يخرج تساؤل العنوان أعلاه من مخاض تأسيس مرحلة دولة متعددة الأقطاب، يراها بعض الخبراء أنها لن تكون ثنائية أو ثلاثية وإنما رباعية، وستكون واشنطن واحدة منها دون بعض الدول الأوروبية، ويخرج كذلك من بحث لندن عن قائد منقذ، وتتطلع منذ يومين فقط أن يكون في شخصية سوناك كرئيس للوزراء بعد استقالة سريعة لتراس في مرحلة داخلية تنذر بكل الاحتمالات في ظل تصاعد النزعة الاستقلالية لما تبقى من مملكتها المتحدة، ومثالنا هنا إصرار رئيسة وزراء أسكتلندا نيكولا سترحين على إجراء استفتاء ثان لمستقبل أسكتلندا، وبقية المقاطعات تترقب نجاحه، وكذلك يخرج التساؤل من التوجهات التنموية المعاصرة للدول الست الخليجية، فلن تحقق رؤاها المستقبلية عبر الانحياز المطلق للمصالح الأمريكية على حساب المصالح الخليجية «الفردية والجماعية» على السواء.

ومن تلكم الاعتبارات يطرح التساؤل لوضع الفكر السياسي الخليجي في قلب هذه المرحلة لكي يستعد للتحديات والضغوطات المقبلة، ومن بينها واشنطن التي لا تزال بغرورها القديم ترى نفسها الأوحد في عالم متغير، تعد وتتوعد في الوقت الذي تسحب فيه بكين وموسكو وبيونج يانج وحتى طهران البساط من أقدام هيمنتها العالمية الجيوسياسية والتكنولوجية بما فيها العسكرية، والذي يشغلنا كثيرا هنا حدثان بارزان تزامنا توقيتا، بدأ وقوعهما وكأنهما مؤقتان زمنيا، وهما اللذان ستشغل وستنشغل بهما المنطقة، وبقدر قدرة الدول الخليجية على مواجهتهما بوعي تلكم الصيرورات الزمنية الجديدة، بقدر ما تؤسس مستقبلها الجديد في عصر تعدد الأقطاب وحقبة الضرائب، وهما:

أولا: المؤتمر 20 للحزب الشيوعي الصيني.

هنا سنتوقف عند بنود مختارة خرج بها هذا المؤتمر، لكي نفتح من خلالها نوافذ تفكير لصناع القرار في الخليج، وهي:

- استكمال تجهيز الجيش الصيني للحروب الحديثة بحلول عام 2035.

- اعتبار الاقتصاد كرافعة أساسية في قوة الصين.

- استكمال تطوير القدرات العلمية والتكنولوجية والقوة الوطنية العامة لتصل إلى ما يقارب متوسط الدول المتطورة.

- الصين تعارض بحزم جميع أشكال الهيمنة والسياسات القائمة على القوة، وازدواجية المعايير، وتعارض كذلك عقلية الحرب الباردة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

اللافت في تلكم الأهداف براغماتية صينية مسيسة في تحديد طموحها العلمي والتكنولوجي وماهيات قوتها البشرية، وذلك عندما حددته - أي الطموح - بمستوى متوسط الدول المتطورة وليس بمستوى الدولة الأولى في العالم، وكلنا نعلم أن الحرب الحقيقية بين واشنطن وبكين تدور الآن رحاها على صعيد السباق التكنولوجي والعلمي، ونرجع هذه البراغماتية إلى ذكاء صيني لكسب ثقة شركائها في مبادرة الطريق والحزام التي من المقرر أن يصلوا بها إلى أكثر من 50 دولة، والكثير منها ذات طموحات عالمية ، كروسيا والهند ونمور جنوب شرق آسيا وحتى الكثير من الدول الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا قبل الحرب الروسية الأوكرانية وبعدها ستزداد رغبتها في الانضمام للاستفادة من الفرص الاقتصادية التي ستنتجها لهم عدة تريليونات صينية من الدولارات.

ولن تكون بكين جاذبة إذا ما خرجت منها الآن رسائل الاستعلاء والاستفراد مثل ما سنراه لاحقا في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، وبالتالي لن يكون الاقتصاد كرافعة أساسية لقوة الاقتصاد الصيني في حالة إذا ما كانت علاقة بكين مع شركائها في موقع القطب والتابع، على عكس الخطاب الأمريكي الذي يغلب عليه استفزاز شركائه التاريخيين، وفي حالات كثيرة إحراجهم.

