ورد في بعض وسائل التواصل الاجتماعي قبل أيام خبر عن البدء في إقامة نصب تذكاري في مدينة صلالة، تخليدا للبحار الصيني المسلم، شينغ خه، الذي كان يسميه الصينيون باللغة العربية، حجي محمود شمس الدين، وزار عمان في القرن الخامس عشر الميلادي، وذلك خلال فترة حكم أسرة مينغ في الصين. من المؤكد أن «خه» أو «حجي محمود» لم يأتِ إلى عمان غازيًا ليقتل ويهلك الحرث والنسل، كما فعل من بعده؛ فاسكو دي غاما وإلفونسو بوكيرك، ولكنه جاء للتجارة وتبادل المنافع مع العمانيين.
الخبر عن النصب التذكاري لحجي محمود ليس موضوع هذا المقال، ولكنه خبرٌ شدني لأكتب عن «مكتبة البيروني» الواقعة في مدينة طشقند، عاصمة جمهورية أزبكستان حيث أنا حاليًا، وذلك لما للموضوعين من علاقة بدور عمان التاريخي ورسالتها إلى العالم عبر الأزمان. كما هو الحال في المساجد والمدارس والمراكز الصحية والكراسي العلمية التي أنشأتها وتمولها وترعاها عمان في عدد من المدن والجامعات حول العالم، تحمل «مكتبة البيروني» في طشقند عنوانَ رسالة عمانية حضارية. وإذا شئنا الحديث عن تلك الرسالة، فيمكن القول إنها رسالة بالمعنى المجازي توجهها عمان إلى العالم، ومضمونها في كل العصور والأزمان هو الدعوة إلى التعارف بين الشعوب وإلى التعاون مع كل الخيّرين من الناس وتبادل المصالح والتشارك في المنافع بين الدول والأمم، وذلك من أجل أن يسود السلام والأمان كافة بقاع الدنيا.
المؤسسة المعروفة لدينا هنا في عمان باسم «مكتبة البيروني» في طشقند، هي في الحقيقة والواقع أكثر من مجرد مكتبة. هي معهد عريق، تأسس في عام 1967 حينما كانت أزبكستان لا تزال إحدى الدول أو الإمارات التي يتشكل منها الاتحاد السوفييتي، ومن قبله روسيا القيصرية. والمعهد المذكور هو منذ بدايته أحد أجهزة الأكاديمية الأزبكستانية للعلوم، ذات الشأن العالي والسمعة العلمية الواسعة. ينسب معهد البيروني إلى الفيلسوف والعالم الموسوعي، أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني، المولود في مدينة خوارزم الواقعة حاليا في جمهورية أزبكستان، وذلك في القرن الرابع الهجري، أي العاشر الميلادي. نبغ البيروني في علوم الفلك والصيدلة والجغرافيا والفلسفة، وعاش متنقلا بين بلاد آسيا الوسطى وأفغانستان وإيران والهند. وله من الكتب والبحوث ما لا يتسع هذا المقال لسرد عددها، فضلا عن الدخول في فهارسها وتفاصيل محتوياتها.
ومنذ تأسيسه ضمن الأكاديمية الأزبكستانية للعلوم في عام 1967، اختص معهد البيروني ببحوث ودراسات الحضارة الإسلامية في منطقة آسيا الوسطى، وكان مقره في مبنى يقع إلى جانب المبنى الحالي. أما المقر الحالي للمعهد فقد تم تشييده، كما هو معروف، بدعم ورعاية من سلطنة عمان، وتم افتتاحه في 15 مارس 2018 بحضور جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حيث ألقى جلالته كلمة بتلك المناسبة. وبإعادة قراءة الكلمة التي ألقاها جلالته، نجد أنها تضمنت جانبًا من الرسالة العمانية التي ما فتئت عمان تقدمها للعالم. حيث قال حفظه الله: «إن افتتاح مشروع مكتبة البيروني بدعم من جلالة السلطان - قابوس - يتجاوز في فكرته موضوع العلاقات بين دولتين إلى كونه دعمًا للعلم وللمعرفة الإنسانية التي تخدم الجميع، وتعبيرا عن أهمية التراث الإسلامي في صناعة الحضارة الإنسانية».
رتب لنا سعادة السفير أحمد بن سعيد الكثيري سفير سلطنة عمان لدى جمهورية أزبكستان، زيارة إلى معهد البيروني، حيث التقينا هناك بنائب رئيس الأكاديمية الأزبكستانية للعلوم ومدير المعهد، البروفسور بهرام عبدالحميدوف ومعه بعض مساعديه. وخلال جولة في المبنى قدم البروفيسور بهرام نبذة عن نشأة المعهد وعن أنشطته ومجالات عمله وأقسامه. وقال إن المعهد يركز نشاطه على بحوث الحضارة الإسلامية في منطقة آسيا الوسطى، ويعدّ من أهم المؤسسات البحثية في مجاله. لذلك يؤمه الباحثون من مختلف دول العالم، مستفيدين من مكتبته المخصصة، التي تضم مائة ألف مخطوطة وكتاب. كما يوجد بالمعهد مركز لترميم المخطوطات والكتب القديمة، ويتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم (اليونيسكو) في إصدار بعض كتب التراث الإسلامي، سواء من بين تلك التي تحتويها مكتبة المعهد من مخطوطات وكتب قديمة أو من غيرها. كذلك يضم مبنى المعهد عدة قاعات وردهات تزينها رسومات وصور لأشهر العلماء المسلمين الذين ولدوا أو نشأوا في جغرافيا جمهورية أزبكستان الحالية. ومن بين القاعات التي يضمها المبنى، قاعة محاضرات تسمى «قاعة عمان»، وهي تتسع لعدد لا بأس به من الحضور. ومن الواضح أن القاعة سميت قاعة عمان لتكون رمزا للتقدير والاحترام الذي تكنه جمهورية أزبكستان لسلطنة عمان.
قلنا في مقدمة هذا المقال أن لعمان رسالة حضارية ثابتة على مر العصور والأزمان. وفي السنوات الأخيرة برزت لتلك الرسالة عناوين في عدد من بلاد العالم وبين الأمم والشعوب. ومع أن مبنى معهد البيروني هو العنوان الأبرز الملموس لتلك الرسالة في أزبكستان، إلا أن الشكر والعرفان الذي أبداه نائب مدير أكاديمية العلوم في أزبكستان ومدير المعهد، الدكتور بهرام عبدالحميدوف لعمان وللسلطان قابوس رحمه الله، ولجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله، كان هو الأثر الأهم لها في نفوس الناس في هذه البلاد. لقد وصلت رسالة عمان الحضارية، وكان عنوانها بارزا هنا في القلب الجغرافي لقارة آسيا، بعيدا عن الموانئ وطرق الملاحة وعن شبكات القطارات والطرق الدولية. ومن الواضح أن تلك الرسالة قد وصلت إلى شغاف قلوب العارفين والمشتغلين بدراسات وبحوث الحضارة الإسلامية والإنسانية في أزبكستان وخارجها. وبالإضافة إلى التعبير والامتنان لعمان، الذي أبداه مدير المعهد، كانت البصمة العمانية بارزة أيضا من الناحية الحسية في عدة أشياء في مبنى المعهد، ومنها على سبيل المثال الرخام العماني المستخدم في الأرضيات، والنقوش ذات الطابع العماني على الأبواب والشرفات.
إن بلوغ الرسالة العمانية إلى ذلك المستوى السياسي والثقافي العالي، في بلد كانت له إسهامات كبيرة في الحضارة الإسلامية، على يد علماء، مثل الخوارزمي والبيروني وغيرهما، لهو دليل ساطع على أنها رسالة لها معناها الكبير وصداها الواسع في العالم، وتلك لعمري مكانة تليق بعمان وسمعتها في الماضي والحاضر. ومن أجل أن تبقى تلك المكانة والسمعة متألقة، لا بد لعمان من الاستمرار في السير الحثيث لنشر رسالتها المعهودة، والعمل على أن تجد طريقها إلى العقول والقلوب في شتى بقاع الأرض، وذلك من خلال مشاريع مثل معهد البيروني في أزبكستان أو مركز مسقط الصحي في فلسطين أو الكراسي العلمية في عدد من أهم جامعات العالم، وأن يكون مضمون الرسالة كما كان دائما نشر الخير والسلام بين الناس كافة.
