شاهدت منذ عدة أيام فيلما تسجيليا على قناة البي بي سي العربية استغرق ما يقرب من ساعة، وجاء الفيلم من حيث التصوير والإخراج على درجة عالية من الجودة، وخصوصًا حينما راحت الكاميرا تجوب المزارع والبحيرات والمياه الممتدة عبر الأفق البعيد في شرق أفريقيا، لكن موضوع الفيلم راح يحكي حياة الأفارقة في شرق أفريقيا من خلال ما سمي بتجارة الرقيق، وجاء الفيلم مخالفًا لكل الحقائق التاريخية، فقد حمَّل عرب عُمان مسئولية رواج تلك التجارة منذ فترة مبكرة من تاريخ أفريقيا.
أعتقد أن الفيلم قد أغفل حقائق تاريخية، ولم يعتمد على المصادر الأصيلة في هذا الموضوع، متخذا مما كتبه بعض المؤرخين الأوروبيين دليلًا على ما زعموه، فالقضية برمتها وقعت في سياق أزمان بعيدة، كان الأوروبيون أول من ابتكروا هذه التجارة، التي بدأت في غرب أفريقيا منذ بدايات القرن السادس عشر، وراجت عقب اكتشاف الأمريكتين، ثم جاء البزتغاليون إلى شرق أفريقيا مع بدايات القرن السادس عشر، وتبعهم الإنجليز والفرنسيون والهولنديون، وأصبحت تلك التجارة صناعة أوروبية خالصة، ولم يتعرض الفيلم لدور الأوروبيين الذين ابتكروا هذه التجارة، وخصوصا ما كان يصاحبها من إجراءات غير إنسانية، فقد راحوا ينقلون هؤلاء البؤساء إلى أوروبا وأمريكا ويكلفونهم بأعمال شاقة كشق الطرق وتشييد الجسور، وأعمال الزرعة وغيرها من الأعمال التي لم تحرك ضمائر الأوروبيين.
أما وأن الدراما الأوروبية والكتابات التاريخية قد حمَّلت العمانيين العرب كل المسئولية، لذا فالقضية قد تجاوزت الحقيقة، وخصوصًا وأن عرب عُمان قد وصلوا إلى شرق أفريقيا قبل أن يطأها الأوروبيون، وتزوجوا من الأفارقة واختلطت الدماء العربية بالدماء الأفريقية، وكانت هذه التجارة بمثا تجارة أفريقية وقعت في سياقات زمنية سحيقة، وفي ظروف إقتصادية واجتماعية كانت قاسية.
القراءة المنصفة لتاريخ شرق أفريقيا تسجل الطريقة الناعمة التي امتزجت فيها الثقافة العربية بالثقافة الأفريقية منذ عصر اليعاربة وصولًا إلى القرن التاسع عشر، وخصوصًا فترة حكم سعيد بن سلطان ( ١٨٠٦-١٨٥٦) ، الذي لم تكن دولته في شرق أفريقيا غزوا أو احتلالا، وإنما كانت وجودًا حضاريا وثقافيًا واقتصاديًا، انخرط فيه الأفارقة الذين شعروا لأول مرة بحياة اجتماعية مستقرة، فقد توقف الصراع بين القبائل، وانتشرت الزراعة والتجارة التي عادت بالخير على العرب والأفارقة معًا، وقد عرف الأفارقة حياة الاستقرار لأول مرة في حياتهم، فقد اتسم حكم السيد سعيد بن سلطان بالتسامح والعدل والازدهار الاقتصادي، دون محاباة لعرق أو دين أو مذهب ديني، بل راح ينشر الخير والمحبة وسط مجتمعات أرهقها الفقر والقتل والعبودية.
استطاع السيد سعيد بن سلطان أن يوحد الكيانات المتصارعة، من رأس جردفون شمالًا وحتى دلجادو جنوبًا، فقد نشطت تجارة القوافل في عمق القارة، وصولًا إلي مناطق بعيدة كتنچانقيا وڤيكتوريا، وصولًا إلى نهر الكونغو.
لقد استوعب الرجل تجربة وطنه في عمان، مصرًا على أن يقيم دولة جديدة قائمة على التسامح، حيث يتساوى الناس جميعًا عربا وأفارقة وهنودا وأوروبيين، بعد أن انخرط الأفارقة في هذا المشروع الحضاري الكبير، لدرجة إن أول قنصل بريطاني في زنجبار (همرنون) قد وصف حال العبيد ( ١٨٤٤ م ) بأنهم يأكلون من نفس طعام أسيادهم ولا تساء معاملتهم، ولم يسمع بأن عبدا قد أُهين من سيده، ولم يلاحظ فروقًا اجتماعية كبيرة بين العبيد والأسياد، والمدهش في الأمر أن فقهاء المذاهب الإسلامية قد التزموا بتعليمات حاكمهم، حيث مارس الجميع طقوس دياناتهم بكل حرية.
لقد زرع السيد سعيد بن سلطان ثقافة التسامح والعدل والمساواة، وعند وفاته ١٨٥٦م كان الأفارقة ينعمون بكل حريتهم، إلا إن ما أقدم عليه الأوروبيون بفصل زنجبار عن مسقط ١٨٦١ م، كان عملا مخالفا لكل الأعراف القانونية والإنسانية، وكانت فترة حكم السلطان برغش في زنجبار امتدادًا حضاريًا لعصر والده ونقلة مهمة في حياة الأفارقة، رغم التحديات الصعبة التي استهدفت السيطرة على القارة الأفريقية، إلا أن ما خلفه السيد سعيد بن سلطان من أعمال كبيرة أتاحت لرجل مثل حمد بن محمد المرجبي (١٨٤٠-١٩٠٥) م، أن يكون بمثابة نموذجًا لعصر من التسامح، فقد اتسع نشاطه الاقتصادي وذاعت شهرته بين القبائل الأفريقية، التي التفت حوله بعد أن تمكن من ضم المناطق الواقعة بين بحيرتي تنچانيقا و مروى ١٨٧٠م.
أدرك المستكشفون الأوروبيون من قبيل (ليفنجستون) و(ستانلي) خطورة شعبية المرجبي، لذا تدخلت السلطات البريطانية لدى السلطان برغش الذي استدعى المرجبي إلى زنجبار ١٨٨٢ ، وأسند إليه ولاية (طابورة)، واستطاع خلال ثلاث سنوات ١٨٨٣-١٨٨٦م، أن يؤكد نفوذ السلطنة العربية في وسط أفريقية، فقد شيد المدارس والمساجد والتكايا والأسبلة، وازدهرت اللغة العربية لدرجة أنها أصبحت لغة الأفارقة والعرب معا.
أعتقد أن السلطان برغش كان امتدادًا طبيعيًا لوالده سعيد بن سلطان، من حيث رؤيته ومشاعره الإنسانية تجاه الأفارقة الذين أحبوه بعد أن نشر فيما بينهم العدل والمساواة، وتبوأ الأفارقة مكانة مهمة في عهده، لكن كل هذا الجهد ما لبث أن تراجع حينما اعترفت الدول الاستعمارية بدولة الكونغو خلال انعقاد مؤتمر برلين ١٨٨٤-١٨٨٥م، إضافة إلى اتفاق بريطانيا وفرنسا وألمانيا على تقسيم سلطنة زنجبار في العام التالي ١٨٨٦، وإجبار السلطان برغش على التنازل عن المناطق الداخلية، والاكتفاء بنفوذ السلطنة على المناطق الواقعة على الساحل الشرقي من أفريقية من (لامو) شمالًا، وحتى (بنجاب) جنوبا، بعمق عدة أميال شملت بمبا وزنجبار وبعض الجزر الصغيرة.
هذا الفيلم الذي أشرت إليه في بداية المقال، جاء مخالفًا لكثير من الحقائق العلمية والتاريخية، وجاء بمثابة ظلم لعصر لم يشعر فيه الأفارقة بأي تجاوز من العرب، وخصوصًا بعد أن شهد شرق أفريقية ازدهارًا كبيرا في التجارة والزراعة والحياة الاجتماعية، وكان الوجود العربي بمثابة إشعاع حضاري، ولم تكن الكشوف الجغرافية التي قام بها الأوروبيون داخل القارة خلال القرن التاسع عشر إلا تسجيلًا وثائقيا لمناطق وشعوب سبق وأن وصل إليها العرب، الذين ساهموا في نموها وتطورها، ثم جاء الأوروبيون لكي يستلبوا ما أنجزه العرب ، بل وينعتوهم بأنهم تجار رقيق.
