"مدرسة جديدة في النقد الأدبي، وِفق فلسلفة انطباعية منبثقة من فكر الكاتب: حمود بن سالم السيابي"

يُقرأ الكتاب فيتشكّل لدى القارئ رأي انطباعي، ينغرس في ذهنه على نحو تلقائي، وما بين الرأي القائل بأن "الانطباع الأول هو الانطباع الأخير"، وما بين المقولة المتداولة: "اللي ما يعرفك يجهلك" -أقصد بذلك النص المقروء طبعا- تتباين توجهات القراء، والذين هم نقّادٌ بالفطرة، وإن كانوا بلا اختصاص وطريقة في مجال النقد الأدبي، لتأتي طريقة الأستاذ الكاتب "حمود بن سالم السيابي" لتعبّر عن كونها قراءة نقدية بطريقة انطباعية، وبرؤية جديدة في النقد الأدبي، وفي سياق جديد كليا يستبدل الانطباعات المنبثقة من قراءة النص الأدبي، بتلك الفرضيات والجدليّات النقدية القائمة، والمتعارف عليها وفق مقاييس مُقَوْلبة، والتي تعمل على تجزئة النص الأدبي، وحيث إن لا وجود للجزء بلا كل ينتمي إليه ويحتويه، فإن تلك القراءات تعمل على خلخلة النص فيفقد النص جوهريته، كما أن تذوق النص وِفق قواعد ثابتة؛ يُفقد لذّة التذوق الحقيقية التي تعطيك الإشباع الحقيقي من القراءة والامتلاء.

ولأن المدارس الأدبية تنقل تلك الاعتبارات النقدية موضع جدّية، مما يكفل للنص إعطاءه أحقيته في معرفة أماكن تموضع الجوانب الفنية، والمعاني الإيحائية والدلائل اللفظية، وما تحويها من رمز ومدلول.

إلا أن تلك المناهج ما هي سوى مدارس وتوجهات سائدة، آن الأوان لأن تنبثق من العقول النيّرة طرائق جديدة، جديرة بأن يُتبع طريقتها في القراءة النقدية لما يقرأون، ولأنه كما يقال "الانطباع الأول هو الانطباع الأخير" فإن الرأي الانطباعي الذي يسير بالتوازي، ويتشكّل ذهنيا طوال رحلتك مع صفحات الكتاب، تعبّر عن رأي يعتد به ولا يمكن تجاوزه، وأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأجده مدرسة نقدية جديدة آن لنا أن نُفسح لها الطريق، وذلك وفق رأي انطباعي غير خاضع لقوانين ومبادئ النقد الأدبي، الذي لا يتقنه سوى المختصين، الذين إن تحدثوا فإنهم يحملون من المصطلحات العسيرة، ما قد يُعيق فهمك للنص، ويجزئه على نحو يُفقده جماليته التي تتجلّى في كليته، وباصطلاحات لا تزيدك سوى قفلة فكرية، فنكون بحاجة إلى ترجمان مساعد، يفك شيفرة تلك المصطلحات النقدية، بدلا من تركيزك على المعنى النقدي الجوهري للنص، باعتباره نقدا ذات أنماط كلاسيكية، في حين بات الزمان بحاجة إلى اتجاه فني جديد، يلامس ذلك الفن الأدبي الذي يشابه زمانه.

فالنقد الأدبي بطابعه النمطي الكلاسيكي يستهلّ بداياته بسياق معكوس، ينافس النص الأدبي الأصلي، يستوحي من المصطلحات النقدية وضعا سلطويا على النص الأدبي، فيذوي من حوله الفن الأدبي في إيقاع تنازلي، فيبدو أقل شأنا أمام القواعد النقدية، فالأسلوب النقدي القديم يولّد صراعا ما بين العقل والقلب، في حين أن النص بحاجة إلى قارئ لا ينتظر كعكة المعنى جاهزة ومحلاّة، بل إنه وعبر تلاحم المعاني في السطور يقوم بإعدادها بنفسه.

