كان ينبغي أن يكون مقال اليوم استكمالا لسلسلة البطاريق الكبار، ولكن شيئا ما يدفعني للكتابة عن مشاهد وذكريات ظلت محفورة بشيء من اللهيب المتقد والحنين المنحوت بسريالية الوقت والمكان، كنت في المدرسة حينها، حين طلب مني أبي أن أذهب إلى الغصيبة (مزرعتنا) لسقي النخيل والأشجار، وكان نصيبنا من الفلج يومها ثلاث ساعات، وقفت أمام مكتبة المنزل العتيقة، متأملا تلك الكتب التي تشيبه الأساطير العملاقة أو التماثيل الحجرية المنحوتة في عصر ذهبي لأمة خلت، كنا نخشى تلك الكتب لقدمها وملمسها الخشن من توالي السنين والأيدي عليها، فنظل نتحسس غلافها الخارجي ونخشى فتحها، للهالة المحيطة بها ولعمرها الطويل خشية تمزقها. أخذت كتابا في التاريخ للشيخ سالم بن حمد الحارثي، لم أكن أقرأ هذا النوع من الكتب حينها لحداثة سني ولاعتقادنا بأنها كتب للكبار فقط. ذهبت للغصيبة، وكلما فتحت الصُّوار (كتلة مكومة من الملابس الممزقة أو بقايا الفرش القديمة أو الأحجار، وتوضع في الفتحة التي تمنع دخول الماء للمربعات المقسّمة للمزرعة، ويتم فتحها بقدر ما يمتلئ المربع ثم يُعاد إغلاقها ويحوّل الماء لمربع آخر، وكل مربع من هذه المربعات يُسمى جَلبة، والفواصل الطينية بينها تسمى دك) أخذت الكتاب وقرأت منه، وأتركه لبرهة ريثما أحوّل الماء لجلبة أخرى، هكذا انقضت ثلاث ساعات بدون أن أشعر!. عدت إلى البيت وأكملت قراءة الكتاب، كان أسلوب الشيخ الحارثي في ذلك الكتاب يشبه الفيلم السينمائي، فتقرأ عن تلاحم الجيشين وتأتيك أصوات الخيل الهائجة وتسمع تلاطم الأسنّة والسيوف الهادرة فيضطرم شيء بداخلك وكأنه جينات الأسلاف المقاتلين تسُنُّ النصال تأهبا للمعركة. كانت تلك الشرارة الأولى للانتقال إلى مستوى آخر من القراءة، فقبل ذلك قرأت البخلاء للجاحظ وبعض كتب العقاد، ولم أفهمها جيدا في تلك السن المبكرة، وحيث إن القراءة وقتها تشبه الصعود إلى جبل وعر سامق، كنت أتهيب الكتب الضخمة، وأشعر بأن مؤلفيها لم يكونوا بشرا عاديين، بل كائنات أسطورية خالدة.
لا تقرأ، يقول لك الكبار. لا تشتغل بشيء غير الدراسة، بمعنى أصح، لا تشتغل بشيء سوى تحصيل الدرجات العالية في المواد الدراسية، ولا يهم كيف تنال تلك الدرجات. مثلت لي القراءة ملجأ ومهربا واكتشافا لعوالم أخرى، يمكن لكتاب ما أن يجعلك تلتقي بالمؤلف في أحلامك وتحاوره، وليس لذلك سبب سوى إعجابك الشديد بالكتاب وسلاسة أسلوبه وأفكاره، رأيت العقاد في منامي مرتين حينما قرأت العبقريات وسير حياته التي كتبها هو نفسه.
مشهد آخر، صرت في الكلية. لم أكن أحمل رخصة القيادة حينها، ولم تكن المنحة الدراسية كافية لتغطية نفقات العيش في مسقط، لكن ولحسن الحظ -كما ظننت للوهلة الأولى- كان ابن عمي يعمل في شركة قريبة من الكلية، فاستأذنته بأن أذهب وأعود معه كل يوم. في الأسبوع الأول من الذهاب والعودة اليومية، اكتشفت المعنى الحقيقي للضجر الحاد، كنت أنتظر ابن عمي لخمس ساعات كاملة، وأحيانا لسبع ساعات ونصف، حيث إن بعض المحاضرات تنتهي في العاشرة صباحا، وينتهي عمله في الخامسة والنصف عصرا، ما الحل؟!. كنت أذهب للمكتبة وأذاكر حتى أمل من المذاكرة، أفعل كل شيء، ولكن الساعات لا تمر. خطرت لي لحظات سقي الفلج وتلك البهجة المندفعة والاكتشاف اللذيذ للقراءة. أمسكت كتابا لمؤلف عماني، وبدأت القراءة. هأنا أعود لذلك العالم الساحر مرة أخرى!، من حينها لم أتوقف عن القراءة، ذلك الفعل الإبداعي وكأنك أصبحت الخزّاف الذي يشكل تحفته، تحفتك تصير عقلك وشخصيتك.
لا تقرأ، يقول لك الكبار. لا تشتغل بشيء غير الدراسة، بمعنى أصح، لا تشتغل بشيء سوى تحصيل الدرجات العالية في المواد الدراسية، ولا يهم كيف تنال تلك الدرجات. مثلت لي القراءة ملجأ ومهربا واكتشافا لعوالم أخرى، يمكن لكتاب ما أن يجعلك تلتقي بالمؤلف في أحلامك وتحاوره، وليس لذلك سبب سوى إعجابك الشديد بالكتاب وسلاسة أسلوبه وأفكاره، رأيت العقاد في منامي مرتين حينما قرأت العبقريات وسير حياته التي كتبها هو نفسه.
مشهد آخر، صرت في الكلية. لم أكن أحمل رخصة القيادة حينها، ولم تكن المنحة الدراسية كافية لتغطية نفقات العيش في مسقط، لكن ولحسن الحظ -كما ظننت للوهلة الأولى- كان ابن عمي يعمل في شركة قريبة من الكلية، فاستأذنته بأن أذهب وأعود معه كل يوم. في الأسبوع الأول من الذهاب والعودة اليومية، اكتشفت المعنى الحقيقي للضجر الحاد، كنت أنتظر ابن عمي لخمس ساعات كاملة، وأحيانا لسبع ساعات ونصف، حيث إن بعض المحاضرات تنتهي في العاشرة صباحا، وينتهي عمله في الخامسة والنصف عصرا، ما الحل؟!. كنت أذهب للمكتبة وأذاكر حتى أمل من المذاكرة، أفعل كل شيء، ولكن الساعات لا تمر. خطرت لي لحظات سقي الفلج وتلك البهجة المندفعة والاكتشاف اللذيذ للقراءة. أمسكت كتابا لمؤلف عماني، وبدأت القراءة. هأنا أعود لذلك العالم الساحر مرة أخرى!، من حينها لم أتوقف عن القراءة، ذلك الفعل الإبداعي وكأنك أصبحت الخزّاف الذي يشكل تحفته، تحفتك تصير عقلك وشخصيتك.