يخبرنا تقرير المؤشر العالمي للشباب 2022 (إعداد الشباب من أجل مستقبل ما بعد كوفيد19)، الصادر عن مؤسسة محمد بن سلمان (مسك)، أن الفرص في مرحلة الشباب تشكل عالميا (النجاح المهني المستقبلي والرضا عن الحياة)؛ فقد شهد العالم تقدما كبيرا خلال العقود الماضية في (زيادة) فرص التعليم والتحصيل العلمي، إضافة إلى ما أحرزته دول العالم من تقدم في (إشراك الشباب في صنع القرار وفي تعزيز روح المبادرة والاندماج في عالم العمل)، إلاَّ أن هناك العديد من التحديات التي واجهت الشباب خاصة خلال تفشي الوباء وما بعده، ولأن المؤشر يهدف إلى (دعم صانعي السياسات لإنتاج الفرص للشباب لاتخاذ القرارات التي ستشكل مستقبلهم)، فإنه يستعرض تلك الإمكانات التي يمكن للشباب استغلالها لبناء مستقبل قائم على التعاون والشراكة مع الحكومات والرؤى الوطنية التي تُسهم في فتح فرص تؤسس بنية أساسية للتنمية البشرية للشباب، وبالتالي اتخاذ قرارات قائمة على تنمية القدرات وتمكينها.

يعتمد المؤشر في قياس العوامل والسياسات التي تمكِّن تنمية الشباب على نتائج 30 دولة حول العالم من بينها أربع دول عربية هي (المملكة العربية السعودية، والأردن، ومصر، والمغرب)؛ حيث يربط التقرير بين اقتصادات الدول وتنمية الشباب، فالدول التي أحرزت المراكز العشرة الأوائل جميعها (عدا الصين) من ذوات الدخل المرتفع، بينما هناك فرص تنموية كبيرة تنتظر الشباب في الدول التي تُحسِّن من اقتصاداتها، وذلك لأن تطوير برامج الشباب وتنمية قدراتهم ترتبط بقدرة الدول على تحقيق أهداف تلك البرامج والاستثمار في تنمية مهارات الشباب وتدريبهم.

وتحت عنوان (أسس للمستقبل) يستعرض التقرير تلك المجالات التي تعتمد عليها التنمية الناجحة للشباب وهي (التعليم والمهارات والمواطنة والقيادة وريادة الأعمال)، والتي يُطْلِق عليها المؤشر (النظام البيئي لتنمية الشباب)؛ حيث تتأسَّس على الديناميكية الاقتصادية للدولة ومستوى الابتكار والبنية التحتية الأساسية والسلامة والأمن، وكلها مجالات يُعزِّز كل منها الآخر ليحقق ما يُسمى بـ (العائد المزدوج للشباب)، فتلك المجالات عليها أن تتكامل فيما بينها في ظل سياسة واضحة لتنمية الشباب وتمكين دورهم في تحقيق الأهداف الوطنية للدولة، والإسهام في اتساع رؤاهم وتطلعاتهم المستقبلية.

ولأن الشباب هم أساس المجتمعات فإن سلطنة عُمان من الدول التي اعتنت بهم، ووظفَّت الطاقات من أجل تدريبهم وتأهيلهم حتى أصبح الشباب العُماني يمثلون نماذج مشرِّفة للتنمية الإنسانية المستدامة التي تسعى لبناء الأفراد والاستثمار في تمكينهم، يظهر ذلك في سعي الدولة على استقرار الشباب في سوق العمل، وتدريبهم على المهارات المستقبلية خاصة في تقنيات التكنولوجيا واقتصاد المعرفة، إضافة إلى تمكين دورهم في المجالات التنموية المختلفة، ولعل استراتيجية الشباب التي تعمل عليها الجهات المعنية ستكشف العديد جوانب ذلك التمكين وتوسيع الرؤى أمام تطلعات الشباب وآمالهم للمستقبل، ليكونوا طاقة موجَّهة للبناء والتطوير خاصة في المحافظات والولايات المختلفة.

والحال أن احتفال الدولة بـ (يوم الشباب) الذي يوافق 26 أكتوبر من كل عام، هو أحد الرموز الوطنية التي تكشف الاهتمام السامي للدولة بهذه الفئة الفتية من المجتمع، ومدى الإمكانات التي تقدمها من أجل تطوير مهاراتهم وقدراتهم، ولهذا فإن افتتاح (مركز الشباب)، يُعد من بين تلك المراكز التي تُقدِّم بنية أساسية وفارقة في بناء شخصية الشباب العماني؛ فالمركز – حسب ما جاء في الموقع الإلكتروني لوزارة الثقافة والرياضة والشباب – "عبارة عن مساحة شبابية ابتكارية متكاملة، داعمة للفكر الإبداعي والريادي لدى الشباب، يضم الاحتياجات المتعلقة بتطلعات الشباب، التي تُسهم في تطوير وتنمية مواهبهم ومهاراتهم المتعددة".

إنه مركز يعتمد على تطلعات الشباب، ويستند على الشراكة والانفتاح من ناحية، وإمكانات التعلم والابتكار من ناحية ثانية، بما يتناسب مع رؤاهم المستقبلية، ولهذا فإن نجاحه في تحقيق أهدافه سيعتمد على الشباب والمؤسسات الشبابية، من خلال العمل المشترك وإعداد البرامج التي تتناسب وتلك التطلعات، انطلاقا من الشراكة المجتمعية التي تربط المركز بالشباب الشغوف والطموح والمبدع والمبتكر. إن تأسيس مركز يشمل حاضنات لريادة الأعمال، وحاضنة للمبادرات الشبابية ومختبرات ومرسم وغير ذلك من المرافق، كان قبل أعوام قليلة مطلب شبابي مهم، وها هو اليوم يتحقق، ويفتح أبوابه للشباب المبدعين بُغية تطويرهم وتمكينهم، فعليهم الإقبال والمشاركة الفاعلة، التي تمكِّنهم من الحصول على حقهم في تحقيق (العائد المزدوج)، الذي لا يمكن أن يكون إلاَّ بهم، فاشتراكهم في صناعة الإبداع والابتكار يمثل أساس إشراكهم في صنع القرار.

يقدم تقرير منظمة العمل الدولية في الأمم المتحدة (اتجاهات التوظيف العالمية للشباب 2022. الاستثمار في تحول مستقبل الشباب)، تفصيلا لتلك التحديات التي واجهت الشباب في سوق العمل خلال الأعوام القليلة الماضية وما زالت تواجههم سواء بسبب الأزمة المالية العالمية، أو الجائحة التي ما زالت تداعياتها تسبب العديد من الإشكالات، ولهذا فإن التقرير يدعو الدول لاتخاذ إجراءات (حاسمة) لمواجهة الآثار السلبية والتحديات، من أجل تمكين الشباب من الحصول على التعليم الذي يحتاجونه، ودعم انخراطهم في سوق العمل؛ إذ يرى أن "الاقتصادات الخضراء والزرقاء والرقمية والإبداعية والرعاية الاجتماعية، على وجه الخصوص (تتمتع) بإمكانات كبيرة لتوفير وظائف لائقة للشباب" – على حد تعبير التقرير -، ولكي يتم دخول الشباب إلى سوق العمل فإن الأمر لا يحتاج فقط إلى سياسات بقدر ما يحتاج إلى رؤية استثمارية في المهارات الشبابية.

يستعرض التقرير تلك العلاقة بين الاستثمار الاقتصادي المرتبط بسوق العمل، ومهارات الشباب، من أجل إيجاد آلياد (مبتكرة) لتنمية قدرات الشباب وتمكينهم من اكتساب المهارات التي سيحتاجونها في المهن المستقبلية، سواء من خلال التعليم أو التدريب المهني والتقني، لذلك فإن الاستثمار الاقتصادي المرتبط بالاقتصادات الخضراء والزرقاء والتقنية والإبداعية، تعتمد على "دينامية الشباب وروحهم الابتكارية في تشكيل عمل أفضل وتعزيز الاستخدام المستدام للنظم الإيكولوجية البرية والساحلية والبحرية" – حسب التقرير -، وهذا لن يتم إلاَّ بتوَّفر مساحات شبابية مهيئة للتدريب والإبداع والابتكار، مع شراكة حقيقية بين الشباب والمؤسسات المعنية، ومع تأسيس مركز الشباب والحاضنات الابتكارية المتعددة، إضافة إلى المعاهد الهنية والتقنية أصبح لدى الدولة الكثير من المعطيات التي تجعل إقبال الشباب أكثر دافعية.

إن الشباب طاقة مجتمعية تقودها الهِمة وتوقدها العزيمة، وتُلهمها الأهداف الوطنية، فتُقبل على التطوير والإبداع من أجل تنمية المهارات التي تتوافق مع الأهداف الوطنية وتتواكب مع التطلعات العالمية، ولأن الاهتمام بالتقنية والرقمنة يُعد أحد المجالات التي تقود طموح الشباب وتطلعاتهم من ناحية، ويفتح أمامهم آفاق العمل والابتكارات من ناحية ثانية، فإن تقرير منظمة العمل الدولية يعتبر أن (الاقتصاد الرقمي) من تلك القطاعات التي تتمتع بـ (إمكانات كبيرة لخلق فرص عمل للشباب)، فزيادة رقمنة الاقتصاد والمجتمع تؤثر في عالم العمل وآفاق الإبداع والابتكار؛ حيث "يُنظر إلى الاقتصاد الرقمي جنبا إلى جنب مع الاقتصاد الإبداعي أو البرتقالي" – حسب التقرير-، الذي تعتمد عليه العديد من القطاعات في إنتاج محتوى رقمي إبداعي ونشره، وبالتالي فإن دور المراكز الشبابية يقوم على تأسيس هذه المنظومة الإبداعية الرقمية التكاملية مع التنمية الاقتصادية وسوق العمل.

يتميَّز الشباب العماني بإقباله على التقنية، والإبداع، والابتكار، ولهذا فإن العمل على برامج تنفيذية واضحة الأهداف، قادرة على تطوير مهاراتهم والاستثمار فيها، سيجعل منهم طاقات إيجابية، تفتح أمامهم آفاق جديدة في سوق العمل، وتنهض بمعايير الشراكة المجتمعية، فليكن مركز الشباب وغيره من الأندية والمراكز الثقافية متنفسا رحبا لهذه الطاقات، جاذبا لإبداعاتهم، يعمل على تمكين دورهم في شراكة تتميز بالمرونة، فهم العماد الذي تقوم عليه وتتأسس من أجله.

إن الشباب هم الأساس في تحقيق التطلعات المستقبلية للوطن ، ولذلك فإن مراجعة ما تم تقديمه لهم خلال السنوات الماضية من دعم وتمكين وتحليله وتقييمه، إضافة إلى إعداد الاستطلاعات الموجَّهة في المحافظات المختلفة، سيُسهم في تحديد البرامج التنفيذية المناسبة للمرحلة القادمة، والاستثمار في طاقات الشباب ومهاراتهم، وتنميتها لتحقيق الأهداف الوطنية.