بدأت الفتوحات الإسلامية خارج الجزيرة العربية في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم اتسعت بعد ذلك في عهد بني أمية، حتى صارت الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي تشمل منطقة شاسعة تمتد من حدود الصين شرقا إلى سواحل المحيط الأطلسي غربا. ومع التوسع في الفتوحات، انتشر العرب في مناطق واسعة من العالم، حاملين معهم العقيدة الإسلامية واللغة العربية، بصفتها لغة القرآن الكريم. وقد استقر بعض العرب في مناطق انتشار الإسلام وتزاوجوا مع شعوبها خلال فترة قصيرة من الزمن، ليشكلوا معا مَعين الحضارة الإسلامية ولتكون لغات شعوب تلك المنطقة ظهيرا للغة العربية.
كانت منطقة آسيا الوسطى، التي أطلق العرب على جزء منها اسم بلاد ما وراء النهر وتشمل حاليا أوزبكستان والجزء الغربي من كازاخستان والجزء الجنوبي من قرغيزستان، من أهم المناطق التي تشكلت فيها الحضارة العربية الإسلامية. وشاركت شعوب منطقة آسيا الوسطى مع غيرها من الشعوب المسلمة الأخرى في صياغة تلك الحضارة بكل عناصرها الثقافية والعلمية والمعمارية والفنية. وقد خرج من تلك المنطقة علماء عظام، ما زال الحاضر كما الماضي يشهد بإنجازاتهم العظيمة وما قدموه للحضارة الإنسانية من علوم ومعارف. ونخص هنا بالذكر بعضا من علماء منطقة آسيا الوسطى دون غيرهم من علماء الحضارة العربية الإسلامية، لكون تلك المنطقة هي موضوع هذا المقال. ففي مجالات الكيمياء والطب والصيدلة والرياضيات والفلك، من أولئك العلماء على سبيل المثال، أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني وأبو علي الحسين بن عبدالله ابن سيناء ومحمد بن موسى الخوارزمي وأبو معشر جعفر بن محمد البلخي. وفي مجال علوم الدين، كان من أشهرهم محمد بن إسماعيل البخاري ومحمد بن عيسى الترمذي وأبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري. وفي مجال الفلسفة، اشتهر منهم أبو نصر محمد بن أحمد الفارابي وأبو حامد محمد بن أحمد الغزالي وأثير الدين المفضل بن عمر الأبهري. وفي اللغة والأدب نذكر أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري وأبو بكر محمد بن علي القفال الشاشي. هذا إلى جانب علماء اشتهروا في مجالات أخرى مثل الهندسة المعمارية والموسيقى والنحت، إلى غير ذلك من علوم وفنون. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن أولئك العلماء كانوا من العلماء الموسوعيين، أي أنهم بحثوا وبرعوا في أكثر من مجال وتخصص. ومن المفيد التذكير كذلك أن كثيرا من كتب السيَر والمدونات تشير إلى أن معظم هؤلاء العلماء إما أنهم من أصول عربية استقر أسلافهم في تلك المنطقة أو أنهم من شعوب التُرك أو من الفُرس.
إن أعظم أثر تركه العرب في منطقة آسيا الوسطى، بعد نشر الدين الإسلامي، هو نشر اللغة العربية بين سكانها الذين هم شعوب لهم عدة لغات أو لهجات، مثل الأزبك والتركمان والكزخ والطاجيك والقرغيز. ويبدو أثر اللغة العربية جليا في لغات تلك الشعوب، سواء كان ذلك في الاستخدام المباشر لها في كتابة العلوم والأدب والمراسلات الرسمية في فترة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، أو من خلال استخدام الحروف العربية في كتابة اللغات المحلية في فترات لاحقة، أو في الكلمات العربية التي أصبحت حاليا جزءا من مفردات تلك اللغات. ومع أنه تم إيقاف استخدام الحروف العربية منذ أن وقعت إمارات آسيا الوسطى تحت سيطرة روسيا القيصرية ومن بعدها الاتحاد السوفييتي، إلا أن كلمات ومصطلحات عربية كثيرة لا تزال مستخدمة هناك. ولا يقتصر استخدام المفردات العربية اليوم على أسماء الأشخاص أو في المصطلحات الدينة وتأدية العبادات وحسب، بل إن كثيرا من تلك المفردات والكلمات لا تزال شائعة في كل لغات شعوب تلك المنطقة. ففي المجال الاجتماعي مثلا، توجد كلمات مثل شرق، غرب، «شمول»، جنوب، طب، معرفة، مكتب، وكثير