ليقرأ لنا الكاتب "حمود بن سالم السيابي" على نحو انطباعي، فنقرأه نحن كمدرسة أدبية جديدة في النقد الأدبي، وليكون من ذلك النقد أدبًا آخر، يستلزم قراءته وتدارسه ليكون منهجية نسير عليها، وجدير بأن توضع موضع دراسة وتمحيص، فهي لا يمكن تجاوزها أبدًا، في زمن بتنا فيه بحاجة أكثر إلحاحًا، لإيجاد كل ما يجعل الفن الأدبي في سياق التطور المتنامي، والتسارع الفكري الكبير، والذي طال القوانين الكونية أيضا، فباتت حركة توسع الكون في ازدياد ملحوظ حسب الدراسات الأخيرة، وعبر إشارات نسترشد من خلالها المستقبل، حتى أصبحت تنبؤاتنا وتوقعاتنا قريبة جدا، والمستقبل بات وشيكا، والماضي قريب جدا، في ضوء المعطيات المتسارعة لعالم اليوم، ليأتي الانطباع كتوجه فلسفي يبتعد عن العبثية النمطية ويُفسح الطريق لرأي حر لا يحدّه سقف ما، بل إنه يقترب من المطلق لنكون بذلك حقا نمتلك حتميا زمام آرائنا وفق إرادة حرة، ليكون رأيك من خلال القراءة هجينا ما بين رأي الكاتب وتوجهات القارئ الشخصية.

وكما جاء في الأدبيات الكلاسيكية من كتاب أليس في بلاد العجائب سؤال أليس: "كم من الوقت تدوم الأبدية؟" فيجيبها الأرنب الأبيض: "في بعض الأحيان، ثانية واحدة"، أو كما عبّر عن سرعة الزمن وفي سياق آخر غروشكو ماركس: "الوقت يطير مثل السهم"، وحيث إن نقد النقد يُبنى عليه فكر جديد، فالقراءة النقدية الانطباعية حين تتنامى في سِجال أدبي فإنها تحقق المستوى الذي تتمكن فيه من خلق فكر جديد متنام، فما العلوم من حولنا سوى افتراضات قائمة مستندة فوق بعضها البعض، لتكوِّن كل ما حولك من علوم، فما هي إلا سِجال متواصل ما بين النقد ونقد النقد.

فالقراءة الانطباعية باختصار هي قراءتك للآخر، والتي يكون لها شأن عظيم في تشكل رأيك الحقيقي بعيدا عن القواعد النقدية الأخرى، فذلك النص الأدبي الذي تقلّب صفحاته بين يديك أكثر من مجرد قراءتك، كما أن انطباعك وقراءتك أكثر من ذلك النص، بحيث تكون خلفيتك ومعارفك المرجعية المسبقة على المحك، فالقارئ موجود بشكل أو بآخر في ذلك النص الأدبي، سواء كان ذلك منذ تصوّر الكاتب له، وهو يكتب لذلك القارئ متخيلا له، أم المعارف المسبقة والخبرات التي يمتلكها القارئ، فتشارك في صياغة تصوّره ورأيه الانطباعي للكتاب.

فتأتي القراءة الانطباعية لتحرر رأيك من سلطة النقد وقوانينه، لتولّد لديك علاقة حميمية مع النص، فهي غير مشروطة ولا تنقاد لذلك الوعي الجمعي فيكون لرأيك الخاص السيادة، ويمكن اعتبارها كذلك امتدادا للنص الأدبي، فنصل بذلك وعبر القراءة الانطباعية إلى نقطة بعيدة للنقد الذي يؤدي إلى خلق معرفي جديد، فعلى القارئ أن يتراجع قليلا أثناء قراءته للنص الأدبي، فيعطي النص فرصته التي يستحقها، فرصة لأن يقرئك، وعبر الانطباع تكون لك فرصتك أنت كقارئ للتماهي مع النص، ليكون هناك نصك كقارئ والنص الآخر للكاتب، وأن تبني ذلك الحوار بينك وبين الآخر، ولأن الانطباع يأتي قاصرا دون قاعدة معرفية ورؤية قبلية مسبقة، وآراء مبدئية تشكلت سابقا، فمصداقية قراءتك الانطباعية تسير اطرادا مع مدى معرفتك القبلية لما تقرأ، فالقراءة النقدية تركز على انعكاس النص عليك.

