في عالمٍ تتسارع فيه التغيرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية لا مكان للإدارة التقليدية النمطية، فماذا يحمل الفكر الاستراتيجي من مسارات ومنهجيات بديلة؟

إن من أهم متطلبات مواكبة هذه التغيرات المتلاحقة هو الفهم الواعي لأهمية تطوير منهجيات العمل على مستوى فرق العمل أو المؤسسة، وكذلك النسيج المؤسسي على المستوى الوطني، والتحول نحو "ثنائية الرشاقة الاستراتيجية والإدارة الانسيابية" التي تضمن الانتقال التدريجي من بذل الجهد العالي إلى تحقيق الإنتاجية المرتفعة.

الرشاقة الاستراتيجية تضمن التخطيط السليم نحو التطور التدريجي والتحسين المستمر والاستجابة المناسبة، في حين توفر الإدارة الانسيابية بيئة مُمكنة للتطور من خلال تبسيط العمليات الداخلية، ورفع جودة الأداء بتوظيف التقنيات الحديثة، وبذلك فإن هذه الثنائية مترابطة ومتلازمة وتوفر أفضل الهيكليات في إنجاز العمل، حيث يكون الاعتماد في بناء العمل على فرق ذاتية التنظيم، مع توفير البيئة الآمنة والأدوات الداعمة للتطور والتعلم والابتكار، واستيعاب التوجهات المختلفة بموضوعية.

بذلك توفر ثنائية الرشاقة الاستراتيجية والإدارة الانسيابية الوسط المساند للقيادة الإبداعية القائمة على الشراكة الفعالة، والتواصل الجيد داخل فرق العمل أو المؤسسة ومع الشركاء؛ كما أنها تعزز ثقافة الرؤية الموحدة والالتزام نحو تحقيق أهداف مشتركة وطويلة الأمد، ومما لا شك فيه أن بيئات العمل في وقتنا المعاصر بأمس الحاجة للتطور، وانتهاج أساليب مختلفة في العمل ودعم الفكر الإبداعي، بالتركيز على الإنتاجية وتثمين المعرفة والخبرات العملية، ولا بديل للتطور فالمؤسسات وفرق العمل هي بالأساس نظم اجتماعية تسري عليها قوانين التطور التي تنص بساطة بأن "البقاء للأفضل".

وهذا يقودنا إلى أهم التحديات التي تواجه بيئات الأعمال وهي الإدارة في الحالات الاستثنائية والطارئة، كما حدث أثناء جائحة كوفيد19 عندما تغيرت ملامح العمل والحياة، وفرضت الجائحة أنماطاً مستحدثة للتأقلم مع متطلبات الاحتراز من الوباء من جهة، وتسيير عجلة العمل من جهة أخرى، علمتنا الجائحة بأن الإلمام بإدارة المخاطر يعتبر خط الدفاع الأول لحماية العمل من التعثر أو التوقف، وأن تطوير مهارات الإدارة في الظروف الاستثنائية أو الطارئة أصبح من الضروريات، بل هي في قائمة مهارات القيادة للقرن الواحد والعشرين.

وهنا يأتي دور الرشاقة الاستراتيجية في رفع القدرة على إعادة ترتيب الأولويات والاستراتيجيات بطريقة ديناميكية، وهذا التوجه مختلف عن المرونة التي ترتبط غالباً بالاستجابة للصدمات الخارجية، أما الرشاقة فهي تتحقق بالتخطيط المتكامل مع التنفيذ والمتابعة المستمرة، واستشعار تأثيرات وتداعيات البيئة الخارجية، لرفع الجاهزية للطوارئ، وتعظيم توجيه الموارد في التكيف لأية مستجدات.

كذلك تعتبر الرشاقة الاستراتيجية مُمكناً لاتخاذ القرار عندما تكون الرؤية المستقبلية قليلة أو عديمة الوضوح، فنجد مثلا عالم الاقتصاد هربرت سيمون الحائز على جائزة نوبل، قد أدخل مفهوم العقلانية المحدودة كفكر بديل للنماذج الرياضية في دعم صنع القرار، يقوم هذا الفكر على اعتبار أن محدودية المعرفة الانسانية وعامل الزمن تؤثران على اتخاذ القرار وخصوصاً وقت الأزمات، وحيث إن عملية صنع القرار المناسب بمثابة "القلب" بالنسبة لإدارة الأزمات، فإن انتهاج الرشاقة الاستراتيجية تساهم في تعزيز وإبراز مخزون القدرات المتباينة لدى راسمي السياسات، والمعنيين بصناعة واتخاذ القرار، من أجل تهيئة الأرضية اللازمة لتوجيه عملية صنع القرار وترجيح المسارات الاستراتيجية في فترات قلة وضوح الرؤية المستقبلية، من خلال المفاتيح الذهبية التالية للقيادة القائمة على الرشاقة الاستراتيجية والإدارة الانسيابية أثناء الأزمات.

أولا: تنفيذ المراجعة الموضوعية والواقعية للأهداف الاستراتيجية، والتحقق من أنها تتطابق مع التغيرات الناشئة، ثم إعادة هندسة الرؤية والرسالة والأهداف تبعاً لذلك، مع التركيز على معرفة نطاق العمل في ظل التحولات والمستجدات، سواء على مستوى فرق العمل، أو المستوى المؤسسي أو الوطني، وتعريف ما هو خارج هذا النطاق لمنع تشتيت وهدر الجهود، والابتعاد عن القرارات الدفاعية للوضع السابق، أو القرارات التي تأتي ردة فعل لحظية للمتغيرات الطارئة، وإنما يأتي الهدف من المراجعة هو تشجيع التفكير الابتكاري في الاستجابة، وإتاحة الفرصة لتوظيف المعرفة الضمنية والخبرات السابقة، والخروج بنهج ابتكاري لتوجيه العمل وصناعة القرارات المناسبة.

ثانيا: تحليل كفاءة الموارد الحالية المالية منها والبشرية والزمنية، باعتبار أن الوقت من أهم مدخلات العمل، من أجل تحديد الفجوة بين الموارد المتاحة ومتطلبات التكييف للواقع المستجد، بذلك يمكن توجيه أولويات العمل نحو تحقيق الرشاقة التشغيلية، وإعادة تدوير الموارد الحالية حسب الأولويات الاستراتيجية، والتركيز على التنمية البشرية وبناء الكفاءات بدلا من البحث عن كفاءات جديدة قد تستهلك موارد مالية، وكذلك تتطلب زمناً لعبور منحنى التعلم.

ثالثا: رسم جميع السيناريوهات المستقبلية المحتملة، ثم ترجيح السيناريوهات الأكثر احتمالاً، للخروج بحزمة من الخطوات الإجرائية للتكييف والبت في تعزيز التحول نحو الرؤية المنشودة، بالاستعانة بجميع المُمكنات من معرفة وخبرات وتقنيات تكنولوجية، وهنا تبرز أهمية التواصل الإيجابي وتقوية ثقافة وبيئة العمل الداخلية، سواء على مستوى فرق العمل أو المؤسسة، لتعكس الشراكة والتعاون والصمود في مواجهة التحديات الناشئة.

وهنا قد يتساءل البعض كم خطة يجب وضعها لتحقيق جميع هذه النتائج؟ في الواقع لا مزيد من الخطط، يكفي أن تكون هناك خطة شاملة لجميع هذه المحاور، ويكون التركيز على إنجاز العمل، واستخلاص الدروس من واقع الأداء الفعلي، لأن إغراق المشاريع أو المؤسسات بالخطط الاستراتيجية لا يعتبر توجها حكيما، إذ لا يتطلب كل مستجد وضع خطة لمواجهته، وليست كل خطة هي نتاج التخطيط الاستراتيجي، أحيانا هي استنزاف لوقت العمل دون طائل، وهذا التوجه قد يتسبب في إحداث جمود في إنجاز مهام المؤسسة بسبب الدخول في حالة من "دوامة التخطيط".

حيث إن الخطة الأولى تتكاثر بشكل فيروسي وتستوجب خططا مساندة لها، مما يضع المؤسسة في دوامة استكمال الخطط دون تنفيذها، مثلا بعد الانتهاء من الخطة الاستراتيجية يأتي وضع خطة التنفيذ، ثم الخطة الإجرائية للتطبيق الفعلي، التي بدورها تتطلب خطة للمراجعة والتقييم، وأخرى لتعزيز التواصل والتوعية، وخطة للشراكة والتهيئة المؤسسية، والقائمة تطول.

ولذلك يجب التركيز على وضع الرؤية الاستراتيجية الواضحة، وتعريف أهدافها وأولوياتها ثم مباشرة التنفيذ المستند على مبادئ الرشاقة الاستراتيجية، وإدارة الأولويات والموارد واستقطاب دعم الشركاء والمستفيدين، واكتساب الثقة بجدية جهود العمل، مع مواكبة التطورات التكنولوجية والمعرفية، وفي حال استجد الوضع يمكن مراجعة هذه الرؤية وتعديل الأهداف ووضع الخطط البديلة مع استمرار عجلة العمل، فإنه لا حاجة لتكديس الخطط الاستراتيجية التي تبقى في حيز التنظير، وهي لوحدها غير كافية لمواجهة التحديات الناشئة.

* د. جميلة بنت علي الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار