من الصعب عليّ أن أدرك على وجه اليقين سر التزام شخص «عادي» كأبي بمتابعة نشرات الأخبار على مدى أكثر من عشرين عامًا عرفته خلالها وراقبته بدأب ممل وهو يقلّب المحطات بين أخبار العاشرة على تلفزيون سلطنة عمان وقناة الجزيرة، هو الهامشي الذي يمشي كغيره مع ملايين من الناس على قارعة الطريق وظلال جدران هذا العالم، بلا مغنم يُرجى أو مغرم يُتَّقى بين الهبوط والارتفاع في سعر برميل النفط، بين دخول الديمقراطيين وخروج الجمهوريين من وإلى البيت الأبيض.

شهدت معه وحوله سقوط مدن ورموز على شاشة التلفاز، وهي أحداث أحلم بسردها كما لو أن ذاكرة الطفل تهذي في أحلام من الألوان الباهتة، بلا تدخُّل توجيهي أو سلطة تلقائية يمارسها الوعي اللاحق بتاريخ تلك السنوات، ذلك الوعي الذي لا بد له أن يعتدي على براءة تلك الذاكرة التصويرية البريئة بالحذف والإضافة والتنقيح.

في مارس من عام ٢٠٠٣ زحفت الدبابات الأمريكية على مرأى من عيوننا صوب وزارة الإعلام العراقية تحت سماء برتقالية ما زالت تسطع في ذاكرتي، معلنة سقوط عاصمة الرشيد بعد أكثر من سبعة قرون على سقوطها تحت حوافر المغول. كنا نتعرف على جغرافيا العراق المعقدة مع تقدم العمليات العسكرية على الأرض؛ مع كل عبوة ناسفة أو قصف أمريكي تغطيه النشرة كنا نتعرف على اسم قرية عراقية ما زالت تقاوم أو حي جديد من أحياء بغداد تدشنه كاميرات وسائل الإعلام العربية والأجنبية من وراء أكتاف الغزاة.

«يا بلاداً بين نهرين...

بلاداً بين سيفين

بلاداً بين حاج عمران والبصرة

بين القتل والثورة...

كانت ساعةُ التوقيت أمضى منك

(...)

أنتِ البنت في تلك الجرار السومرية...».

سعدي يوسف

هل كنا نتعلم سياحة افتراضية جديدة من نوعها؟

بعد أشهر من الاجتياح هدأ توتر الدراما الحربية على شاشات الأخبار، وأخذت الحرب الهووليودية تتحول إلى مسرحية مكتملة الأركان، فجلست العائلة في صالة البيت لتتابع طقوس محاكمة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين حتى لحظة إعدامه ليلة عيد الأضحى.

العبرة والعظة كانت في أوجها، والدرس كان أعمق من أن يُلمَّ به تلميذ بليد في حصة التاريخ. في الوقت نفسه كانت شوارع المدن العراقية خلال السنوات الأولى من الحرب تتحول إلى مسرح مفتوح على جمهور بدأ يتثاءب مللًا مع تلاشي السياق بلا نهاية وشيكة تتوج الأحداث الدامية، أما الجندي الأمريكي، البطل الأسطوري على شاشة السينما، فكان الجزء المخيب للأمل على خشبة المسرح والأكثر تخشبًا.

عام ٢٠٠٦ يستيقظ الطفل على مكان جديد يتكلم العربية على شاشة «المنار» حيث تدور أعنف المواجهات بين إسرائيل وحزب الله. اندلعت حرب تموز لتكون الحدث الأبرز الذي يقحم لبنان إلى وعيي قبل أن تغني فيروز على شرفتي، وقبل أن تتحول بيروت إلى عاصمة للحداثة الشعرية العربية. شهران من الحرب كانا كافيين لتصفح أطلس الجنوب الذي سيأخذ منذ ذلك الحين معنى من معاني الممانعة والمقاومة في معجمي الشخصي.

أما أبي الذي لم يتزحزح عن عادته الرتيبة في متابعة نشرات الأخبار فقد جعلني أتساءل إن كان كل الآباء في سائر البيوت معنيين بمشاهدة الأخبار؟ أدرك الآن أن استغراقه اليومي في شؤون العالم لم يكن إلا محاولة منه للعثور على حالة من توازن بين عالمين، بين عالمه الصغير والمختصر والواقع تحت متناول يده، وعالم أكبر ليس له. إنه يحاول أن يبقى على صلة بما يدور في الأرجاء البعيدة، يحاول أن يستحضر قسطه الخاص من الذكرى ليتذكر غدًا أنه كان حاضرًا بين الملايين في تلك الهنيهة من التاريخ قبل أن يغمره هذا العالم الهائل بالنسيان مع الحشود. على الرغم من ذلك فهو لم يكن مهمومًا بإعلان موقف سياسي مما يدور خارج البيت، معترفًا بضآلة حضوره كعابر سبيل يدوس على طرف التاريخ ويمشي على خارطة البراكين بين الحرب والسلم. وإن اضطر لقول شيء أخير فلن يتردد في وصف العالم بأنه مؤامرة كبرى.

آخر ذكرياتنا المشتركة مع الأخبار المتلفزة التقليدية كانت مع مسلسل تنظيم القاعدة الذي ظل يأتينا على هيئة أشرطة مصورة تبثها قناة الجزيرة لشيخٍ يخاطب العالم وهو يتنقل بين الجبال الذي يقارع به أعظم إمبراطوريات العالم المعاصر.

كانت الجماهير في الأوساط العربية والإسلامية بحاجة إلى نجومية جديدة مصنوعة بإتقان ومؤثثة بكل الإيحاءات الفنية اللازمة لصورة البطل الشعبي في المخيلة العربية والإسلامية: البساطة والزهد والتقشف وصورة السلاح الفردي الذي يستمد منه المستضعفون في الأرض معنى واحدًا، وهو إمكانية اختراق هذا العالم الحصين بالحق وحده لا بالحقيقة.

في ذلك الفجر من مايو عام ٢٠١١ الذي خرج فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما للعالم ليعلن عن مقتل أسامة بن لادن على الأراضي الباكستانية في عملية عسكرية نوعية للجيش الأمريكي، كانت شبكة الإنترنت قد بدأت بالتوغل في أرجاء البيت، وكان الأوان قد حان لتنفض الجلسة العائلية من أمام التلفاز وأن يختلف الأبناء إلى حواسيبهم وهواتفهم الذكية التي تعمل باللمس. تشعبت مصادر المعلومات والفرجة فافترقنا، غير أن الوحيد الذي ظل متسمرًا أمام أخبار العاشرة كان أبي.