات، والرئيس الأسبق حسني مبارك وصولا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، وخلال هذه العقود التي امتدت لنصف قرن، لم ينسَ المصريون المواقف الشجاعة للسلطان قابوس، حينما أقدم الرئيس السادات على عقد اتفاق سلام مع الإسرائيليين، بذل جهودًا مضنية لمشاركة دول المواجهة فيه، إلا أن جميعهم قد خذلوه وخصوصًا بعد أن قاد الرئيس صدام حسين فريق المقاطعة لمصر، التي وضعت في موقف صعب، لكن كان السلطان قابوس كان واحدا من القادة الكبار الذين رفضوا هذه المقاطعة بكل شجاعة، بل صرح قائلا: "مصر لا تُقاطع ولا تُعزل ولا تموت بسبب موقفها"، وفي العيد الوطني لسلطنة عمان في ١٨ نوفمبر ١٩٨٤، قال السلطان قابوس: "لقد ثبت عبر مراحل التاريخ المعاصر أن مصر كانت عنصر الأساس في بناء الكيان والصف العربي، وهي لم تتوان يوما في التضحية من أجله والدفاع عن قضايا العرب والإسلام، وإنها لجديرة بكل تقدير". وأتذكر اللقاء الذي حضرته مع شيخ الأزهر (مايو ٢٠١٣)، حينما تعرض السلطان قابوس لهذا الموضوع، وبكل شجاعة قال: "لقد قلت للأخوة إن المصريين وحدهم هم من دفعوا ثمنا باهظا من اقتصادهم ودماء أبنائهم، لذا فهم الذين يقررون مستقبلهم سلما أو حربا، ليس من حق أحد أن ينازعهم على هذا الحق ومصر لا تستحق هذا العقاب".
الملاحظ على العلاقات المصرية العمانية منذ عام ١٩٧٠، أنها بقيت راسخة ومستمرة تزداد قوة ومتانة يوما بعد يوم، وقد توجت هذه العلاقة بالزيارة الأخوية للرئيس عبد الفتاح السيسي مرتين، الأولى في عهد المرحوم السلطان قابوس فبراير ٢٠١٨، والثانية في عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق يونيو ٢٠٢٢، الذي راح يواصل مسيرة جلالة السلطان قابوس بكل قوةً واقتدار.
بحكم تجربتي الشخصية خلال عملي بجامعة السلطان قابوس منذ بدايتها، لم أشعر أنا وغيري من الزملاء أننا غرباء، فقد غمرنا العمانيون بكل المحبة والوفاء، واعترف بأن السنوات التي أمضيتها في هذا البلد العريق ستظل من أجمل فترات حياتي – عاشت العلاقات المصرية العمانية نموذجًا للعلاقات العربية العربية.
لم تنقطع هذه العلاقات طوال التاريخ القديم والحديث، فقد زار السلطان برغش بن سعيد مصر ١٨٧٥م، حينما كان في طريقه إلى بريطانيا، وتجول في مدن السويس والإسماعيلية وبورسعيد، والتقى بالخديوي إسماعيل ودارت بينهما مباحثات دبلوماسية، تمخضت عن عقد اتفاق لتنسيق العمل المشترك في منطقة القرن الأفريقي، إلا أن البريطانيين قد حالوا دون إبرام هذا الاتفاق، كما زار السلطان تيمور بن فيصل مصر ١٩٢٨م أثناء عودته من أوروبا، ونزل في الإسكندرية التي أحبها وأقام فيها لما يقرب من عشرين يوما (نهاية نوفمبر وأوائل ديسمبر)، كما زار السلطان سعيد بن تيمور القاهرة (أبريل ١٩٤٤)، والتقى بالملك فاروق.
منذ عصر النهضة العمانية التي توجت باعتلاء المرحوم السلطان قابوس مقاليد الحكم ١٩٧٠، كانت مصر دائما من أوائل الدول التي زارها الراحل (ديسمبر ١٩٧٢)، وقد استقبله الرئيس الأسبق أنور السادات، ومنح جلالته قلادة النيل العظمى كما منح وسام الجمهورية لجميع أعضاء الوفد المصاحب لجلالته، بعدها توطدت بينهما علاقات وثيقة، وكان من أوائل القادة الذين زاروا مصر عقب حرب أكتوبر (٢٤ نوفمبر ١٩٧٣)، ولم ينسَ المصريون مواقفه الكريمة حينما أصدر مرسوما سلطانيا بالتبرع بربع رواتب الموظفين العمانيين للمجهود الحربي المصري، وإرسال بعثتين طبيتين خلال الحرب واحدة لمصر وأخرى لسوريا.
زار السلطان قابوس مصر مرات عديدة، وتوثقت علاقته بالرئيس الأسبق أنور السادات، كما زار مدن القناة والأزهر الشريف وتعمقت العلاقات بين هذين البلدين الكبيرين، وكان السلطان الراحل يكن تقديرًا كبيرًا لمصر ودورها التاريخي، وكانت المطابع المصرية أول من طبع العديد من كتب التراث العماني، كما كان المعلمون المصريون من أوائل من شاركوا في العملية التعليمية، التي خصها الراحل بعناية خاصة، وكان جلالته دائما ما يثني على دور المعلم المصري، وأتذكر أنني شرفت بلقاء جلالته أثناء زيارة فضيلة شيخ الأزهر وبحضور سماحة المفتي الشيخ أحمد الخليلي ووزير الأوقاف العماني في ذلك الوقت الشيخ عبدالله السالمي مايو ٢٠١٣، وقد راح جلالته يتحدث عن مصر ودورها الثقافي والسياسي، باعتبارها الركيزة الأهم لكل القضايا العربية، وقد أثنى جلالته على دور المعلم المصري، الذي شارك في النهضة العمانية منذ سنواتها الأولى.
لفت نظري في هذا اللقاء، هذا الفيض المتدفق من المعارف الإنسانية والتاريخية، وكان متابعا لما ينشر في مصر من كتب يحرص على اقتنائها في مكتباته الخاصة، لذا حرص على أن يكون أول إصدارا لكتاب "مصلح على العرش" يصدر من مصر، وعن دار الكتب المصرية، وكان لي شرف الإشراف والمتابعة لهذا الإصدار الذي شرفت دار الكتب بإخراجه للنور.
عند إنشاء جامعة السلطان قابوس، كان المصريون هم قوام هذه الجامعة، حينما استقدمت السلطنة نخبة من أفاضل الأساتذة الذين شاركوا العمانيين في إنجاح هذه التجربة، التي جعلت من جامعة السلطان قابوس واحدة من المؤسسات المضيئة في العالم العربي، وهي تجربة تستحق التوثيق والكتابة، وكلما زرت السلطنة رحت أتابع النتائج التي حققها خريجو الجامعة في كل برامج التنمية، وفي كل ربوع عمان، لذا أعتقد أن الجيل الأول الذي تخرج من الجامعة قد حمل على عاتقه المسئولية الأكبر في كل مناحي الحياة العمانية، ولعل تجربة الجامعة تعد بداية تحول في تاريخ عمان، فقد تخرج منها المعلمون والمهندسون والأطباء والإداريون، وكل من يتابع مشروعات التنمية في عمان يلحظ أن هذا البلد العظيم يفخر بهذا الجيل، الذي حمل على عاتقه إدارة كل مؤسسات الدولة، وجميعهم من خريجي هذه الجامعة التي تركت بصمات واضحة في كل ربوع هذا البلد.
لقد تعمقت العلاقات المصرية العمانية منذ عصر الرئيس الراحل أنور السادات، والرئيس الأسبق حسني مبارك وصولا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، وخلال هذه العقود التي امتدت لنصف قرن، لم ينسَ المصريون المواقف الشجاعة للسلطان قابوس، حينما أقدم الرئيس السادات على عقد اتفاق سلام مع الإسرائيليين، بذل جهودًا مضنية لمشاركة دول المواجهة فيه، إلا أن جميعهم قد خذلوه وخصوصًا بعد أن قاد الرئيس صدام حسين فريق المقاطعة لمصر، التي وضعت في موقف صعب، لكن كان السلطان قابوس كان واحدا من القادة الكبار الذين رفضوا هذه المقاطعة بكل شجاعة، بل صرح قائلا: "مصر لا تُقاطع ولا تُعزل ولا تموت بسبب موقفها"، وفي العيد الوطني لسلطنة عمان في ١٨ نوفمبر ١٩٨٤، قال السلطان قابوس: "لقد ثبت عبر مراحل التاريخ المعاصر أن مصر كانت عنصر الأساس في بناء الكيان والصف العربي، وهي لم تتوان يوما في التضحية من أجله والدفاع عن قضايا العرب والإسلام، وإنها لجديرة بكل تقدير". وأتذكر اللقاء الذي حضرته مع شيخ الأزهر (مايو ٢٠١٣)، حينما تعرض السلطان قابوس لهذا الموضوع، وبكل شجاعة قال: "لقد قلت للأخوة إن المصريين وحدهم هم من دفعوا ثمنا باهظا من اقتصادهم ودماء أبنائهم، لذا فهم الذين يقررون مستقبلهم سلما أو حربا، ليس من حق أحد أن ينازعهم على هذا الحق ومصر لا تستحق هذا العقاب".
الملاحظ على العلاقات المصرية العمانية منذ عام ١٩٧٠، أنها بقيت راسخة ومستمرة تزداد قوة ومتانة يوما بعد يوم، وقد توجت هذه العلاقة بالزيارة الأخوية للرئيس عبد الفتاح السيسي مرتين، الأولى في عهد المرحوم السلطان قابوس فبراير ٢٠١٨، والثانية في عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق يونيو ٢٠٢٢، الذي راح يواصل مسيرة جلالة السلطان قابوس بكل قوةً واقتدار.
بحكم تجربتي الشخصية خلال عملي بجامعة السلطان قابوس منذ بدايتها، لم أشعر أنا وغيري من الزملاء أننا غرباء، فقد غمرنا العمانيون بكل المحبة والوفاء، واعترف بأن السنوات التي أمضيتها في هذا البلد العريق ستظل من أجمل فترات حياتي – عاشت العلاقات المصرية العمانية نموذجًا للعلاقات العربية العربية.