(1)
عشتُ (لا أزال أعيش، إن كان في وسعي وصف الأمر الحَرِجِ والمعقَّد بهذه الكلمات التقريريَّة البسيطة)، لغاية الآن، اثنتي عشرة سنة بالتمام والكمال بعد وفاة الوغد الكبير أحمد راشد ثاني.
وفي هذا ما يجعلني أضحك، ويُفتَرَضُ أن يجعل أحمد يشعر بتأنيب الضمير (على الأقل، من الناحية المبدئيَّة فقط).
(2)
عن الانتحار، بضع تأملات:
أ. إذا ما أنت تحدثت عن الانتحار أكثر مما ينبغي (كمن يرسل نداءات استغاثة مُبطَّنة، ومثل من يلجأ إلى الفكرة في العجز عن تنفيذها من باب الاستدرار والابتزاز العاطفيين الرخيصين) فهذا يعني أنك ميت منذ زمن لا بأس به. ولذلك فلا داعي لانتحارك. من الأفضل لك أن تستمر في الأكل والشرب، والذهاب إلى دورة المياه كلما تطلَّب الأمر، وذلك كما يفعل بقية الأموات.
ب. الانتحار (بالتعريف العام وحسب القواميس والمعاجم) هو أن ينهي المرء حياته بنفسه، بخياره ومطلق إرادته. لكن هناك مشكلة: إذا لم تكن كل حياتك وتجاربك نشاطا انتحاريَّا عامدا متعمِّدا منذ البداية فليس هناك ما يستأهل موتك في اللحظة التتويجيَّة. الانتحار فعل جهد ومراكمة، وليس تعبير نَزَقٍ وبغتة. الانتحار زمن وليس ميقاتا.
ج. لا تتحدث أبدا عن الانتحار مع مخالطيك من كل أمشاج البشر (على انتحارك ألا يفسد سعادة، أو تفاهة، أو حزن، أو لامبالاة أي أحد).
د. الانتحار، في نهاية المطاف، حالة نبيلة وفيزيقيَّة (ولَكَ أن تأسف أو لا تأسف على حياة نبيلة وفيزيقية، أيضا).
هـ. على الانتحار أن يتخلص من متلازمة الاكتئاب كي يصبح انتحارا. على الانتحار أن يكون سعيدا، لكن من دون رَمْنَسَةٍ زائدة.
"لقد كان الصمت سعيدا" (روبير بريسون، "ملاحظات في السينماتوغرافيا").
و. الانتحار جلمود يتعلق بشيء يسميه البشر: "الذاكرة". عليك من ذاكرتك وحدك فقط، وسيأبه (أو لا يهتم) الآخرون بذكرياتهم.
ز. الانتحار ليس قياسا للشجاعة، بل مقياس للقناعة.
ح. لك هذه الحكاية التي قرأتَها في صباك: كان أحدهم يسبح في البحر وأراد أن يأتي بدعابة استغفاليَّة وعمليَّة من العيار الثقيل، فتظاهر أنه يغرق وأرسل نداءات استغاثة. هرع إليه مرتادو الشاطئ و"أنقذوه" بينما كان هو يضحك عليهم في داخله.
أعجبته الفكرة في اليوم التالي، فادعى أنه موشك على الغرق وأرسل نداء استغاثة أيضا، وأيضا سبح إليه مرتادو الشاطئ و"أنقذوه".
في اليوم الثالث كان صاحبنا على وشك الغرق أيضا، لكن بصورة حقيقية هذه المرة، وليس ادعائيَّة كما حدث في المرتين السابقتين، حيث هاجت الأمواج فجأة؛ فأرسل إشارة الاستغاثة؛ ولكن لم يذهب لنجدته أحد لأن الجميع اعتقدوا أنه إنما يفتعل الأمر كما حدث في المرتين السابقتين. وهكذا غرق صاحبنا أمام أنظار الجميع.
في اليوم الرابع لم يكن هناك بحر ولا شاطئ (وهذه هي إضافتك الوحيدة للقصَّة).
(3)
حكى لي صديقٌ شاعرٌ فلسطينيٌّ كبير (ليس محمود درويش، بالمناسبة؛ وبالمناسبة أيضا، لو كان محمود درويش لما كان لهذه الواقعة أن تحدث من الأساس) أنه تلقى دعوة رسميَّة من مؤسَّسة ثقافيَّة عربيَّة مرموقة للمشاركة في أمسية شعريَّة. صديقي الشاعر هذا (فيما يشبه التكرار) فلسطيني من القدس ويحمل جواز سفر صادر من إحدى الدول العربية على إثر كارثة 1967.
ولدى وصوله إلى المطار، في عاصمة البلاد "المستضيفة" حيث الكَرَم والجود العربيان الأصيلان، أخذ موظف الأمن يرمقه شزرا بكل الشكوك التي تراود موظف أمن يرى كائنا قادما من المرِّيخ، أو من عاصمة بلاد الأعداء، ويتفحص جواز سفره (مع وجود إشارة تدل على أن حامل جواز السفر هذا فلسطيني وليس من "الأبناء الأصليين" لذلك القُطر العربي) قبل أن يقول له عبارة علينا أن نتأملها جيدا: "نحن لدينا تعليمات بإرجاع الإخوة الفلسطينيين إلى حيث أتوا. لكن فيما يخص حضرتك فإنني سأسأل رئيسي وأعود لك".
عبارة "الإخوة الفلسطينيين" هي الزائدة، والنَّشاز الوحيد، وعهر اللغة، والشيء الطبيعي الوحيد في المشهد كلِّه.
(4)
خنجر الوَبَر والمغناطيس الذي يدمي الفؤاد (كما في حالة الصبيَّة في فيلم "الأرض الصفراء" لتشن كايغ).
ذلك، في الأقل، من باب أن الحزب الشيوعي الصيني يريد (نبيلا، وصادقا) إنقاذ الجميع؛ لكنه، في نهاية المطاف (وفي هذا الفيلم على الأقل)، يخفق حتى في محاولة إنقاذ نفسه.
السينما، مثل بقية الآداب والفنون (وربما أكثر منها ولو قليلا) شاهد موثوق على كل شيء (أقصد: الأشياء التي ينهِكُ البعض عيونهم كي لا يروها).
(5)
حين يتصور أنه يمكن له أن يكون نافعا في الحضارة، والوجود، ومسيرة الرُّقي البشري نحو الأمام، ونضج علوم كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، يأتيه الرد الحازم الجازم فورا: لكننا لم نكن نتكلم عنك أصلا.
(6)
لا أريد أن أضحك في حضورك. لن أميع ووجدي شديد في جلالك.
(7)
ليست مقولة "الكثرة تغلب الشجاعة" صائبة في كل الحروب. فلننظر إلى العبرة في ما يتحقَّق بعد تحقيق الانتصارات (أو إنجاز الهزائم).
(8)
احضنيني في آخر العزاء
أنا هواء، وأنت هواء.
(9)
في الأفلام الروائيَّة القصيرة والطويلة (وخاصة العربيَّة منها)، ومهما كان حجم الحقائب كبيرا، فإنها تبدو خفيفة مثل كذبة عابرة من أجل ضرورات التصوير حين تنقلها الشخصيات من القرى والمدن إلى المطار.
في الحياة "الحقيقيَّة"، في المطارات، تبدو الحقائب الكبيرة والثقيلة ملأى كثيرا بآخر الاحتضانات.
ليس هناك حل وسط في أي شيء، وكل شيء، وسوف يمضي العمر في الحقائب.
(10)
المسألة ليست مسألة "حياة" أو مسألة "موت".
هذا أمر سيصبح هامشيا جدا ولا معنى له تقريبا إن أنت استطعت أن تدرك وتفعل ما الذي عليك أن تفعل في الحياة، وما الذي عليك أن تنجز في الموت.
"أن نكون أو لا نكون، هذا ليست قضيَّة" (جان-لوك غودار في سخرية من شكسبير).
(11)
يهمُّني كل شيء، ولست معنيَّا بأحد.
عشتُ (لا أزال أعيش، إن كان في وسعي وصف الأمر الحَرِجِ والمعقَّد بهذه الكلمات التقريريَّة البسيطة)، لغاية الآن، اثنتي عشرة سنة بالتمام والكمال بعد وفاة الوغد الكبير أحمد راشد ثاني.
وفي هذا ما يجعلني أضحك، ويُفتَرَضُ أن يجعل أحمد يشعر بتأنيب الضمير (على الأقل، من الناحية المبدئيَّة فقط).
(2)
عن الانتحار، بضع تأملات:
أ. إذا ما أنت تحدثت عن الانتحار أكثر مما ينبغي (كمن يرسل نداءات استغاثة مُبطَّنة، ومثل من يلجأ إلى الفكرة في العجز عن تنفيذها من باب الاستدرار والابتزاز العاطفيين الرخيصين) فهذا يعني أنك ميت منذ زمن لا بأس به. ولذلك فلا داعي لانتحارك. من الأفضل لك أن تستمر في الأكل والشرب، والذهاب إلى دورة المياه كلما تطلَّب الأمر، وذلك كما يفعل بقية الأموات.
ب. الانتحار (بالتعريف العام وحسب القواميس والمعاجم) هو أن ينهي المرء حياته بنفسه، بخياره ومطلق إرادته. لكن هناك مشكلة: إذا لم تكن كل حياتك وتجاربك نشاطا انتحاريَّا عامدا متعمِّدا منذ البداية فليس هناك ما يستأهل موتك في اللحظة التتويجيَّة. الانتحار فعل جهد ومراكمة، وليس تعبير نَزَقٍ وبغتة. الانتحار زمن وليس ميقاتا.
ج. لا تتحدث أبدا عن الانتحار مع مخالطيك من كل أمشاج البشر (على انتحارك ألا يفسد سعادة، أو تفاهة، أو حزن، أو لامبالاة أي أحد).
د. الانتحار، في نهاية المطاف، حالة نبيلة وفيزيقيَّة (ولَكَ أن تأسف أو لا تأسف على حياة نبيلة وفيزيقية، أيضا).
هـ. على الانتحار أن يتخلص من متلازمة الاكتئاب كي يصبح انتحارا. على الانتحار أن يكون سعيدا، لكن من دون رَمْنَسَةٍ زائدة.
"لقد كان الصمت سعيدا" (روبير بريسون، "ملاحظات في السينماتوغرافيا").
و. الانتحار جلمود يتعلق بشيء يسميه البشر: "الذاكرة". عليك من ذاكرتك وحدك فقط، وسيأبه (أو لا يهتم) الآخرون بذكرياتهم.
ز. الانتحار ليس قياسا للشجاعة، بل مقياس للقناعة.
ح. لك هذه الحكاية التي قرأتَها في صباك: كان أحدهم يسبح في البحر وأراد أن يأتي بدعابة استغفاليَّة وعمليَّة من العيار الثقيل، فتظاهر أنه يغرق وأرسل نداءات استغاثة. هرع إليه مرتادو الشاطئ و"أنقذوه" بينما كان هو يضحك عليهم في داخله.
أعجبته الفكرة في اليوم التالي، فادعى أنه موشك على الغرق وأرسل نداء استغاثة أيضا، وأيضا سبح إليه مرتادو الشاطئ و"أنقذوه".
في اليوم الثالث كان صاحبنا على وشك الغرق أيضا، لكن بصورة حقيقية هذه المرة، وليس ادعائيَّة كما حدث في المرتين السابقتين، حيث هاجت الأمواج فجأة؛ فأرسل إشارة الاستغاثة؛ ولكن لم يذهب لنجدته أحد لأن الجميع اعتقدوا أنه إنما يفتعل الأمر كما حدث في المرتين السابقتين. وهكذا غرق صاحبنا أمام أنظار الجميع.
في اليوم الرابع لم يكن هناك بحر ولا شاطئ (وهذه هي إضافتك الوحيدة للقصَّة).
(3)
حكى لي صديقٌ شاعرٌ فلسطينيٌّ كبير (ليس محمود درويش، بالمناسبة؛ وبالمناسبة أيضا، لو كان محمود درويش لما كان لهذه الواقعة أن تحدث من الأساس) أنه تلقى دعوة رسميَّة من مؤسَّسة ثقافيَّة عربيَّة مرموقة للمشاركة في أمسية شعريَّة. صديقي الشاعر هذا (فيما يشبه التكرار) فلسطيني من القدس ويحمل جواز سفر صادر من إحدى الدول العربية على إثر كارثة 1967.
ولدى وصوله إلى المطار، في عاصمة البلاد "المستضيفة" حيث الكَرَم والجود العربيان الأصيلان، أخذ موظف الأمن يرمقه شزرا بكل الشكوك التي تراود موظف أمن يرى كائنا قادما من المرِّيخ، أو من عاصمة بلاد الأعداء، ويتفحص جواز سفره (مع وجود إشارة تدل على أن حامل جواز السفر هذا فلسطيني وليس من "الأبناء الأصليين" لذلك القُطر العربي) قبل أن يقول له عبارة علينا أن نتأملها جيدا: "نحن لدينا تعليمات بإرجاع الإخوة الفلسطينيين إلى حيث أتوا. لكن فيما يخص حضرتك فإنني سأسأل رئيسي وأعود لك".
عبارة "الإخوة الفلسطينيين" هي الزائدة، والنَّشاز الوحيد، وعهر اللغة، والشيء الطبيعي الوحيد في المشهد كلِّه.
(4)
خنجر الوَبَر والمغناطيس الذي يدمي الفؤاد (كما في حالة الصبيَّة في فيلم "الأرض الصفراء" لتشن كايغ).
ذلك، في الأقل، من باب أن الحزب الشيوعي الصيني يريد (نبيلا، وصادقا) إنقاذ الجميع؛ لكنه، في نهاية المطاف (وفي هذا الفيلم على الأقل)، يخفق حتى في محاولة إنقاذ نفسه.
السينما، مثل بقية الآداب والفنون (وربما أكثر منها ولو قليلا) شاهد موثوق على كل شيء (أقصد: الأشياء التي ينهِكُ البعض عيونهم كي لا يروها).
(5)
حين يتصور أنه يمكن له أن يكون نافعا في الحضارة، والوجود، ومسيرة الرُّقي البشري نحو الأمام، ونضج علوم كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، يأتيه الرد الحازم الجازم فورا: لكننا لم نكن نتكلم عنك أصلا.
(6)
لا أريد أن أضحك في حضورك. لن أميع ووجدي شديد في جلالك.
(7)
ليست مقولة "الكثرة تغلب الشجاعة" صائبة في كل الحروب. فلننظر إلى العبرة في ما يتحقَّق بعد تحقيق الانتصارات (أو إنجاز الهزائم).
(8)
احضنيني في آخر العزاء
أنا هواء، وأنت هواء.
(9)
في الأفلام الروائيَّة القصيرة والطويلة (وخاصة العربيَّة منها)، ومهما كان حجم الحقائب كبيرا، فإنها تبدو خفيفة مثل كذبة عابرة من أجل ضرورات التصوير حين تنقلها الشخصيات من القرى والمدن إلى المطار.
في الحياة "الحقيقيَّة"، في المطارات، تبدو الحقائب الكبيرة والثقيلة ملأى كثيرا بآخر الاحتضانات.
ليس هناك حل وسط في أي شيء، وكل شيء، وسوف يمضي العمر في الحقائب.
(10)
المسألة ليست مسألة "حياة" أو مسألة "موت".
هذا أمر سيصبح هامشيا جدا ولا معنى له تقريبا إن أنت استطعت أن تدرك وتفعل ما الذي عليك أن تفعل في الحياة، وما الذي عليك أن تنجز في الموت.
"أن نكون أو لا نكون، هذا ليست قضيَّة" (جان-لوك غودار في سخرية من شكسبير).
(11)
يهمُّني كل شيء، ولست معنيَّا بأحد.