غيرها، وتُكتب بحروف اللغات السلافية أو بالحروف اللاتينية في أكثر لغات المنطقة. ومثلها أيضا المصطلحات السياسية مثل دولة، ولاية، مركز، وزير، حاكم. الملاحظ أن المفردات والكلمات العربية التي دخلت إلى لغات شعوب آسيا الوسطى هي مفردات وكلمات عربية أصيلة، وربما سيساعد البحث في مدلولاتها واستعمالاتها في تلك اللغات على ترجمة أو تعريب بعض المصطلحات الأجنبية الجديدة التي لم يستطع المترجمون حاليا إيجاد مقابل لها في اللغة العربية. ونظرا لكثرة الكلمات والمفردات العربية في لغات شعوب آسيا الوسطى فإن من يزور تلك المنطقة اليوم منا نحن العرب ربما لن يشعر كما شعر أبو الطيب المتنبي حين زار إحدى مناطق بلاد فارس قبل حوالي ألف عام، فوجد نفسه غريبا فيها، رغم إعجابه بحسن وجمال طبيعة المكان، وقال حينها:
مغاني الشِعب طِيبا في المعاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
بل إن الأقرب أن يشعر الزائر العربي لبلاد آسيا الوسطى بأنه بين أقوام تربطه بهم وشائج حضارة عظيمة، بما فيها من ثقافة وعلوم وفنون.
ولما كانت علاقات الشعوب العربية مع شعوب آسيا الوسطى علاقات لها جذورها في العقيدة الدينية وفي الحضارة المشتركة، بما في ذلك المفردات اللغوية المشتركة، فإنه يجدر بالدول العربية ودول آسيا الوسطى العمل على تقوية التواصل فيما بينها. وعلى الدول العربية أن تبادر إلى ذلك، وعدم ترك تلك المنطقة مرتعا للصهاينة يعملون فيها على تقطيع أواصر الأخوة بين شعوبها وبين الشعوب العربية، كما حدث في دول جنوب القوقاز التي كان لها أيضا دور بارز في الحضارة العربية الإسلامية، وكما حدث مع دول شرق أوروبا التي ارتدت منذ تسعينات القرن الماضي في اتجاه معاكس لما كانت عليه علاقاتها مع العالم العربي. ويمكن أن تتم تقوية العلاقات بين الدول العربية ودول آسيا الوسطى بعدة وسائل وفي عدة مجالات، لاسيما في المجالين الاقتصادي والثقافي. ففي المجال الاقتصادي يتمتع كثير من الدول في الجانبين بموارد اقتصادية وقدرات بشرية كبيرة، يمكن الاستفادة منها من خلال التوسع في الاستثمارات المتبادلة وزيادة التبادل التجاري بين الجانبين. وعلى صناديق التنمية وصناديق الاستثمار السيادية والخاصة أن تقوم بدور فاعل في ذلك. وفي المجال العلمي والثقافي يجب على الجامعات ومؤسسات البحث العلمي في الجانبين أن تعمل على توثيق العلاقات فيما بينها من خلال إجراء البحوث والدراسات المشتركة وتبادل البعثات الدراسية، لاسيما في مجال تعلم اللغة العربية وتعلم لغات بلدان آسيا الوسطى، وكذلك إقامة المعارض والمناشط الثقافية. هذا إلى جانب التعاون بين القطاع الخاص والجمعيات المهنية والأهلية في الجانبين من أجل زيادة تبادل المعارف والمهارات.
خلاصة القول، إن الشعوب العربية ترتبط بعلاقات تاريخية عميقة مع شعوب آسيا الوسطى، وعلى الدول العربية أن تعمل، سواء منفردة أو مجتمعة، على إحياء وتوسيع تلك العلاقات، لاسيما في المجالين الاقتصادي والثقافي، وأعتقد أن لهذين المجالين أهمية متساوية، والتعاون فيهما يحقق مصالح مشتركة ومنافع متبادلة للطرفين. المعلوم أن دول آسيا الوسطى أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ساحة خلفية أو أمامية لروسيا وتركيا والصين وكذلك أمريكا، كما أن بين بعض تلك البلدان مشاكل حدودية تؤدي أحيانا إلى اشتباكات مسلحة. لكن ذلك كله يجب ألا يمنع الدول العربية من تطوير علاقات واسعة معها، ليس من أجل منافسة أي طرف من الأطراف المذكورة و لا للانحياز إلى أي منها، بل لإحياء صِلات قديمة ولتبادل المنافع والمصالح و للمساعدة في نشر الأمن والسلم في العالم. وتلك هي الرسالة التي يجب أن يحملها العرب إلى كافة الأمم، والقاعدة التي يبنون عليها علاقاتهم الدولية، من أجل أن يكونوا قطبا مؤثرا في النظام العالمي متعدد الأقطاب الذي يتشكل حاليا.