والملاحظة الثانية ربط قوة الصين بمستقبل الانفتاح الاقتصادي التكاملي القائم على تقاسم المنافع بين دول مبادرة الطريق والحزام، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، ويبدو أن هذا الأخير يتم التلويح به كمقارنة مع واشنطن التي تتدخل في شؤون حلفائها كضغط للابتزاز وخاصة في مجال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

وتجد الدول الخليجية العربية في المؤتمر 20 للحزب الشيوعي الصيني ما يعزز توجهها نحو بكين كخيار استراتيجي بعيد المدى، وضمن مبادرة الطريق والحزام، استغلالا لموقعها الجغرافي الاستراتيجي، كالموقع السعودي الواصل بين قارتي آسيا وإفريقيا، وكذلك سلطنة عمان التي لها موانئ على البحار المفتوحة مما يؤهلها لأن تكون محطة للمبادرات التجارية بين دول المبادرة الصينية، فمسقط تطل على السواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية وبحر العرب المتداخل مع بحر عمان هو بوابة العرب إلى المحيط الهندي، وفي تفاهمات سابقة وعدت مسقط بتقديم دعم لوجستي لمبادرة الصين في إطار جهد دولي متعدد الأطراف، وهذا يخدم أحد أهم مصادر دخلها المستدام، وهو قطاع اللوجستيات، كما تجد الرؤية العمانية 2040 في القدرات الصينية العلمية والتكنولوجية ما يحقق طموحاتها العلمية والتكنولوجية أو من حيث تعدد مصادر نجاحها.

والصين من بين أكبر الشركاء التجاريين للدول الست ومصدر للاستثمار، ومستورد استراتيجي للنفط، وقد دعمت الصين مشاريع كبيرة في السعودية، ومنحت الرياض في العام الماضي صفة مراقب في منظمة شنغهاي التي تقوده الصين وتركز على وسط آسيا، لكنها تتوسع باتجاه الشرق الأوسط، ويمكن أن تتحول إلى عضو في شنغهاي، وبقاؤها في هذا الموقع رؤية بعيدة المدى لها حسابات مستقبلية.

كما أن بكين ستصبح قوة عسكرية رادعة، وبأهداف عالمية، وقد حددت إطارا زمنيا تعمل بكل قوة على الوفاء باستحقاقاته، وهو ما جعل عام 2035 موعدا مقدسا لتجهيز جيشها لخوض الحروب العصرية، وتلتزم بجداوله الزمنية بصورة مثالية، وقد هيأت له كل تشريعاتها اللازمة التي تسمح لها باستخدام القوة العسكرية إذا ما شعرت بأن مصالحها الخارجية في خطر، وذلك عندما عدلت بعض مواد الدستور التي كانت تحظر عليها إرسال جيشها خارج حدودها، وقد أشرنا إليه في مقال سابق، وهذه رسالة لها بعدان، الأول ربط مصالحها الخارجية بأمنها القومي، والثاني ربط أمن الدول المستقبلة لمصالحها بالأمن القومي الصيني.

ثانيا: استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة.

وقد صدرت مطلع أكتوبر الحالي / وأهم بنودها هي:

- لا توجد دولة في وضع أفضل للقيادة بقوة وهدف من الولايات المتحدة الأمريكية.

- الصين وروسيا أكبر تحديين استراتيجيين، وتصفهما الاستراتيجية بأنهما تحديان خاصان، ولكن مختلفان، فموسكو تعتبرها تحديا فوريا للنظام الدولي الحر والمفتوح، أما بكين فهي على النقيض من موسكو، فتصفها الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بأنها المنافس الوحيد الذي لديه نية لإعادة تشكيل النظام الدولي وبشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية.

- الدعوة إلى شرق أوسط أكثر اندماجا من شأنه أن يقلل على المدى البعيد «مطالب الموارد» من الولايات المتحدة الأمريكية.

- عدم سماح واشنطن للقوى الأجنبية أو الإقليمية بتعريض حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط للخطر، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب.

- لن تتسامح واشنطن مع الجهود التي تبذلها أي دولة للسيطرة على دولة أخرى أو المنطقة من خلال الحشود العسكرية أو التوغلات أو التهديدات.

- ستعمل واشنطن على تعزيز التكامل الإقليمي من خلال بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاء الولايات المتحدة وفيما بينهم، ومن ذلك هياكل الدفاع الجوي والبحري المتكاملة، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة.

- ستعمل الولايات المتحدة دائما على تعزيز حقوق الإنسان والقيم المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة - سيكون لنا حولها مقال مقبل -.

الملاحظة الأولى أن الالتزامات الأمريكية قديمة ومكررة من استراتيجيات أمريكية سابقة، وتكون السياسة التنفيذية لها مختلفة من ديمقراطي وجمهوري في البيت الأبيض، ومع ذلك يحدث اختلالات كبيرة في التنفيذ، فمثلا، لن ينسى كيف كانت القوات الأمريكية ومضاداتها في الخليج تتفرج على اختراق الطائرات المسيرة لقلب عاصمتين خليجيتين، واستهداف منشآت نفطية في وقت تزعم واشنطن أنها حامية للطاقة في الخليج ؟

الملاحظة الثانية غرور إدارة بايدن بالقوة الأمريكية الآيلة للمنافسة الوجودية، وعدم الاعتراف بالقوى المنافسة التي نجحت مؤخرا في تعزيز مصالحها على حساب واشنطن ودول غربية أخرى كفرنسا، وأصبحت منذ عدة سنوات تشكل التحدي الرئيسي للأمن القومي الأمريكي، وقد أشرنا إليها في مقدمة المقال.

الملاحظة الثالثة، عدم وجود ما يشير إلى وجود رغبة أمريكية في بناء علاقة أمريكية خليجية جديدة ذات براغماتية مشتركة تتجنب أخطاء الماضي والحاضر، ويبدو أنها لم تتعلم من الدرس السعودي حتى الآن حيث أملت عليها براغماتيتها الاقتصادية مواجهة الضغوطات الأمريكية، وهذا الغرور قد جعل واشنطن تقفز فوق الشقوق البنيوية التي ظهرت في قوتها وانعكاساتها على علاقاتها مع الخليج، كانسحابها المهين من أفغانستان والعراق، وجعلهما تعيشان في فوضى داخلية، وأيضا عجزها في حل قضايا الإرهاب والأزمات والتوترات الإقليمية.

هل هناك دولة خليجية تثق فيما تقوله واشنطن الآن ؟ ستحتاج واشنطن لوقت حتى تستعيد الثقة الخليجية فيها، وهي ليست قضية زمنية بقدر ما هي مصداقية الأقوال والأفعال، والاعتداد بمصالح شركائها في حقبة سياسية معقدة جدا.

الملاحظة الرابعة، إن إدارة بايدن ستعمل بكل قوة لمنع الشراكة الخليجية الصينية، فهل يمكن أن ينصاع الخليج لإكراه واشنطن بالتخلي عن تعاونها الاستراتيجي مع بكين، ومحاصرتها استراتيجيا، وهي تعلم عجز واشنطن الدولي، وملامح تقوقعها المستقبلي، وهي تعلم حجم منافعها مع بكين، ونجاح تنميتها المعاصرة عبر الارتباط بطريق الحزام والطريق ؟

لن تنجح واشنطن في تقديم تطمينات خليجية بأنها لوحدها الضامنة للأمن الخليجي، وكل ما ستعمله تشجيع إحلال الكيان الصهيوني كقوة في معادلة الأمن الإقليمي، ودمجها بروابط اقتصادية عميقة، وهي بذلك ستؤجج الصراعات الإقليمية وليس خفضها، وستؤثر على الأمن الإقليمي، ومثل ما طرحت الاستراتيجية الأمريكية أسئلة بشأن إذا ما كانت طبيعة العلاقات مع دول المنطقة تخدم مصالح وقيم أمريكا ؟ فعلى الدول الخليجية أن تطرح في الوقت نفسه التساؤل ذاته، فماذا ستكون الإجابة ؟.

لا شرقية ولا غربية وإنما تغليب البراغماتية فقط في ظل تحقيق التكامل الاقتصادي الخليجي سريعا، وبناء قوة عسكرية بأفق حماية السماء الخليجية من الطائرات المسيرة بعدما ما كشفت نجاعتها في الحرب الروسية الأوكرانية، وبعد ما أصبحت الجماعات السياسية تمتلكها، ولن يكون مفاجئا إذا أعلنت جماعات متطرفة إقليمية امتلاكها كذلك.