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية
الخبر عن النصب التذكاري لحجي محمود ليس موضوع هذا المقال، ولكنه خبرٌ شدني لأكتب عن «مكتبة البيروني» الواقعة في مدينة طشقند، عاصمة جمهورية أزبكستان حيث أنا حاليًا، وذلك لما للموضوعين من علاقة بدور عمان التاريخي ورسالتها إلى العالم عبر الأزمان. كما هو الحال في المساجد والمدارس والمراكز الصحية والكراسي العلمية التي أنشأتها وتمولها وترعاها عمان في عدد من المدن والجامعات حول العالم، تحمل «مكتبة البيروني» في طشقند عنوانَ رسالة عمانية حضارية. وإذا شئنا الحديث عن تلك الرسالة، فيمكن القول إنها رسالة بالمعنى المجازي توجهها عمان إلى العالم، ومضمونها في كل العصور والأزمان هو الدعوة إلى التعارف بين الشعوب وإلى التعاون مع كل الخيّرين من الناس وتبادل المصالح والتشارك في المنافع بين الدول والأمم، وذلك من أجل أن يسود السلام والأمان كافة بقاع الدنيا.
المؤسسة المعروفة لدينا هنا في عمان باسم «مكتبة البيروني» في طشقند، هي في الحقيقة والواقع أكثر من مجرد مكتبة. هي معهد عريق، تأسس في عام 1967 حينما كانت أزبكستان لا تزال إحدى الدول أو الإمارات التي يتشكل منها الاتحاد السوفييتي، ومن قبله روسيا القيصرية. والمعهد المذكور هو منذ بدايته أحد أجهزة الأكاديمية الأزبكستانية للعلوم، ذات الشأن العالي والسمعة العلمية الواسعة. ينسب معهد البيروني إلى الفيلسوف والعالم الموسوعي، أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني، المولود في مدينة خوارزم الواقعة حاليا في جمهورية أزبكستان، وذلك في القرن الرابع الهجري، أي العاشر الميلادي. نبغ البيروني في علوم الفلك والصيدلة والجغرافيا والفلسفة، وعاش متنقلا بين بلاد آسيا الوسطى وأفغانستان وإيران والهند. وله من الكتب والبحوث ما لا يتسع هذا المقال لسرد عددها، فضلا عن الدخول في فهارسها وتفاصيل محتوياتها.
ومنذ تأسيسه ضمن الأكاديمية الأزبكستانية للعلوم في عام 1967، اختص معهد البيروني ببحوث ودراسات الحضارة الإسلامية في منطقة آسيا الوسطى، وكان مقره في مبنى يقع إلى جانب المبنى الحالي. أما المقر الحالي للمعهد فقد تم تشييده، كما هو معروف، بدعم ورعاية من سلطنة عمان، وتم افتتاحه في 15 مارس 2018 بحضور جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حيث ألقى جلالته كلمة بتلك المناسبة. وبإعادة قراءة الكلمة التي ألقاها جلالته، نجد أنها تضمنت جانبًا من الرسالة العمانية التي ما فتئت عمان تقدمها للعالم. حيث قال حفظه الله: «إن افتتاح مشروع مكتبة البيروني بدعم من جلالة السلطان - قابوس - يتجاوز في فكرته موضوع العلاقات بين دولتين إلى كونه دعمًا للعلم وللمعرفة الإنسانية التي تخدم الجميع، وتعبيرا عن أهمية التراث الإسلامي في صناعة الحضارة الإنسانية».