أعتقد أننا في حاجة إلى دراسات موثقة عن دور العمانيين في شرق أفريقيا، وتأثيرهم الحضاري ليس في شوق القارة فقط ولكن في عمقها أيضا، لكي نكشف عن الزيف الذي يقول به بعض المؤرخين الأوروبيين، وحتى نمحو ما علق بثقافة الكثيرين من صورة سلبية عن حياة العمانيين في أفريقية.
أعتقد أن الفيلم قد أغفل حقائق تاريخية، ولم يعتمد على المصادر الأصيلة في هذا الموضوع، متخذا مما كتبه بعض المؤرخين الأوروبيين دليلًا على ما زعموه، فالقضية برمتها وقعت في سياق أزمان بعيدة، كان الأوروبيون أول من ابتكروا هذه التجارة، التي بدأت في غرب أفريقيا منذ بدايات القرن السادس عشر، وراجت عقب اكتشاف الأمريكتين، ثم جاء البزتغاليون إلى شرق أفريقيا مع بدايات القرن السادس عشر، وتبعهم الإنجليز والفرنسيون والهولنديون، وأصبحت تلك التجارة صناعة أوروبية خالصة، ولم يتعرض الفيلم لدور الأوروبيين الذين ابتكروا هذه التجارة، وخصوصا ما كان يصاحبها من إجراءات غير إنسانية، فقد راحوا ينقلون هؤلاء البؤساء إلى أوروبا وأمريكا ويكلفونهم بأعمال شاقة كشق الطرق وتشييد الجسور، وأعمال الزرعة وغيرها من الأعمال التي لم تحرك ضمائر الأوروبيين.
أما وأن الدراما الأوروبية والكتابات التاريخية قد حمَّلت العمانيين العرب كل المسئولية، لذا فالقضية قد تجاوزت الحقيقة، وخصوصًا وأن عرب عُمان قد وصلوا إلى شرق أفريقيا قبل أن يطأها الأوروبيون، وتزوجوا من الأفارقة واختلطت الدماء العربية بالدماء الأفريقية، وكانت هذه التجارة بمثا تجارة أفريقية وقعت في سياقات زمنية سحيقة، وفي ظروف إقتصادية واجتماعية كانت قاسية.
القراءة المنصفة لتاريخ شرق أفريقيا تسجل الطريقة الناعمة التي امتزجت فيها الثقافة العربية بالثقافة الأفريقية منذ عصر اليعاربة وصولًا إلى القرن التاسع عشر، وخصوصًا فترة حكم سعيد بن سلطان ( ١٨٠٦-١٨٥٦) ، الذي لم تكن دولته في شرق أفريقيا غزوا أو احتلالا، وإنما كانت وجودًا حضاريا وثقافيًا واقتصاديًا، انخرط فيه الأفارقة الذين شعروا لأول مرة بحياة اجتماعية مستقرة، فقد توقف الصراع بين القبائل، وانتشرت الزراعة والتجارة التي عادت بالخير على العرب والأفارقة معًا، وقد عرف الأفارقة حياة الاستقرار لأول مرة في حياتهم، فقد اتسم حكم السيد سعيد بن سلطان بالتسامح والعدل والازدهار الاقتصادي، دون محاباة لعرق أو دين أو مذهب ديني، بل راح ينشر الخير والمحبة وسط مجتمعات أرهقها الفقر والقتل والعبودية.
استطاع السيد سعيد بن سلطان أن يوحد الكيانات المتصارعة، من رأس جردفون شمالًا وحتى دلجادو جنوبًا، فقد نشطت تجارة القوافل في عمق القارة، وصولًا إلي مناطق بعيدة كتنچانقيا وڤيكتوريا، وصولًا إلى نهر الكونغو.
لقد استوعب الرجل تجربة وطنه في عمان، مصرًا على أن يقيم دولة جديدة قائمة على التسامح، حيث يتساوى الناس جميعًا عربا وأفارقة وهنودا وأوروبيين، بعد أن انخرط الأفارقة في هذا المشروع الحضاري الكبير، لدرجة إن أول قنصل بريطاني في زنجبار (همرنون) قد وصف حال العبيد ( ١٨٤٤ م ) بأنهم يأكلون من نفس طعام أسيادهم ولا تساء معاملتهم، ولم يسمع بأن عبدا قد أُهين من سيده، ولم يلاحظ فروقًا اجتماعية كبيرة بين العبيد والأسياد، والمدهش في الأمر أن فقهاء المذاهب الإسلامية قد التزموا بتعليمات حاكمهم، حيث مارس الجميع طقوس دياناتهم بكل حرية.
لقد زرع السيد سعيد بن سلطان ثقافة التسامح والعدل والمساواة، وعند وفاته ١٨٥٦م كان الأفارقة ينعمون بكل حريتهم، إلا إن ما أقدم عليه الأوروبيون بفصل زنجبار عن مسقط ١٨٦١ م، كان عملا مخالفا لكل الأعراف القانونية والإنسانية، وكانت فترة حكم السلطان برغش في زنجبار امتدادًا حضاريًا لعصر والده ونقلة مهمة في حياة الأفارقة، رغم التحديات الصعبة التي استهدفت السيطرة على القارة الأفريقية، إلا أن ما خلفه السيد سعيد بن سلطان من أعمال كبيرة أتاحت لرجل مثل حمد بن محمد المرجبي (١٨٤٠-١٩٠٥) م، أن يكون بمثابة نموذجًا لعصر من التسامح، فقد اتسع نشاطه الاقتصادي وذاعت شهرته بين القبائل الأفريقية، التي التفت حوله بعد أن تمكن من ضم المناطق الواقعة بين بحيرتي تنچانيقا و مروى ١٨٧٠م.
أدرك المستكشفون الأوروبيون من قبيل (ليفنجستون) و(ستانلي) خطورة شعبية المرجبي، لذا تدخلت السلطات البريطانية لدى السلطان برغش الذي استدعى المرجبي إلى زنجبار ١٨٨٢ ، وأسند إليه ولاية (طابورة)، واستطاع خلال ثلاث سنوات ١٨٨٣-١٨٨٦م، أن يؤكد نفوذ السلطنة العربية في وسط أفريقية، فقد شيد المدارس والمساجد والتكايا والأسبلة، وازدهرت اللغة العربية لدرجة أنها أصبحت لغة الأفارقة والعرب معا.
أعتقد أن السلطان برغش كان امتدادًا طبيعيًا لوالده سعيد بن سلطان، من حيث رؤيته ومشاعره الإنسانية تجاه الأفارقة الذين أحبوه بعد أن نشر فيما بينهم العدل والمساواة، وتبوأ الأفارقة مكانة مهمة في عهده، لكن كل هذا الجهد ما لبث أن تراجع حينما اعترفت الدول الاستعمارية بدولة الكونغو خلال انعقاد مؤتمر برلين ١٨٨٤-١٨٨٥م، إضافة إلى اتفاق بريطانيا وفرنسا وألمانيا على تقسيم سلطنة زنجبار في العام التالي ١٨٨٦، وإجبار السلطان برغش على التنازل عن المناطق الداخلية، والاكتفاء بنفوذ السلطنة على المناطق الواقعة على الساحل الشرقي من أفريقية من (لامو) شمالًا، وحتى (بنجاب) جنوبا، بعمق عدة أميال شملت بمبا وزنجبار وبعض الجزر الصغيرة.
هذا الفيلم الذي أشرت إليه في بداية المقال، جاء مخالفًا لكثير من الحقائق العلمية والتاريخية، وجاء بمثابة ظلم لعصر لم يشعر فيه الأفارقة بأي تجاوز من العرب، وخصوصًا بعد أن شهد شرق أفريقية ازدهارًا كبيرا في التجارة والزراعة والحياة الاجتماعية، وكان الوجود العربي بمثابة إشعاع حضاري، ولم تكن الكشوف الجغرافية التي قام بها الأوروبيون داخل القارة خلال القرن التاسع عشر إلا تسجيلًا وثائقيا لمناطق وشعوب سبق وأن وصل إليها العرب، الذين ساهموا في نموها وتطورها، ثم جاء الأوروبيون لكي يستلبوا ما أنجزه العرب ، بل وينعتوهم بأنهم تجار رقيق.
أعتقد أننا في حاجة إلى دراسات موثقة عن دور العمانيين في شرق أفريقيا، وتأثيرهم الحضاري ليس في شوق القارة فقط ولكن في عمقها أيضا، لكي نكشف عن الزيف الذي يقول به بعض المؤرخين الأوروبيين، وحتى نمحو ما علق بثقافة الكثيرين من صورة سلبية عن حياة العمانيين في أفريقية.