سيكون الربط بين حقوق الإنسان وحرياته في المنطقة والأمن القومي الأمريكي من أهم انشغالات السياسة الخارجية الأمريكية، وستمارس إكراهاتها على دولها وشعوبها معا، وستتمكن من خلالها من نشر أفكار تمس جوهر منظومة القيم والأخلاق في الخليج، وذلك من خلال صناعة ودعم خارجين عن ثوابت المجتمعات المجمع عليها والتي لم تكن في يوم من الأيام محل خلاف أو اختلاف، وسيكون صوتهم عاليا - أي الخارجين - وستظهر السياسة الخارجية الأمريكية في موقف المدافع عن حقوق وحريات التعدد والتنوع داخل المجتمع الواحد، وستتلاقى معها في التوقيت نفسه، الأجندات الأوروبية المماثلة التي لا تقل شأنا عنها.

واللافت أن ذلك الربط منصوص عليه الآن في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة التي كشف عنها البيت الأبيض الأمريكي في مطلع أكتوبر الحالي، حيث تنص: « ستعمل الولايات المتحدة دائما على تعزيز حقوق الإنسان والقيم المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة» وهذا الربط لا يظهر في صورته المثيرة، إلا عندما يستلم الديمقراطيون الحكم في واشنطن، فهي - أي حقوق الإنسان والحريات - تعد أداتهم الناعمة للضغط على الأنظمة لتحقيق مصالحهم وأجندتهم المختلفة والمتعددة «السياسية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية والفكرية».

لكن هذه المرة سيحدث تحول لمفهوم الثنائية اللصيقة بالإنسان، وهما «الحقوق والحريات» إذ ستنحاز إدارة بايدن للحريات أكثر من الحقوق، بمعنى أن الحرية ستكون الأولى من الحق، بحيث ستتراجع كثيرا الحقوق السياسية والديمقراطية، ولن تثار إلا إذا كانت ستخدم الأجندة الأمريكية السياسية والعسكرية في آنيتها، بينما سيكون الأصل الحريات، وهذه الأهمية المتعاظمة للحريات في عهد بايدن نرجعها لعاملين أساسيين، يلتقيان بصورة متناغمة وداعمة للتطبيق هما:

الأول: إيمان الفاعلين الأمريكان بالحرية في ذاتها ولذاتها، ومن منطلقات شخصية قبل أن تكون مطلبا سياسيا، ومن ثم اعتبارها أساس انفتاح الشعوب ذات الأيديولوجيات التي تصنف وفق المنظور الأمريكي بالمنغلقة أو المتشددة، وسيتم محاولة تحريرها من القيود والضوابط لها، وهذه دافعية قوية لنشر الحرية في المنطقة.

الثاني: الدفاع عن الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة -كما كان سابقا- سيظهر إدارة بايدن في موقف المتناقض الصارخ مع واقعها الداخلي، فديمقراطيتها لم تعد نموذجا للشعوب، كما أنها تدير جيوشا من الفقراء، وتظل عاجزة عن تأمين حقوق أساسية لمواطنيها كالمأكل والمشرب والمسكن، والأدلة في الأرقام، حيث تكشف عن ارتفاع معدل الفقر عام 2021 بنسبة 6. 11%، غير الملايين الذين يعيشون في مستوى تحت الفقر، وغير المشردين والعاطلين الذين يقفون طوابير من أجل إعانات البطالة، وكذلك في ظل اتساع دائرة العنف الداخلي، وتنامي المليشيات العنصرية والنزعة الاستقلالية لبعض ولاياتها.

ومن خلال العاملين سالفي الذكر، نرى أن الحرية ستكون من أهم الأجندة للسياسة الخارجية الأمريكية، ستنشغل بها سفاراتها في المنطقة، وستشغل دول المنطقة وشعوبها بصورة لافتة لتلاقي «الحرية» مع أنصار الوجودية الذين نجدهم في مواقع متقدمة جدا في صناعة القرار الأمريكي، وكذلك الشأن أوروبيا - كما سيأتي ذكره لاحقا - والوجودية هي تيار فكري فلسفي يعلي من قيمة الفرد، ويرى أن حريته في الاختيار لا تحتاج لموجّه، وتطبق واشنطن الحرية من خلال ذلك المفهوم بصورة مثالية نتيجة العامل الأول، فمثلا، منذ يوليو عام 2015، يتمتع المثليون والمثليات ومزدوجو الميل الجنسي ومغايرو الجنس وحاملو صفات الجنسين في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية بالتساوي في الوصول إلى جميع المزايا الفيدرالية شأنها شأن العلاقات الطبيعية للإنسانية السوية.

لذلك، فهي ستعمل السفارات الأمريكية في المنطقة جاهدة على نشر الحرية كإيمان فردي لفاعليها، وضمن موجهات سياسية، وقد رصدنا تطبيقات محددة لهذا التوجه الأمريكي الجديد في المنطقة، سنستشهد بها وفق النماذج التالية:

- تحويل وزارة الخارجية الأمريكية برنامج المنح لنشر الإلحاد ودعم شبكاته في المنطقة - أشرنا إليه أكثر من مرة - وهذا أفضل نموذج يدلل على خيار الحرية في ذاتها ولذاتها أولا، وتسييساتها الديموغرافية ثانيا.

- الدعم الأمريكي القوي للتظاهرات في إيران التي انطلقت من حرية طرفها امرأة في الأساس، جذبت بصورة ديناميكية المئات من النساء وكأنها عملية مؤقتة زمنيا، ثم تلونت وأخذت أبعادا سياسية تلتقي مع أهداف سياسية أمريكية كبرى.

- ما تتعرض له قطر من ضغوطات كلما يقترب كأس العالم 2022، حيث يتم التلويح بحقوق المثليين ومروجي الميول الجنسية والمتحولين جنسيا ليس في حقهم في حضور المباريات أسوة بغيرهم، وإنما الكشف عن هويتهم، والترويج لها في الشوارع والملاعب.. وهذا خروج عن المبادئ السامية لكرة القدم، وتدخل في إثارة واستفزاز أصحاب الفطرة السوية، وتتعارض مع قوانين دول المنطقة.

- الانتشار السريع لمجموعة أفكار دخيلة على المجتمعات الخليجية بصورة مقلقة، مثل الإلحاد والحركة النسوية.

ولو بحثنا في خلفياتها سنجد وراءها واشنطن / بايدن، وكذلك أوروبا، فالاتحاد الأوروبي من جهته، يخصص موازنات لسفارات دولة، وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من أجل نشر مثل تلكم الأفكار، وبناء علاقات مع الناشطين، وبالذات النساء تحت مظلة دعم الحريات والحقوق، وتوظفها السفارات بطرق شتى منها المنح المالية لمؤسسات المجتمع المدني، ففي دولة خليجية مثلا تم إغراق جمعيات المرأة فيها بالأموال الأمريكية والأوروبية، واحتواء الفاعلات فيها من خلال الزيارات المنتظمة مدفوعة الثمن للعواصم الأوروبية والأمريكية، ولن نبالغ إذا ما قلنا أنه يوجد في كل عاصمة خليجية الآن ما يسمى «بأصدقاء أمريكا في الخليج» كمجموعة أسستها كل سفارة أمريكية في الخليج، وتلتقي بها في المناسبات أو عند الحاجة.

وتتقاطع الأجندات الأوروبية مع الأجندات الأمريكية في حقبة الديمقراطيين «وبالذات الأيديولوجية والفكرية» وهي مهتمة الآن بحرية النساء عبر دعم الحركة النسوية في المنطقة، انطلاقا من مبادئ وتوجيهات أوروبية، ودعم كذلك المثليين وكل فئات ما يسمى بمجتمع الميم، ولها أدواتها التي يمكن من خلالها نشرها، وتغلغلها في البنية الاجتماعية في المنطقة، وقد كان شهر أكتوبر عام 2015 فاصلا في تعميق استهدافاتها للمنطقة، فقد أقام الاتحاد الأوربي مؤسسة للمدافعين عن حقوق الإنسان وحرياته، وهي تتألف من عدة منظمات كمنظمة مدافعي الخط الأمامي، والرابطة الدولية للمثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الجنس وحاملي صفات الجنسين.

