قبل جائحة كورونا واضطرارنا للجلوس في البيت، كان من الصعب تفسير ذلك الحب الكبير الذي يمكن أن يكنه الشخص لغرفته، مساحته الشخصية الصغيرة، التي تمثل بالنسبة له العالم كله. رغم أن هناك منتجات ثقافية رسخت نفسها خلال العقود الأخيرة، تدور حول المكان الضيق الصغير، الذي يمكن أن يمنح تجسيدات ملموسة لخريطة الأرض وما يحدث عليها، كسينما الغرفة الواحدة على سبيل المثال. أو القصص والروايات التي دارت في بعض الأحيان عن المكوث في "دولاب الملابس".

يؤكد الأدباء من خلال أعمال بديعة وعديدة أن أهم ما يمكن أن يحظى به الإنسان هو قدرته على أن يغلق على نفسه باب غرفة تخصه. هنالك مؤشرات عديدة على زيادة اهتمام الناس بتنظيم غرفهم، وحتى محاولة "تشجير" هذه المساحة الضيقة في المدن الكبيرة إبان الرأسمالية المتأخرة، فزادت وبصورة غير مسبوقة مبيعات النباتات خلال السنوات الثلاث الماضية، كما زادت الاستثمارات في مجالات الترفيه عبر الإنترنت، التي يمكن أن يستعملها الشخص وهو على سريره. في عام 1795 اضطر جرافيي دوميستر للجلوس في غرفته لمدة واحد وأربعين يوما، كتب على أثرها كتابه الوحيد والطريف: "رحلة حول غرفتي" هذا الكتاب الذي يعتبر من الكلاسيكيات والذي يعكس سمة مهمة قد ظن بعضنا أنهم لم يتوفروا عليها في ذلك الوقت، وهي القدرة على التعبير المباشر عن الفردانية، وعن الأشياء الصغيرة في زمن الملاحم والمعارك الكبرى. يقول دوميستر في يومه الأخير قبل أن يسمح له بمغادرة غرفته: "لقد منعوني من الجولان في مدينة تمثل نقطة، لكنهم تركوا لي الكون بأسره: العظمة والخلود تحت إمرتي. اليوم إذن أنا حر، أو بالأحرى سأكون في الأغلال أصفاد الرتابة سوف تثقل كاهلي من جديد، لن أقوم بعد الآن بخطوة لا تقاس باللياقة والواجب". في عام 1790 تم معاقبة دوميستر بسبب دخوله مبارزة بوضعه تحت الإقامة الجبرية لمدة 41 يوما استغلها ليقرر السفر في الغرفة، عندما يكون الطريق من السرير إلى المكتب، أو الوقوف بجانب المكتبة، عالما بأسره، يدفع دوميستر للاستطراد لا عن الغرفة ووحداتها فحسب، بل في التأمل في ذاته وحياته والآخرين وطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه آنذاك. وفي الوقت الذي تقطع فيه أعناق الأرستقراطيين، تمكن دوميستر بحسه الهزلي من تقديم سرد حساس وعذب ومضحك في بعض الأحيان عن كل ما عاشه خلال تلك الأيام.

في كتابه حول السفر يكتب آلان دو بوتون عن كتاب دوميستر هذا، وقد ترجم كلا الكتابين مؤخرا للعربية، قائلاً: "حاول دوميستر أن ينفض عنا هذه السلبية، ففي كتابه عن السفر في الغرفة، «رحلة ليلية حول غرفة نومي»، مضى إلى النافذة ورفع رأسه ناظرًا إلى سماء الليل. جعله جمال تلك السماء غاضبًا لأن تلك المشاهد العادية لا تحظى عامّة بمزيد من التقدير: «ما أقل الناس الذين يستمتعون، الآن تمامًا، بهذا المشهد السامي الذي تبسطه السماء عبثًا أمام بني البشر الغافلين! ماذا يكلف أولئك الخارجين في نزهة، أو المزدحمين في خروجهم من مسرح من المسارح إن هم رفعوا رؤوسهم لحظة وأُعجبوا بكوكبات النجوم اللامعة المشعّة من فوقهم؟». السبب الذي يجعل الناس لا ينظرون هو أنهم لم يفعلوا ذلك من قبل. لقد انزلقوا إلى اعتياد فكرة أن كونَها مكانا مضجرا - وبدوره، حذا كونُهم حذوهم فما خيّب توقّعاتهم أبدً".

ويشتق آلان دو بوتون مفهوما جديدا راقني بشدة وهو الرحلة "الدوميسترية" التي بدأ بتجربتها لا على نطاق الغرفة فحسب، بل في الحي الذي يعيش فيه مثلاً. الأمر الذي يثير فضولي بصورة خاصة حول ما يمكن أن نتعلمه عن أنفسنا والمكان الذي نعيش فيه لو أننا خضنا هذه المغامرة بالمنطق نفسه الذي انطلق به دوميستر، هذه المرة لا قسرا بسبب ظروف الحجر الصحي الذي تسببت به الجائحة بل رغبة منا في النظر إلى هذا اليومي والعادي والاشتباك الحقيقي معه، الذي يمكن أن يجعلنا نستطرد في مواقع أخرى من التجربة الوجودية على الرغم من الأمتار القصيرة التي نتحرك فيها، وقد عزمت بدوري على عيش هذه التجربة قريبا.

يقتبس الناقد مايكل ديردا في معرض حديثه عن "رحلة حول غرفتي" لويليام بليك قوله: "يمكن للمرء رؤية العالم في حبة رمل، والسماء في زهرة برية، ويمكن بهذا أن نمسك باللانهاية في راحة اليد، وأن يكون الخلود في غضون ساعة واحدة". يكتب ديردا أن عمل دوميستر هذا قد يكون حالة اختبار لهذا الاقتراح فالحياة في آخر الأمر هي كثافة تعامل المرء معها. فدوميستر يرى أن السرير يشهد ميلادنا وموتنا وأنه المسرح غير المتغير الذي تحدث عليه المآسي المروعة والدراما الآسرة، إنه عرش المحبة والقبر في الوقت نفسه. يرى ديردا أن أهم ما في هذا العمل هو الإيمان بالاستطراد الذي أشرتُ له أعلاه، فليس هنالك ما هو أكثر متعة وجاذبية من متابعة أفكار المرء وإلى أين ستقوده وتأخذه.

من المهم أن نشير أن آلان دو بوتون هو الذي قدم الطبعات الجديدة من الكتاب في ومقدمته الآسرة أشار إلى المقارنة بين دوميستر وديكارت، ديكارت الذي انحنى فوق موقد داخل نزل ليؤسس فلسفة كاملة والثاني الذي يتملس وحدات الغرفة وينظر للخادم والحبيبة والفن والسماء، مكرسا ذلك الإيمان بثراء الحياة الداخلية. تمنيت لو أن مقدمة آلان دو بوتون ترجمة في النسخة العربية من الكتاب التي صدرت عن دار المتوسط – إيطاليا.