فتأتي القراءة الانطباعية بفن نقدي جديد، يخلق من النص نصا ويجعل له امتدادا منبعه القارئ، والذي لا يكتمل النص الأدبي بدونه، فتكون هناك نسخ عديدة للنص بعدد قراءه، الذين تشكلت لديهم الانطباعات الحقيقية، والتي غالبا ما تكون هي الحصيلة النهائية، وبعد أن تنزل المعلومات والمعارف المكتسبة من برج الذاكرة العاجي مع مرور الوقت، وتبدأ بالتلاشي رويدا من حاضنات الذاكرة في الدماغ، إلا أن ذلك الانطباع ببصمته الحقيقية هو الذي تشقّ طريقه بثبات نحو الخلود.

فمصطلحات النقد الأدبية الثرية المليئة بالتجريد للحدث الدرامي، وبتفصيل وتجزئة المجازات التصويرية والرمزيات الدلالية، وتعقّب الجناس اللفظي، والبحث عبر عدسة مكبرة للإشارات والإيماءات التي تلمّح للمعنى وعمق الفكرة وجوهرها من زاوية تسقط القواعد النقدية ما بين السطور، إلى أن يضيع المعنى الفنّي والجوهري للنص الأدبي، معتبرة تلك المعايير النقدية أنموذجا للمحاججة بمدى رجاحة النص، وقوة حجة ترابطاته وعلى نحو تبريري، لا يسير بالضرورة ضد النص لكن ينحاز إلى القوالب النقدية، متجاهلا للمذهب الأدبي الذي يقول "الفن للفن"، فيصمّ أذنيه عن الموشّح الغنائي للنص الأدبي، وبفنيته المتفردة التي لا تقبل التجزئة، ويفتح أعينه على قواعد نقدية باتت طاعنة في السنّ، فيتتبع الناقد من النص تلك القافية التي اعتاد عليها، وأي خروج عنها يعدّها نشازا، ومحاولة هزلية لإثبات قيمة النص الأدبية دون إعطاء النص الحقل الدلالي والسيميائي المتفرّد الخاص به، والذي قد يكون ملحمة متفرّدة لا تشابه غيرها.

فما هو الانطباع بمعناه العميق؟ هو رأيك المستقل قبل أن يتأثّر بإقناع من النصّ المقروء وكاتبه، ودون أن يتكئ على نمطيات وقواعد النقد الأدبي، وهو الأثر الذي يتركه في نفسك، والقيمة التي لا تنساها حتى وإن تلاشت كل المعلومات المكتسبة من النص الأدبي، الانطباع هو ما يندمج معك اندماجا أدبيا، ببصمة يصعب تحررك منها، وهو النقلة والخطوة التي تدفعك إلى الأمام، وعلى نحو لا يقبل التراجع، وبما أن الانطباع هو جوهر الرأي وحقيقته بما يكتنفه من خصوصية وصدق، فهو الألزم علينا لما يجب نقل أثره للآخر، فما القراءات والكتب والأدب بصنوفه في الأخير سوى ما ترك من انطباع وأثر، وعندما تنقل هذا الانطباع للآخرين فإنك تختصر تلك المسافة التي يقطعها القارئ ما بين صفحات الكتاب واستخلاص مادته وجوهره الحقيقي، فنقل الأثر مع تناميه وتكراره فإنه يكون مسايرا للمنظومة الحياتية المتسارعة، وما يستلزمه من حاجة ملحّة إلى التسارع المعرفي، وتقنيات توازي المسير بخطوات إيقاعية، تختزل الزمن والجهد ليكون لعصرنا معانيه الخاصة لذلك الزمن والجهد.

الكاتب "حمود بن سالم السيابي" يستدعي من خلال قراءته لرواية حوراء نزوى.. وغيرها من الروايات مجموعة من الانطباعات، لتسير بالتوازي مع معلومات النص، يمتزج حنينه مع عاطفة النص، لولادة جديدة لشعور آخر يتبدّى مع فصول الكتاب، يبثّ أمنياته وتوقعاته، والتي إن خذلته تحولت إلى توصيات، وأمنيات مؤجلة لأعمال قادمة، لتكون بذلك طريقته مدرسة لنقد أدبي برؤية انطباعية، حيث إنه لا يبقى من قراءتنا على مرّ الزمان سوى الانطباع، لذا دعونا ننتهج من مدرسته، ونقرأ على نحو انطباعي ناقد.