وبالتالي ما نشهده الآن ولاحقا من تصعيد تلكم الأفكار سواء من قبل أفراد أو جماعات طبيعية أو معنوية سيكون وراءها الاتحاد الأوروبي شأنه في ذلك شأن أمريكا، لنقل نموذجه إلى هذه المجتمعات بعد أن كفلت حقوق تلكم الحالات الشاذة وأصبحت محمية في الاتحاد الأوربي وأمريكا بموجب معاهدات وقوانين، كما يعد النشاط الجنسي المثلي قانونيا فيها، فعلى سبيل المثال، نذكّر بأول استراتيجية للمفوضية الأوروبية لمساواة المثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وثنائيي الجنس 2020-2025، وكذلك يعمل الاتحاد الأوروبي على تعزيز المساواة في جميع مجالات الحياة داخل وخارج الاتحاد الأوروبي.

من هنا يريد الغرب الأمريكي / الأوروبي تمرير قوانينهم داخل دول المنطقة دون مراعاة قوانينها الصريحة والمعارضة لها، ودون الأخذ بعين الاعتبار كذلك موقف مجتمعاتها المعارضة بصورة مطلقة، لأنهم يجدون في طبيعة الحقبة الزمنية الراهنة مجموعة فرص ستمكنهم من اختراق هذه المجتمعات، وهم في هذه الرؤية محقين، فالكثير من السياسات المالية والاقتصادية تمس جوهر استقرار المجتمعات في أساسيات حياتهم، وتكاد تقلب عاليها سالفها في ظل غياب الخطط التربوية العمومية والأسرية، لذلك يجد الغرب في الحرية أهم الأدوات الناجعة التي ستمكنه من إعادة صناعة الإنسان الجديد في المنطقة، من إنسان محكوم بمنظومة قيمية وأخلاقية ترفع من شأنه كإنسان جدير بتلقي رسالة الديانات السماوية، وآخرها الإسلامية، إلى إنسان تتحكم فيه الماديات، ولا تفرقه عن بقية الكيانات المخلوقة التي لا تتحكم في شهواتها وأهوائها، وتمارسها دون الاعتداد بالمكان والزمان، ولدى الغرب خطة ممنهجة وبنيوية، تبدأ من عالم الطفولة بهدف إطلاق النزوات، وحتى التدخل في الهرمونات لكي يكون خيار اختيار النوع وتعديله متاحا وفي سن مبكرة، وسنت قوانين تقييد مسؤولية الوالدين في التربية بل ومحاسبتهم إذا اقتضى الأمر.

لن تتمكن الخطط الغربية من تحويل الإنسان في المنطقة إلى حيوان شهواني ناطق، لكننا نخشى من التغرير بالبعض الذين يمكن أن يجدوا في الأجنبي وهم الاستقواء أو القوة، ونخشى على الشباب لقصور برامج التربية وقوانين التحصين الأخلاقي، فقد ينجرون وفق نماذج مقلقة الآن، وهنا علينا أن نبدي قلقا مرتفعا من احتمالية نجاح اختراقاتهم في الخليج العربي قياسا بنجاحها في المنطقة العربية، وكذلك في ضوء بروز حالات تجاهر بتبنيها الأفكار الغربية مثل الإلحاد والنسوية، وكلما تستقوي بالأجنبي، سيرتفع صوتها، وكل من يستقوي بالأجنبي دون المبدأ، سيختفي فجأة، كما ظهر فجأة، وذلك عندما يسحب منه الأجنبي مظلته أو يفقد الأجنبي شرعيته السياسية، وهذا أهم دروس الحقبة السياسية الماضية.

وتحتم مرحلة الديمقراطيين في أمريكا من حكومات المنطقة التصدي لمحاولات نسخ التطرف الغربي / الأمريكي ضد الأسرة وقيمها وأخلاقها، وينبغي أن يكون هذا الملف في قمة انشغالات الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، تعمل فيه بفكر واحد، وجهد مشترك، وينجم عنها قوانين حاكمة لهذه المرحلة، وتخرج منه بموقف سياسي جامع تواجه به الضغوطات الأمريكية الأوروبية التي ستزداد تباعا، عوضا أن تواجه كل دولة بمفردها هذا التطرف الذي إذا لم تتصد له الحكومات منفردة أو جماعة، ستنهض من رحمه قوى في كل مجتمع خليجي لن نتحكم في اتجاهاتها.. وسيدخل الخليج العربي في أتون فصل جديد غير محسوب النتائج، لأن القضية تتعلق بالدين.. الخ.