ذلك الصفر الذي يعبّر عنه الناس بنقطة انطلاقهم الأولى، فيرددون حتى أصبح من مأثور القول ومنظميه، فبات متوارثا عبارة "بدأت من الصفر"، الصفر الذي تقودنا ذاكرتنا التصورية إلى النقطة السوداء ذات الدلالة الواضحة، وأنه تعبير عن القيمة الأقل تقديرا، فصاحب العلامات الأدنى هو صفر في القدرات بمعيار الآخرين، فأصبح لصيقا بتلك الصفات التي تعبّر عن نفسها كونها دون المستوى.

وبحِسبة قريبة من علم الأرقام والرياضيات نجد أن الصفر تتغير قيمته، وتصبح فارقة وجوهرية كلما تغيّر مكانه، كتلك الابتهالات التي نرددها فتزداد قوة كلما ارتفع قدر المكان، فما أن ينتقل في منظومة الرقم حتى يشكل فارقا حقيقيا في قيمة الرقم.

وإذا نظرنا إلى ذلك الصفر كونه لصيقا بالإخفاق، فإن تراكم الأصفار وتتابعها من شأنه أن يبني ويشيّد مبنى شاهقا من النجاح.

فما النجاح في جوهره سوى مجموعة من الإخفاقات والتجارب، التي تحمل في جدّتها زاوية وجانبا مظلما من الفشل.

وتتالي ذلك الفشل دليل على تتابع التجارب، التي تحمل في جدّتها زاوية وجانبا مظلما من الفشل، وتتالي ذلك الفشل دليل على تتابع التجارب، التي تتسم غالبا كونها جديدة وكخبرة أولى، وتكرار تلك التجارب والخوض في الخبرات الجديدة وفق تسلسل معين وفي مجال محدد؛ سيقودك إلى النجاح وتحقيق الهدف لا محالة.

فنحن مع كل بداية نضع أقدامنا على نقطة البداية، للانطلاق في رحلتنا، فنقول بدأنا من الصفر، ونقول ذلك بكل اعتزاز؛ وخاصة إذا ما تكللت رحلتنا الإبداعية بالنجاح، فما أن تتمكن من اجتياز أحلامك حتى تصبح متحدّثا تحفيزيا، وإن كان ذلك على نطاق ضيق فتبدأ بتكرار المقولة الأسطورية: "بدأت من الصفر"، فيتبادر في أذهان من حولك، حسنا.. أين هو ذلك الصفر لنبدأ منه ونتّخذه نقطة انطلاق لنا؟

ولأن التغيّرات والتحولات من حولنا طالت كل شيء، حتى بدأت بالنخر في الأفكار والمبادئ التي كان مسبقا مسلّما بها، فإن تلك الانطلاقة الأولى وما أسميناها صفرا حريّ أن يكون أيضا قد تعرّض للثورة المعرفية، التي تجتاح العالم خلال السنوات القليلة الماضية، وفي زمن يتسم بالوفرة المعرفية، وسهولة الحصول على المعلومات، واجتياز الخبرات والشهادات بنقرات بسيطة على الأجهزة المحوسبة بأنواعها، فأين هو ذلك الصفر من عالمنا اليوم، عالم التقنية والثورة المعرفية الرقمية الكبرى.

فيتساءل البعض ما هو شكل تلك المرحلة الأولى، المسماة بالصفر لأضع عليها خطوتي الأولى، فبينما كان سابقا ذلك الصفر بدائيا جدا أو شاقا لما يمتلكه من مواد أولية، فنحن الآن بصدد التعامل مع صفر آخر، تمت فيه دمج المعارف والخبرات، فبات كل شيء مصنّعا ومبرمجا، وعلى نحو رقمي في متناول الأيدي.

فأين هو ذلك الصفر في عالم اليوم؟

نعرف جيّدا أن العلم والخبرات والتجارب تبنى على نحو تراكمي، فليس بالضرورة أن نعود لذات البداية الذي ابتدأ منه كل شيء، بل أننا نبدأ من حيث ما وقف عليه الآخرون، معتبرين بذلك فرضا أن تلك هي نقطة الانطلاقة المنطقية، والصفر الذي نبحث عنه من عبارات المحفزين البرّاقة الرنّانة "بدأنا من الصفر".

ليكون ذلك الصّفر هو ما انتهى عليه الآخرون، ورغم معرفتنا تلك إلا أنه وحسبَ تطوافي في عقول المبدعين، فإنه لا يتجاوز حد المعرفة، ولا يرْقى لمستوى الإدراك والذي يعني الفهم بعمق، فلا يزال هناك من يبدأون مما هو أقل من الصفر حتى، فتطول بذلك رِحلتهم الإبداعية، وتتضاعف المسافة ويزداد الجهد ويضيع الوقت هباء.

نردد تلك العبارة بأننا نبدأ من حيث انتهى الآخرون، فلا يتجاوز ذلك حد اللفظ والمعنى أما التطبيق الفعلي فهو لا يتجاوز ذلك حدّ اللفظ والمعنى، أما التطبيق الفعلي فهو ينحو مبتعدا عن ذلك المعنى، فنجد أن البعض يبدأ بما هو أقل من الصفر حتى.

أن يستخدم المبدع أو السالك في طريق الابتكار المعلومات المعرفية المبعثرة، ما بين أرفف المكتبات ومحرّكات البحث، ومحاولة خوض المرحلة التجميعية للدمج بين المعطيات للحصول على عملية إبداعية؛ فذلك يعتبر إهدارا للوقت، وربما يكون أيضا عائقا لمحاولة اللحاق بالركب المعرفي والتطور المتنامي.

أما عتبة الباب القوية والانطلاقة الحقيقية، والتي تتناسب مع ثورة المعرفة الحالية، فهي الاستعانة بالخبراء مباشرة لمساعدتك على خطوتك الأولى، وبما يتناسب مع مجالك التخصصي.

الاستعانة بالخبراء في كل مجالات العملية الإبداعية لهو حجر الأساس، ونقطة الانطلاق الحقيقية التي نحتاجها حقا في رحلتنا الحالية، لكن تلك المعارف الكثيرة المبعثرة، والتي تراكمت عبر الزمان لهي مشتت كبير يبتلعك، إلى الحد الذي يصعب معه الوقوف على الانطلاقة الحقيقية، التي توجهك نحو الهدف الحقيقي.

فذلك المختص سيكون قادرا وبلا شك على تلخيص خبراته في عدد محدود وضئيل من الجلسات، وإن لم يكن هو مدرّبك الفعلي، سيكون بلا شك مرشدك الحقيقي.

ذلك المرشد أومدربك الخاص لن يقوم باجتياز الرحلة عنك أو معك، لكنه سيحدد لك نقطة البداية التي من شأنها أن تحقق لك أسرع انطلاقة نحو تحقيق الهدف، كما أنه سيكون مرشدا للطريق السالك الأكثر سهولة، وإن لم يقم هو بتمهيده لك، فيسرّ لك عن مطبّات الطريق، وكيفية تجاوزها إلى أن تصل، وأنت مكلّل بالنجاح، تعرف جيدا أنه لن يكون إلا بعد سلسلة من الإخفاقات، لتستلم أنت من بعده المهمة، فتكون مرشدا ومعلّما لأشخاص آخرين فتخبرهم عن نقطة انطلاقتك الجديدة، وسفرك الذي بدأت به، والذي بدأ ينزاح رويدا ليكون صفرك أنت مختلفا عن الصّفر الذي بدأ به معلمك، فتنقله بخبراته المكتنزة لمن هم بعدك..وهكذا.

وذلك الصّفر الذي تبدأ منه ينزاح رويدا، إلا أنّه رغم ذلك ليس بالضرورة أنه يقرّب لك مسافة ودون الهدف، لأن ذلك الأخير أيضا يخضع للقوانين الكونية، فيصبح منحازا ومبتعدا بالقدر الذي اقترب منه ذلك الصفر.

وإن لم توفق في الاستعانة بأحدهم سيكون صفرك هو تتبع مسارات حياتهم، لتكون قارئا جيّدا يستنبط طريقهم نحو الإبداع، فيكون بذلك صِفرك عبر الزمان.