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية
كانت منطقة آسيا الوسطى، التي أطلق العرب على جزء منها اسم بلاد ما وراء النهر وتشمل حاليا أوزبكستان والجزء الغربي من كازاخستان والجزء الجنوبي من قرغيزستان، من أهم المناطق التي تشكلت فيها الحضارة العربية الإسلامية. وشاركت شعوب منطقة آسيا الوسطى مع غيرها من الشعوب المسلمة الأخرى في صياغة تلك الحضارة بكل عناصرها الثقافية والعلمية والمعمارية والفنية. وقد خرج من تلك المنطقة علماء عظام، ما زال الحاضر كما الماضي يشهد بإنجازاتهم العظيمة وما قدموه للحضارة الإنسانية من علوم ومعارف. ونخص هنا بالذكر بعضا من علماء منطقة آسيا الوسطى دون غيرهم من علماء الحضارة العربية الإسلامية، لكون تلك المنطقة هي موضوع هذا المقال. ففي مجالات الكيمياء والطب والصيدلة والرياضيات والفلك، من أولئك العلماء على سبيل المثال، أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني وأبو علي الحسين بن عبدالله ابن سيناء ومحمد بن موسى الخوارزمي وأبو معشر جعفر بن محمد البلخي. وفي مجال علوم الدين، كان من أشهرهم محمد بن إسماعيل البخاري ومحمد بن عيسى الترمذي وأبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري. وفي مجال الفلسفة، اشتهر منهم أبو نصر محمد بن أحمد الفارابي وأبو حامد محمد بن أحمد الغزالي وأثير الدين المفضل بن عمر الأبهري. وفي اللغة والأدب نذكر أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري وأبو بكر محمد بن علي القفال الشاشي. هذا إلى جانب علماء اشتهروا في مجالات أخرى مثل الهندسة المعمارية والموسيقى والنحت، إلى غير ذلك من علوم وفنون. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن أولئك العلماء كانوا من العلماء الموسوعيين، أي أنهم بحثوا وبرعوا في أكثر من مجال وتخصص. ومن المفيد التذكير كذلك أن كثيرا من كتب السيَر والمدونات تشير إلى أن معظم هؤلاء العلماء إما أنهم من أصول عربية استقر أسلافهم في تلك المنطقة أو أنهم من شعوب التُرك أو من الفُرس.
إن أعظم أثر تركه العرب في منطقة آسيا الوسطى، بعد نشر الدين الإسلامي، هو نشر اللغة العربية بين سكانها الذين هم شعوب لهم عدة لغات أو لهجات، مثل الأزبك والتركمان والكزخ والطاجيك والقرغيز. ويبدو أثر اللغة العربية جليا في لغات تلك الشعوب، سواء كان ذلك في الاستخدام المباشر لها في كتابة العلوم والأدب والمراسلات الرسمية في فترة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، أو من خلال استخدام الحروف العربية في كتابة اللغات المحلية في فترات لاحقة، أو في الكلمات العربية التي أصبحت حاليا جزءا من مفردات تلك اللغات. ومع أنه تم إيقاف استخدام الحروف العربية منذ أن وقعت إمارات آسيا الوسطى تحت سيطرة روسيا القيصرية ومن بعدها الاتحاد السوفييتي، إلا أن كلمات ومصطلحات عربية كثيرة لا تزال مستخدمة هناك. ولا يقتصر استخدام المفردات العربية اليوم على أسماء الأشخاص أو في المصطلحات الدينة وتأدية العبادات وحسب، بل إن كثيرا من تلك المفردات والكلمات لا تزال شائعة في كل لغات شعوب تلك المنطقة. ففي المجال الاجتماعي مثلا، توجد كلمات مثل شرق، غرب، «شمول»، جنوب، طب، معرفة، مكتب، وكثير غيرها، وتُكتب بحروف اللغات السلافية أو بالحروف اللاتينية في أكثر لغات المنطقة. ومثلها أيضا المصطلحات السياسية مثل دولة، ولاية، مركز، وزير، حاكم. الملاحظ أن المفردات والكلمات العربية التي دخلت إلى لغات شعوب آسيا الوسطى هي مفردات وكلمات عربية أصيلة، وربما سيساعد البحث في مدلولاتها واستعمالاتها في تلك اللغات على ترجمة أو تعريب بعض المصطلحات الأجنبية الجديدة التي لم يستطع المترجمون حاليا إيجاد مقابل لها في اللغة العربية. ونظرا لكثرة الكلمات والمفردات العربية في لغات شعوب آسيا الوسطى فإن من يزور تلك المنطقة اليوم منا نحن العرب ربما لن يشعر كما شعر أبو الطيب المتنبي حين زار إحدى مناطق بلاد فارس قبل حوالي ألف عام، فوجد نفسه غريبا فيها، رغم إعجابه بحسن وجمال طبيعة المكان، وقال حينها:
مغاني الشِعب طِيبا في المعاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
بل إن الأقرب أن يشعر الزائر العربي لبلاد آسيا الوسطى بأنه بين أقوام تربطه بهم وشائج حضارة عظيمة، بما فيها من ثقافة وعلوم وفنون.
ولما كانت علاقات الشعوب العربية مع شعوب آسيا الوسطى علاقات لها جذورها في العقيدة الدينية وفي الحضارة المشتركة، بما في ذلك المفردات اللغوية المشتركة، فإنه يجدر بالدول العربية ودول آسيا الوسطى العمل على تقوية التواصل فيما بينها. وعلى الدول العربية أن تبادر إلى ذلك، وعدم ترك تلك المنطقة مرتعا للصهاينة يعملون فيها على تقطيع أواصر الأخوة بين شعوبها وبين الشعوب العربية، كما حدث في دول جنوب القوقاز التي كان لها أيضا دور بارز في الحضارة العربية الإسلامية، وكما حدث مع دول شرق أوروبا التي ارتدت منذ تسعينات القرن الماضي في اتجاه معاكس لما كانت عليه علاقاتها مع العالم العربي. ويمكن أن تتم تقوية العلاقات بين الدول العربية ودول آسيا الوسطى بعدة وسائل وفي عدة مجالات، لاسيما في المجالين الاقتصادي والثقافي. ففي المجال الاقتصادي يتمتع كثير من الدول في الجانبين بموارد اقتصادية وقدرات بشرية كبيرة، يمكن الاستفادة منها من خلال التوسع في الاستثمارات المتبادلة وزيادة التبادل التجاري بين الجانبين. وعلى صناديق التنمية وصناديق الاستثمار السيادية والخاصة أن تقوم بدور فاعل في ذلك. وفي المجال العلمي والثقافي يجب على الجامعات ومؤسسات البحث العلمي في الجانبين أن تعمل على توثيق العلاقات فيما بينها من خلال إجراء البحوث والدراسات المشتركة وتبادل البعثات الدراسية، لاسيما في مجال تعلم اللغة العربية وتعلم لغات بلدان آسيا الوسطى، وكذلك إقامة المعارض والمناشط الثقافية. هذا إلى جانب التعاون بين القطاع الخاص والجمعيات المهنية والأهلية في الجانبين من أجل زيادة تبادل المعارف والمهارات.
خلاصة القول، إن الشعوب العربية ترتبط بعلاقات تاريخية عميقة مع شعوب آسيا الوسطى، وعلى الدول العربية أن تعمل، سواء منفردة أو مجتمعة، على إحياء وتوسيع تلك العلاقات، لاسيما في المجالين الاقتصادي والثقافي، وأعتقد أن لهذين المجالين أهمية متساوية، والتعاون فيهما يحقق مصالح مشتركة ومنافع متبادلة للطرفين. المعلوم أن دول آسيا الوسطى أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ساحة خلفية أو أمامية لروسيا وتركيا والصين وكذلك أمريكا، كما أن بين بعض تلك البلدان مشاكل حدودية تؤدي أحيانا إلى اشتباكات مسلحة. لكن ذلك كله يجب ألا يمنع الدول العربية من تطوير علاقات واسعة معها، ليس من أجل منافسة أي طرف من الأطراف المذكورة و لا للانحياز إلى أي منها، بل لإحياء صِلات قديمة ولتبادل المنافع والمصالح و للمساعدة في نشر الأمن والسلم في العالم. وتلك هي الرسالة التي يجب أن يحملها العرب إلى كافة الأمم، والقاعدة التي يبنون عليها علاقاتهم الدولية، من أجل أن يكونوا قطبا مؤثرا في النظام العالمي متعدد الأقطاب الذي يتشكل حاليا.
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية