كنت في زمن سابق معجبا بمصلح "الديموقراطية" وأنظر بعين الإكبار إلى بعض الدول التي يشتمل اسمها الرسمي على كلمة ديموقراطية، ومنها مثلا جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، جمهورية ألمانيا الديموقراطية، جمهورية سريلانكا الديموقراطية الاشتراكية. ثم تبين لي في مرحلة تالية أن كلمة "ديموقراطية" مصطلح أو كلمة ملتبسة، "كلٌ يدّعي وصلاً بها". فجمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية مثلا تدعي حاليا أنها اسم على مسمى، تماما كما تزعم فرنسا وأمريكا والسويد مثلا أن النظم الديموقراطية القائمة فيها، بما فيها من أحزاب وانتخابات وحرية تعبير ونبذ للقيم الأخلاقية والدينية، هي النظُم المثلى للحكم في العالم. وإذا كانت العدالة هي غاية كل حكم ومقصد كل شريعة أو قانون، فإن الأحداث التي يمر بها العالم منذ عدة عقود أظهرت أن بلدان وشعوبا كثيرة قد أصبحت فريسة لقوى ديموقراطية عالمية كبرى لا تقيم في علاقاتها الدولية أي اعتبار للعدالة. بل إن الشعوب داخل بعض الدول الديموقراطية أضحت هي الأخرى ضحية جماعات الضغط والمصالح التي سخّرت النظم والقوانين فيها، بطرق ديموقراطية، لخدمة مصالح بعض الفئات على حساب مصالح الغالبية العظمى من شعوبها، فاتسعت دائرة الفقر والتهميش وارتفعت معدلات الجريمة وتهالكت المرافق والبنى الأساسية، لا سيما في المدن والمراكز الحضرية الكبرى. وقد كشف وباء كورونا، لا سيما في أشهره الأولى، جانبا من عورات النظم الديموقراطية في عدد من البلدان الغربية الرأسمالية. لقد عجز كثير من تلك البلدان عن تقديم وسائل مكافحة الوقاية من انتشار الوباء وعن توفير أسرّة كافية في المستشفيات لاستقبال المصابين، فاستنجد بعضها بجمهورية الصين الشعبية لتزويدهم بتلك الوسائل وبإقامة مستشفيات ميدانية لاستقبال المرضى. غير أن مناقشة مدى نجاح أنظمة الحكم الديمقراطية في تحقيق الرخاء والعدالة، لاسيما العدالة الاجتماعية لشعوبها، هو خارج نطاق هذا المقال، وإنما هي إشارة أو خاطرة خطرت وأردنا إثارتها هنا، لعلها تجد لها صدى بين أهل الرأي والفكر لدراستها والبحث فيها.

وفي الجانب الموازي للأنظمة أو الدول الديموقراطية، هناك دول توصف في الغرب بأنها دول محكومة بأنظمة استبدادية أو غير ديموقراطية، لكن على المستوى الخارجي استطاعت إقامة علاقات شراكة واسعة مع عدد كبير من الدول، بما في ذلك دول تعتبر من خصومها ومنافسيها. وقد أقيمت تلك العلاقات على أساس من تبادل المنافع والمصالح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وبدلا عن فرض الإملاءات والشروط على الدول الأخرى لتقديم تنازلات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، أو الضغط عليها لتغيير قيمها الاجتماعية والدينية، قدمت تلك الدول لشركائها الدعم والمساعدات من أجل التنمية، ولإحلال الأمن والسلم في محيطها وفي العالم. وعلى المستوى الداخلي استطاع عدد من الدول، التي يصفها الساسة والإعلام الغربي بأنها دول غير ديموقراطية، إخراج شعوبها من دائرة الفقر والتخلف وحققت انجازات اقتصادية وعلمية كبيرة، إلى درجة أن سياساتها وخططها التنموية أصبحت نموذجاً ومقياساً للنجاح.

العدالة والمصلحة من الأمور المرتبطة ببعضها ارتباطا قوياً، أي أنهما أمران متداخلان إلى درجة التماهي، وكانا ولا يزالان محل نقاش بين الفلاسفة وعلماء الكلام وفقهاء الشريعة والقانون، وأنا لا أناقشهما هنا من تلك الزوايا، وإنما أناقشهما من زاوية الاقتصاد السياسي، وبكثير من التبسيط. وليس الهدف هنا الخروج "بقول فصل" في الموضوع، فذلك من غير المقدور عليه لدي، وإنما هو طرح لتساؤلات هدفها تعميق البحث في موضوع الديموقراطية وأولويات الحكم. وحيث أن جوهر موضوع هذا المقال يتعلق بمفهوم "العدالة" ومفهوم "المصلحة" في العلاقات الدولية تحديدا، فلا بد من التعريف بالمفهومين، وذلك من منظورين أحدهما ديني إسلامي والآخر علماني غربي.

يعرف بعض الباحثين المعاصرين العدالة مع الغير وفي العلاقات الدولية من منظور إسلامي بأنها، إعطاء الحقوق لأصحابها دون تأثر بمشاعر حب لصديق أو مشاعر كره لعدو، ولا فرق في إعطاء الحقوق لأصحابها بين مسلم وغير مسلم. ويستند هذا التعريف على الآية الواردة في سورة المائدة من القرآن الكريم: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى"، وكذلك إلى ما جاء في سورة الحجرات من قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين". أما من المنظور العَلماني أو المنظور الغربي، فتعرف موسوعة أكسفورد العدالة في العلاقات الدولية على أنها المبادئ التي تحكم علاقات الدولة بالدول والشعوب الأخرى، وما يجب أن تقوم به الدولة تجاه تلك الدول والشعوب. وتشير الموسوعة إلى أن العدل في العلاقات الدولية كثيرا ما يكون موضوع خلاف بين الدول في مسائل مثل التجارة الدولية والتغير المناخي والاستعمار والحروب. ويكون الخلاف أكبر حول ما إذا كان على الدولة إعطاء وزن وأولوية لمصالحها الخاصة على حساب مصالح الدول والشعوب الأخرى. واضح من التعريفين أن العدل المنشود في المفهوم الإسلامي هو العدل المطلق، حيث أنه حتى وإن كان الطرف الآخر معتد، فلا يجوز ظلمه والحيف عليه، "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا". أما العدل كما جاء في موسوعة أكسفورد فهو انتقائي، أو أنه مقيّد بتحقيق الدولة لمصالحها التي قد يمنعها دستورها عن التنازل عن شيء منها. وفي كثير من الحالات تختلط مصلحة الدولة مع مصلحة الحزب أو الائتلاف الحاكم أو الفئات المتنفذة وجماعات الضغط.

أما المصلحة، والمقصود هنا المصلحة الوطنية national interest أو المصلحة العامة، فتعرف في المفهوم الإسلامي على أنها كل أمر فيه تحقيق لصلاح الأمة عامة، سواء بجلب نفع أو دفع فساد، دون تحيز للمصالح الفردية. وفي المقابل يعرف فيرنون دايك Vernon Van Dyke المصلحة الوطنية بأنها ما تسعى الدولة لتحقيقه أو حمايته في علاقاتها مع الدول الأخرى. ويعرفها هانس مورغينثاو Hans Morgenthau بأنها حماية الهوية الطبيعية والسياسية والثقافية للدولة من تعدي الدول الأخرى. وكثيرا ما تؤكد الأمم المتحدة، من خلال المنظمات والمؤسسات التابعة لها على مبادئ الديموقراطية. لكن الذي يبدو من كثير من التعريفات ومما في بيانات الأمم المتحدة أن الديموقراطية المقصودة هي الديموقراطية على المستوى الداخلي لكل دولة وليس في العلاقات بين الدول. فعلى سبيل المثال يعرض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الديموقراطية بالقول إن "إرادة الشعب هي أساس سلطة الحكومة". وفي الغالب يمارس الشعب إرادته من خلال مجالسه أو برلماناته المنتخبة، التي تضع مصلحة الدولة فوق مصالح الدول الأخرى. وإضافة إلى ذلك، فإنه كما أشرنا سابقا فإن المصالح الحزبية أو مصالح جماعات الضغط المسيطرة على البرلمان قد تتعارض مع مصالح الدولة ذاتها، فضلا عما قد يكون فيها من تعارض مع مصالح الدول الأخرى ومع متطلبات السلم العالمي.

إن غياب العدالة في العلاقات الدولية، وتدهر مستوى العدالة الاجتماعية، وتلاشي القيم الأخلاقية و الدينية، وكذلك اتساع دائرة الفقر وتركز الثروات في أيدي فئة صغيرة من الناس في أكثر الدول الموصوفة بالديموقراطية، يثير تساؤلات حول ما إذا كانت النظم الديموقراطية في شكلها الغربي هي النظم المثلى لحكم شؤون البشر والبيئة على الأرض، أم إنه على المفكرين والفلاسفة إعادة تعريف نظم الحكم الصالحة على أسس جديدة، أو على الأقل إعادة تعريف الديموقراطية لتعطي أهمية أكبر للعدالة، سواء في العلاقات الدولية أو على المستوى الداخلي للدول. وإذ أقف هنا، فإنه لا بد من التأكيد أن في بعض النظم الديموقراطية جوانب مضيئة، ومنها المساءلة والمحاسبة وحرية الرأي وتحفيز الابتكار والمبادرات، لذلك يجب ترسيخ تلك الجوانب وتسخيرها لخدمة العدالة بين البشر وفي البيئة.

• د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية