السيرك السياسي الذي وصلت إليه السياسة الغربية في الأسابيع الأخيرة في كل من جانبي الأطلسي، سواء القارة القديمة أو العالم الأمريكي الجديد من أول انهيار حكومة ليز تراس بعد ستة أسابيع فقط.. وحتى وصول المكايدات السياسية بين الحزبين الكبيرين في واشنطن إلى مرحلة التلاعب بالأمن القومي للدولة العظمى بدخول مواجهات مع حلفاء استراتيجيين كالسعودية، إنما يكشف من جديد عن أن الأفول الذي دخله النموذج الحضاري الغربي المهيمن على العالم منذ 4 قرون يواصل غروب شمسه وتدهور قبضته على عقول ووجدان الشعوب غير الغربية.
كما يكشف عن أن هذا الأفول ليس مقتصرا كما يعتقد البعض على تراجع الهيمنة الاقتصادية على العالم ومزاحمة الصين والهند والبرازيل واندونيسيا وكوريا الجنوبية.. إلخ لأمريكا وأوروبا في انتاج الثروة والتكنولوجيا والتنافس على المواد الأولية والأسواق التجارية ولكن يرتبط بعوامل أخرى قد لا تقل أهمية تشير إلى تحلل إمبراطورية الرجل الأبيض العنصرية.
ابتداء يمكن تلخيص هذه العوامل في عبارة واحدة:
"لقد توقف النموذج الغربي عن أن يكون نموذجا ملهما وجاذبا ومرغوبا من الشعوب الأخرى غير الغربية" بعد أن كان حلم كل هذه الشعوب هو أن تحذو حذو هذا النموذج خاصة ـ وقد صور لها ـ إعلاميا وثقافيا ومن نخب محلية تم اختطافها أيدولوجيا أو مصلحيا ـ إن اتباع هذا النموذج اتباعا تاما هو الطريق الوحيد للتقدم والرفاهية ولحصول الإنسان على أدميته وحرياته الخاصة والعامة.
كانت دول العالم الثالث وشعوبه المتحالفة مع موسكو وتتلقى معوناته الهائلة المدنية والعسكرية عقلها مع الروس وقلبها مع الأمريكيين والغرب. كانوا يعرفون أن الغرب عدوهم ويريد الاستمرار في نهب مواردهم ولكنهم كانوا لا يستطيعون ـ خاصة شبابهم ـ التوقف عن الإعجاب به وبانتخاباته الديمقراطية وتداول السلطة في بلاده. معجبون بجامعاته العريقة وتقنياته المتطورة وموسيقاه وأفلام هوليود وارتداء الجينز والتي شيرت.
نشوة ولحظة الانتصار هذه التي وصلت ـ بالسيد فوكوياما ـ لحظة سقوط الإتحاد السوفييتي إلى حد القول بأن انتصار الرأسمالية هو "نهاية التاريخ" وإن لا مستقبل للعالم إلا النموذج الحضاري الثقافي الاقتصادي والسياسي الليبرالي الغربي عام ١٩٩١ سرعان ما انتهت وتبددت في سنوات قليلة.
يقول البعض في هذا المجال إن النموذج الغربي توقف عن أن يكون جاذبا للنخب الثقافية ونخب الحكم والسياسة والشباب والشعوب في العالم الثالث منذ انكشاف أمريكا أمام هجمات تنظيم شبه بدائي كالقاعدة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر على نيويورك وواشنطن ٢٠٠١.
ويقول البعض إنه بدأ بعد "تجبر" أمريكا واساءة استخدامها لوضع القوة العظمى الوحيدة بعد زوال القطب السوفييتي بغزوها المدمر لأفغانستان، وغزوها المدمر للعراق، والخطيئة التي ارتكبتها في ليبيا التي أبدى أوباما ندمه عليها وكذلك المشاركة في جريمة تدمير سوريا.
فريق آخر يذكر أو يضيف عاملا آخر هو فشل كل محاولات "الدمقرطة أو فرض النموذج السياسي الغربي سواء بالقوة العسكرية أو بالقهر المعنوي أو حتى بالمساعدات.
فلقد تحول النظام الديمقراطي الذي أقاموه في العراق في بعض السنوات إلى وحش مذهبي طائفي مناطقي أشبع البلاد إرهابا وفوضى وعدم استقرار وخلّف أكبر حالة من نهب الثروة الوطنية. وسقط نظام كابول من قرضاي إلى غني كبيت من الرمال ليقع في يد طالبان مرة أخرى. وسقطت الديمقراطية في شرق أوروبا ـ ورغم كل المساعدات الأمريكية والأوروبية ـ في يد حكومات يمينية شعبوية في بولندا والمجر وأوكرانيا وعادت روسيا بوتين أدراجها عن ديمقراطية يلتسين الغربية إلى نظام أوراسي معادي للغرب.
ولكننا سنركز هنا على انحدار النموذج السياسي الديمقراطي الغربي وانطفاء إشعاع والهام النموذج القائم على ضمان تداول السلطة ومسؤولية الحكومة أمام الناخبين ومحاسبتها على أخطاء قراراتها السياسية والاقتصادية أو وقوعها في جرائم استغلال النفوذ وتضارب المصالح.
أولا: التراكم المخيف لتطبيق السياسات النيوليبرالية منذ عهد ريغان في الولايات المتحدة وتاتشر في المملكة المتحدة والذي أدى إلى تراجع القطاع السلعي الإنتاجي من صناعة وزراعة لصالح القطاع المالي. قاد ذلك لتركز الثروة في يد قلة لا تزيد على عشرة في المائة من السكان وإلى تزايد أعداد الفقراء والتآكل النسبي في جسم الطبقة الوسطى العريضة في البلدان الغربية ضامنة للاستقرار والرشادة السياسية.
ونجم عن ذلك امتلاك أقلية غنية ونخبوية "اوليغاركية" بتعبيرات "أفلاطون" التاريخية لمفاتيح الثروة والتأثير النافذ على السلطة السياسية وبالتالي فقد الإنتظام الدوري للانتخابات العامة ونزاهتها الإجرائية حتى الآن، وتغير الحكومات والقادة قيمته إذ سرعان ما تحول لتداول "حصري" للسلطة بين أقسام من هذه الاوليغاركية الحاكمة مهما تغير اسم الحزب أو تغير اسم القائد السياسي.
وعبر ذلك التركز في الثروة والسلطة عن نفسه في تدحرج نظام التعددية الحزبية في معظم هذه الدول إلى نظام لحزبين كبيرين مهيمن مثل الجمهوري والديمقراطي في أمريكا والمحافظين والعمال في بريطانيا والأخطر من ذلك كان تضاؤل الاختلافات الواضحة بين هذين الحزبين الكبيرين سواء العقائدية والفكرية أو في البرامج السياسية المتعلقة بتوزيع الثروة وحجم الرفاة الاجتماعية لدرجة أن توني بلير كرئيس للوزراء لم يكن يقل يمينية في سياساته الداخلية والخارجية عن تاتشر والمحافظين.
ثانيًا: نمو التيارات اليمينية الشعبوية على حساب اليسار وحتى على حساب تيارات يمين ويسار الوسط التي شكلت القوام الرئيسي في الديمقراطيات الغربية The mainStream Politics:
تمكنت التيارات اليمنية المتطرفة من استغلال عملية التهميش التي تسببت فيها الليبرالية المتوحشة في تحويل صناديق الانتخاب من حكم الإرادة الشعبية إلى حكم الأقلية "الاوليجاركية" النافذة من الأغنياء، والتكنوقراط ورجال البنوك والمديرين التنفيذيين وما رافقها من عولمة وهجرة مجموعات ثقافية ملونة إلى إثارة خوف المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية وإحياء العنصرية البيضاء white supremacy وتم اجتذاب القطاعات الاجتماعية الريفية المحافظة وأجزاء كبيرة من الطبقة العاملة ومن القطاعات الثقافية من المحافظين اجتماعيا المعادين للمثلية والهجرة، كما جمعت أيضا المسيحيين المتدينين المتوجسين من نمو الإسلام والأديان الأخرى غير السماوية مثل الهندوسية على حساب الثقافة المسيحية للشعوب الغربية.
ولعل اكتساح اليمين الشعبوي للانتخابات في الدول الغربية وآخرها إيطاليا الشهر الجاري ومن قبلها بولندا وأوكرانيا وأمريكا ترامب 2016 -2020 المرشح للعودة بقوة في انتخابات الرئاسة المقبلة 2024 لأدلة كاشفة على تفكك كثير من القيم العليا للديمقراطية الغربية في العقدين الأخيرين.
ويفسر هذا كيف تراجع إقبال الأجيال الجديدة في الغرب على الانضمام للأحزاب المعروفة وتراجع نسب مشاركتهم في التصويت في الانتخابات العامة والمحلية لدرجة بدأت تقترب تدريجيا من مستويات العزوف في الدول النامية.
بعبارة أخرى تفقد الأجيال الجديدة في الغرب ثقتها في النظام السياسي وفي النخب الحاكمة وفي كفاءة صندوق الانتخاب كمعيار وحيد في تحقيق مشاركتهم واسماع صوتهم بل وأصبحوا مثل شباب الدول النامية يميلون إلى الاحتجاج الاجتماعي والخروج للشارع والتظاهر بدلا من الانخراط في الأحزاب والمشاركة في التصويت وتراجع الثقة التقليدية في البرلمان كمعبر عن الإرادة الشعبية. من المعايشة والمشاهدات العملية وليس التنظير الفكري يطرح المقال هنا 3 أمثلة من بريطانيا "أم" الديمقراطية الغربية ومهدها الأول في السنوات الخمس الأخيرة تكشف بوضوح عن الأزمة ذات الطابع الوجودي للنظام السياسي الديمقراطي الغربي وبالتالي تكاثر مظاهر عجزه عن إلهام للشعوب النامية.
1- البريكست: جاء التصويت بنعم في استفتاء 2016 لصالح خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي الذي أظهرت كل المؤشرات لاحقا أنه أضر ببريطانيا اقتصاديا أكثر مما اضر بأوروبا وإنه يعرض حتى وحدتها الإقليمية للخطر "اسكتلندا وايرلندا يعارضان بقسوة الخروج من الاتحاد الأوروبي وتفكر أدنبرة مرة أخرى في استفتاء جديد على الانفصال تأمل أن يحظى بأغلبية هذه المرة". وهذا التصويت الذي جاء عكس تظاهرات مليونية شعبية ـ معادية له دليلا على تضافر تطورين سلبيين على أرض الواقع ونالا من كفاءة النظام السياسي الغربي وشرعيته. التطور الأول هو نمو التيار الشعبوي الذي مثله سياسي مثل نايجل فراج وأيده ضمنا حزب المحافظين الحاكم!! فنال أصوات كبار السن ومناطق الريف والعمال المتضررين منافسة العمال البولنديين والرومانيين وغيرهم في فرص العمل والتطور الثاني هو تراجع ثقة الشباب في النظام السياسي ونخبه التقليدية وبالتالي عزوفهم عن التصويت في الاستفتاء مما جعل التصويت طلقة ضد المستقبل وضد حركة التاريخ ولصالح العنصرية والانعزالية.
2- الإخفاق المتزايد في تطبيق ركيزة الديمقراطية الغربية وهي قدرة البرلمان والناخبين من ورائه على محاسبة السياسيين على قراراتهم أو وقوعهم في تضارب المصالح the accountability:
واخفقت الديمقراطية البريطانية في محاسبة رئيس وزراء مثل توني بلير على قرار سياسي بالدخول في الحرب مثل قراره المشاركة في غزو العراق رغم اعترافه لاحقا بهذا الخطأ.
واخفقت في محاسبة رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون عندما ثبت أنه إتصل بوزراء في حكومة بوريس جونسون لدعم حصول شركة خاصة له أسهم ومصالح فيها على عقود حكومية من المال العام في فترة مواجهة كوفيد -19، واخفاقها في محاسبة رئيس الوزراء بوريس جونسون في ثبوت قضائه إجازات واجراء اصلاحات في مقره الحكومي بـ 10 داوننج ستريت على حساب رجال أعمال لهم مصالح مع الحكومة.
3- توجيه ضربة كبيرة لحرية الصحافة والتعبير في انتخابات ديسمبر 2019 بما في ذلك إعلام الخدمة العامة المملوك نظريا للشعب مثل هيئة الإذاعة البريطانية عن طريق الانحياز الصارخ لمرشح حزب المحافظين بوريس جونسون ضد مرشح حزب العمال اليساري جيريمي كوربين فقط لأنه تجرأ في السياسة الداخلية على مواجهة سياسات الليبرالية المتوحشة المطبقة منذ ثمانينات تاتشر ولأنه حاول إرجاع الخطوط الفاصلة القديمة بين العمال والمحافظين وتبني سياسات اجتماعية طبقية لإنصاف العمال وذوي الدخل الثابت مثل رفع الحد الأدني من الأجور وبناء مليون مسكن للفقراء ورفض في السياسية الخارجية الإنحياز المتزايد لإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني فتعرض لأكبر عملية اغتيال معنوي بما في ذلك قيام البي بي سي الرصينة بوضع صورة افتراضية له وهو يرتدي القبعة الروسية الشتوية الشهيرة في إيحاء إلى الناخب أنه قد ينتخب رئيس وزراء لا يعدو كونه عميلا روسيًا. وهي حملة كانت منحازة لدرجة أن حزب العمال حقق أسوأ نتائج في هذه الانتخابات منذ مائة سنة ولدرجة أن رموزا من المثقفين والفنانين مثل هيو جرانت وراسل براند سجلا استياءهم من هذا التهديد الخطير للديمقراطية البريطانية ولقدسية حرية التعبير.
لكن المشكلة الحقيقية في عالم اليوم لا تكمن في تفكك النموذج السياسي الغربي ولكن في فشل القوى الصاعدة مثل الصين في تقديم نموذج بديل قادر على الإلهام واجتذاب العقول والقلوب كما فعل الغرب قرونا.
• حسين عبدالغني كاتب وإعلامي مصري
كما يكشف عن أن هذا الأفول ليس مقتصرا كما يعتقد البعض على تراجع الهيمنة الاقتصادية على العالم ومزاحمة الصين والهند والبرازيل واندونيسيا وكوريا الجنوبية.. إلخ لأمريكا وأوروبا في انتاج الثروة والتكنولوجيا والتنافس على المواد الأولية والأسواق التجارية ولكن يرتبط بعوامل أخرى قد لا تقل أهمية تشير إلى تحلل إمبراطورية الرجل الأبيض العنصرية.
ابتداء يمكن تلخيص هذه العوامل في عبارة واحدة:
"لقد توقف النموذج الغربي عن أن يكون نموذجا ملهما وجاذبا ومرغوبا من الشعوب الأخرى غير الغربية" بعد أن كان حلم كل هذه الشعوب هو أن تحذو حذو هذا النموذج خاصة ـ وقد صور لها ـ إعلاميا وثقافيا ومن نخب محلية تم اختطافها أيدولوجيا أو مصلحيا ـ إن اتباع هذا النموذج اتباعا تاما هو الطريق الوحيد للتقدم والرفاهية ولحصول الإنسان على أدميته وحرياته الخاصة والعامة.
كانت دول العالم الثالث وشعوبه المتحالفة مع موسكو وتتلقى معوناته الهائلة المدنية والعسكرية عقلها مع الروس وقلبها مع الأمريكيين والغرب. كانوا يعرفون أن الغرب عدوهم ويريد الاستمرار في نهب مواردهم ولكنهم كانوا لا يستطيعون ـ خاصة شبابهم ـ التوقف عن الإعجاب به وبانتخاباته الديمقراطية وتداول السلطة في بلاده. معجبون بجامعاته العريقة وتقنياته المتطورة وموسيقاه وأفلام هوليود وارتداء الجينز والتي شيرت.
نشوة ولحظة الانتصار هذه التي وصلت ـ بالسيد فوكوياما ـ لحظة سقوط الإتحاد السوفييتي إلى حد القول بأن انتصار الرأسمالية هو "نهاية التاريخ" وإن لا مستقبل للعالم إلا النموذج الحضاري الثقافي الاقتصادي والسياسي الليبرالي الغربي عام ١٩٩١ سرعان ما انتهت وتبددت في سنوات قليلة.
يقول البعض في هذا المجال إن النموذج الغربي توقف عن أن يكون جاذبا للنخب الثقافية ونخب الحكم والسياسة والشباب والشعوب في العالم الثالث منذ انكشاف أمريكا أمام هجمات تنظيم شبه بدائي كالقاعدة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر على نيويورك وواشنطن ٢٠٠١.
ويقول البعض إنه بدأ بعد "تجبر" أمريكا واساءة استخدامها لوضع القوة العظمى الوحيدة بعد زوال القطب السوفييتي بغزوها المدمر لأفغانستان، وغزوها المدمر للعراق، والخطيئة التي ارتكبتها في ليبيا التي أبدى أوباما ندمه عليها وكذلك المشاركة في جريمة تدمير سوريا.
فريق آخر يذكر أو يضيف عاملا آخر هو فشل كل محاولات "الدمقرطة أو فرض النموذج السياسي الغربي سواء بالقوة العسكرية أو بالقهر المعنوي أو حتى بالمساعدات.
فلقد تحول النظام الديمقراطي الذي أقاموه في العراق في بعض السنوات إلى وحش مذهبي طائفي مناطقي أشبع البلاد إرهابا وفوضى وعدم استقرار وخلّف أكبر حالة من نهب الثروة الوطنية. وسقط نظام كابول من قرضاي إلى غني كبيت من الرمال ليقع في يد طالبان مرة أخرى. وسقطت الديمقراطية في شرق أوروبا ـ ورغم كل المساعدات الأمريكية والأوروبية ـ في يد حكومات يمينية شعبوية في بولندا والمجر وأوكرانيا وعادت روسيا بوتين أدراجها عن ديمقراطية يلتسين الغربية إلى نظام أوراسي معادي للغرب.
ولكننا سنركز هنا على انحدار النموذج السياسي الديمقراطي الغربي وانطفاء إشعاع والهام النموذج القائم على ضمان تداول السلطة ومسؤولية الحكومة أمام الناخبين ومحاسبتها على أخطاء قراراتها السياسية والاقتصادية أو وقوعها في جرائم استغلال النفوذ وتضارب المصالح.
أولا: التراكم المخيف لتطبيق السياسات النيوليبرالية منذ عهد ريغان في الولايات المتحدة وتاتشر في المملكة المتحدة والذي أدى إلى تراجع القطاع السلعي الإنتاجي من صناعة وزراعة لصالح القطاع المالي. قاد ذلك لتركز الثروة في يد قلة لا تزيد على عشرة في المائة من السكان وإلى تزايد أعداد الفقراء والتآكل النسبي في جسم الطبقة الوسطى العريضة في البلدان الغربية ضامنة للاستقرار والرشادة السياسية.
ونجم عن ذلك امتلاك أقلية غنية ونخبوية "اوليغاركية" بتعبيرات "أفلاطون" التاريخية لمفاتيح الثروة والتأثير النافذ على السلطة السياسية وبالتالي فقد الإنتظام الدوري للانتخابات العامة ونزاهتها الإجرائية حتى الآن، وتغير الحكومات والقادة قيمته إذ سرعان ما تحول لتداول "حصري" للسلطة بين أقسام من هذه الاوليغاركية الحاكمة مهما تغير اسم الحزب أو تغير اسم القائد السياسي.
وعبر ذلك التركز في الثروة والسلطة عن نفسه في تدحرج نظام التعددية الحزبية في معظم هذه الدول إلى نظام لحزبين كبيرين مهيمن مثل الجمهوري والديمقراطي في أمريكا والمحافظين والعمال في بريطانيا والأخطر من ذلك كان تضاؤل الاختلافات الواضحة بين هذين الحزبين الكبيرين سواء العقائدية والفكرية أو في البرامج السياسية المتعلقة بتوزيع الثروة وحجم الرفاة الاجتماعية لدرجة أن توني بلير كرئيس للوزراء لم يكن يقل يمينية في سياساته الداخلية والخارجية عن تاتشر والمحافظين.
ثانيًا: نمو التيارات اليمينية الشعبوية على حساب اليسار وحتى على حساب تيارات يمين ويسار الوسط التي شكلت القوام الرئيسي في الديمقراطيات الغربية The mainStream Politics:
تمكنت التيارات اليمنية المتطرفة من استغلال عملية التهميش التي تسببت فيها الليبرالية المتوحشة في تحويل صناديق الانتخاب من حكم الإرادة الشعبية إلى حكم الأقلية "الاوليجاركية" النافذة من الأغنياء، والتكنوقراط ورجال البنوك والمديرين التنفيذيين وما رافقها من عولمة وهجرة مجموعات ثقافية ملونة إلى إثارة خوف المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية وإحياء العنصرية البيضاء white supremacy وتم اجتذاب القطاعات الاجتماعية الريفية المحافظة وأجزاء كبيرة من الطبقة العاملة ومن القطاعات الثقافية من المحافظين اجتماعيا المعادين للمثلية والهجرة، كما جمعت أيضا المسيحيين المتدينين المتوجسين من نمو الإسلام والأديان الأخرى غير السماوية مثل الهندوسية على حساب الثقافة المسيحية للشعوب الغربية.
ولعل اكتساح اليمين الشعبوي للانتخابات في الدول الغربية وآخرها إيطاليا الشهر الجاري ومن قبلها بولندا وأوكرانيا وأمريكا ترامب 2016 -2020 المرشح للعودة بقوة في انتخابات الرئاسة المقبلة 2024 لأدلة كاشفة على تفكك كثير من القيم العليا للديمقراطية الغربية في العقدين الأخيرين.
ويفسر هذا كيف تراجع إقبال الأجيال الجديدة في الغرب على الانضمام للأحزاب المعروفة وتراجع نسب مشاركتهم في التصويت في الانتخابات العامة والمحلية لدرجة بدأت تقترب تدريجيا من مستويات العزوف في الدول النامية.
بعبارة أخرى تفقد الأجيال الجديدة في الغرب ثقتها في النظام السياسي وفي النخب الحاكمة وفي كفاءة صندوق الانتخاب كمعيار وحيد في تحقيق مشاركتهم واسماع صوتهم بل وأصبحوا مثل شباب الدول النامية يميلون إلى الاحتجاج الاجتماعي والخروج للشارع والتظاهر بدلا من الانخراط في الأحزاب والمشاركة في التصويت وتراجع الثقة التقليدية في البرلمان كمعبر عن الإرادة الشعبية. من المعايشة والمشاهدات العملية وليس التنظير الفكري يطرح المقال هنا 3 أمثلة من بريطانيا "أم" الديمقراطية الغربية ومهدها الأول في السنوات الخمس الأخيرة تكشف بوضوح عن الأزمة ذات الطابع الوجودي للنظام السياسي الديمقراطي الغربي وبالتالي تكاثر مظاهر عجزه عن إلهام للشعوب النامية.
1- البريكست: جاء التصويت بنعم في استفتاء 2016 لصالح خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي الذي أظهرت كل المؤشرات لاحقا أنه أضر ببريطانيا اقتصاديا أكثر مما اضر بأوروبا وإنه يعرض حتى وحدتها الإقليمية للخطر "اسكتلندا وايرلندا يعارضان بقسوة الخروج من الاتحاد الأوروبي وتفكر أدنبرة مرة أخرى في استفتاء جديد على الانفصال تأمل أن يحظى بأغلبية هذه المرة". وهذا التصويت الذي جاء عكس تظاهرات مليونية شعبية ـ معادية له دليلا على تضافر تطورين سلبيين على أرض الواقع ونالا من كفاءة النظام السياسي الغربي وشرعيته. التطور الأول هو نمو التيار الشعبوي الذي مثله سياسي مثل نايجل فراج وأيده ضمنا حزب المحافظين الحاكم!! فنال أصوات كبار السن ومناطق الريف والعمال المتضررين منافسة العمال البولنديين والرومانيين وغيرهم في فرص العمل والتطور الثاني هو تراجع ثقة الشباب في النظام السياسي ونخبه التقليدية وبالتالي عزوفهم عن التصويت في الاستفتاء مما جعل التصويت طلقة ضد المستقبل وضد حركة التاريخ ولصالح العنصرية والانعزالية.
2- الإخفاق المتزايد في تطبيق ركيزة الديمقراطية الغربية وهي قدرة البرلمان والناخبين من ورائه على محاسبة السياسيين على قراراتهم أو وقوعهم في تضارب المصالح the accountability:
واخفقت الديمقراطية البريطانية في محاسبة رئيس وزراء مثل توني بلير على قرار سياسي بالدخول في الحرب مثل قراره المشاركة في غزو العراق رغم اعترافه لاحقا بهذا الخطأ.
واخفقت في محاسبة رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون عندما ثبت أنه إتصل بوزراء في حكومة بوريس جونسون لدعم حصول شركة خاصة له أسهم ومصالح فيها على عقود حكومية من المال العام في فترة مواجهة كوفيد -19، واخفاقها في محاسبة رئيس الوزراء بوريس جونسون في ثبوت قضائه إجازات واجراء اصلاحات في مقره الحكومي بـ 10 داوننج ستريت على حساب رجال أعمال لهم مصالح مع الحكومة.
3- توجيه ضربة كبيرة لحرية الصحافة والتعبير في انتخابات ديسمبر 2019 بما في ذلك إعلام الخدمة العامة المملوك نظريا للشعب مثل هيئة الإذاعة البريطانية عن طريق الانحياز الصارخ لمرشح حزب المحافظين بوريس جونسون ضد مرشح حزب العمال اليساري جيريمي كوربين فقط لأنه تجرأ في السياسة الداخلية على مواجهة سياسات الليبرالية المتوحشة المطبقة منذ ثمانينات تاتشر ولأنه حاول إرجاع الخطوط الفاصلة القديمة بين العمال والمحافظين وتبني سياسات اجتماعية طبقية لإنصاف العمال وذوي الدخل الثابت مثل رفع الحد الأدني من الأجور وبناء مليون مسكن للفقراء ورفض في السياسية الخارجية الإنحياز المتزايد لإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني فتعرض لأكبر عملية اغتيال معنوي بما في ذلك قيام البي بي سي الرصينة بوضع صورة افتراضية له وهو يرتدي القبعة الروسية الشتوية الشهيرة في إيحاء إلى الناخب أنه قد ينتخب رئيس وزراء لا يعدو كونه عميلا روسيًا. وهي حملة كانت منحازة لدرجة أن حزب العمال حقق أسوأ نتائج في هذه الانتخابات منذ مائة سنة ولدرجة أن رموزا من المثقفين والفنانين مثل هيو جرانت وراسل براند سجلا استياءهم من هذا التهديد الخطير للديمقراطية البريطانية ولقدسية حرية التعبير.
لكن المشكلة الحقيقية في عالم اليوم لا تكمن في تفكك النموذج السياسي الغربي ولكن في فشل القوى الصاعدة مثل الصين في تقديم نموذج بديل قادر على الإلهام واجتذاب العقول والقلوب كما فعل الغرب قرونا.
• حسين عبدالغني كاتب وإعلامي مصري