رتب لنا سعادة السفير أحمد بن سعيد الكثيري سفير سلطنة عمان لدى جمهورية أزبكستان، زيارة إلى معهد البيروني، حيث التقينا هناك بنائب رئيس الأكاديمية الأزبكستانية للعلوم ومدير المعهد، البروفسور بهرام عبدالحميدوف ومعه بعض مساعديه. وخلال جولة في المبنى قدم البروفيسور بهرام نبذة عن نشأة المعهد وعن أنشطته ومجالات عمله وأقسامه. وقال إن المعهد يركز نشاطه على بحوث الحضارة الإسلامية في منطقة آسيا الوسطى، ويعدّ من أهم المؤسسات البحثية في مجاله. لذلك يؤمه الباحثون من مختلف دول العالم، مستفيدين من مكتبته المخصصة، التي تضم مائة ألف مخطوطة وكتاب. كما يوجد بالمعهد مركز لترميم المخطوطات والكتب القديمة، ويتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم (اليونيسكو) في إصدار بعض كتب التراث الإسلامي، سواء من بين تلك التي تحتويها مكتبة المعهد من مخطوطات وكتب قديمة أو من غيرها. كذلك يضم مبنى المعهد عدة قاعات وردهات تزينها رسومات وصور لأشهر العلماء المسلمين الذين ولدوا أو نشأوا في جغرافيا جمهورية أزبكستان الحالية. ومن بين القاعات التي يضمها المبنى، قاعة محاضرات تسمى «قاعة عمان»، وهي تتسع لعدد لا بأس به من الحضور. ومن الواضح أن القاعة سميت قاعة عمان لتكون رمزا للتقدير والاحترام الذي تكنه جمهورية أزبكستان لسلطنة عمان.
قلنا في مقدمة هذا المقال أن لعمان رسالة حضارية ثابتة على مر العصور والأزمان. وفي السنوات الأخيرة برزت لتلك الرسالة عناوين في عدد من بلاد العالم وبين الأمم والشعوب. ومع أن مبنى معهد البيروني هو العنوان الأبرز الملموس لتلك الرسالة في أزبكستان، إلا أن الشكر والعرفان الذي أبداه نائب مدير أكاديمية العلوم في أزبكستان ومدير المعهد، الدكتور بهرام عبدالحميدوف لعمان وللسلطان قابوس رحمه الله، ولجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله، كان هو الأثر الأهم لها في نفوس الناس في هذه البلاد. لقد وصلت رسالة عمان الحضارية، وكان عنوانها بارزا هنا في القلب الجغرافي لقارة آسيا، بعيدا عن الموانئ وطرق الملاحة وعن شبكات القطارات والطرق الدولية. ومن الواضح أن تلك الرسالة قد وصلت إلى شغاف قلوب العارفين والمشتغلين بدراسات وبحوث الحضارة الإسلامية والإنسانية في أزبكستان وخارجها. وبالإضافة إلى التعبير والامتنان لعمان، الذي أبداه مدير المعهد، كانت البصمة العمانية بارزة أيضا من الناحية الحسية في عدة أشياء في مبنى المعهد، ومنها على سبيل المثال الرخام العماني المستخدم في الأرضيات، والنقوش ذات الطابع العماني على الأبواب والشرفات.
إن بلوغ الرسالة العمانية إلى ذلك المستوى السياسي والثقافي العالي، في بلد كانت له إسهامات كبيرة في الحضارة الإسلامية، على يد علماء، مثل الخوارزمي والبيروني وغيرهما، لهو دليل ساطع على أنها رسالة لها معناها الكبير وصداها الواسع في العالم، وتلك لعمري مكانة تليق بعمان وسمعتها في الماضي والحاضر. ومن أجل أن تبقى تلك المكانة والسمعة متألقة، لا بد لعمان من الاستمرار في السير الحثيث لنشر رسالتها المعهودة، والعمل على أن تجد طريقها إلى العقول والقلوب في شتى بقاع الأرض، وذلك من خلال مشاريع مثل معهد البيروني في أزبكستان أو مركز مسقط الصحي في فلسطين أو الكراسي العلمية في عدد من أهم جامعات العالم، وأن يكون مضمون الرسالة كما كان دائما نشر الخير والسلام بين الناس كافة.
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية