للغربة مكانتها في الفلسفة وتاريخها لا تقل أهمية عن مكانتها في الفنون والأدب شعره ونثره، وذلك سواء من جهة المفهوم والرؤية، أومن جهة المعالجة والتحليل. ويدرك الناظر في تاريخ الفلسفة بيسر حضور قاموس متنوع في الغربة، يتكَّون من مفردات أساسية، منها: الغربة والغريب والمغترب، والهجرة والمهجَر والمُهاجر، واللجوء والملجأ واللاجئ، والنزوح والنازح، وارتباطها بحالات الاغتراب أو الاستلاب، والمنفى، والفراق، والعزلة، والغرابة، والحنين، والحدود المادية والثقافية والرمزية، والعلاقة المعقدة بين الذات والآخر، وبين الغريب أو الأجنبي والمواطن، وتأرجحه بين حدِّي الشخص المرغوب فيه (persona grata) وغير المرغوب فيه (persona no- grata)، والاستقبال والرفض، و الضيافة أو الاستقبال والإبعاد أو الرفض، وتحوُّله في الخطابات السياسية المعاصرة إلى حجة دائمة في إثبات أو نفي فكرة المواطنة العالمية وقيمها، أو المواطنة القومية وفضائلها، وإلى علة في تفسير مختلف المشاكل والأزمات التي تعرفها المجتمعات المستقبلة له، أو إلى عنصر توازن وانفتاح ورقي للمجتمعات ذاتها.
وفي تقديري، فإنَّ الغربة قد عرفت ثلاث محطَّات كبرى على الأقل، في تاريخ الفلسفة: تبدأ المحطة الأولى في الفلسفة اليونانية، ونقرأها في محاورات أفلاطون، وخاصة في محاورتي: الجمهورية، والقوانين أين يظهر الغريب أو الأجنبي بمظهر مُلتبس، فهو مقبول تارة ومرفوض تارة أخرى. مقبول بحكم الحاجة الاقتصادية إلى التجارة والتاجر. فلا يمكن للمدينة-الدولة أن تغلق أبوابها كلية أمام التاجر الأجنبي بحكم الضرورة، وبالتالي عليها أن تكون مدينة مضيافة، ومرحِّبة بالأجنبي. وعليها أن تكون مضيافة على الأقل أمام أربعة أنواع من الغرباء هم: التاجر، والسائح، والدبلوماسي، وشخص رابع يسميه أفلاطون الملاحظ أو المستكشف، والذي أصبحنا نسميه اليوم المراسل. والسبب الذي يجعل المدينة تستضيف هؤلاء الغرباء هو كونهم يتمتعون بصفة واحدة ألا وهي أنَّهم يحضرون حضورًا مؤقَّتًا، وأنَّ إقامتهم محدَّدة بزمان قصير.
من هنا ميَّز أفلاطون بين هؤلاء الأجانب المؤقَّتون وبين الذي يسميه الأجنبي المقيم (météque)، أو الدخيل المقيم، الذي يحيى على أطراف المدينة، ولا يجب أن يصبح مواطنًا، مهما طال به الأمد في المدينة. والسبب الذي يجعله مقيمًا إقامة شبه دائمة، ولكنها في جميع الأحوال هشة، هو الحاجة إلى خدماته اليدوية؛ لأنَّ المواطن اليوناني يتفرغ لشؤون المدينة السياسية والتنظيمية والتعليمية وغيرها من الشؤون التي تحتاجها المدينة –الدولة. ويشبه هذا الدخيل المقيم مقارنة بالمواطن الأصيل، الوجود بالقوة في مقابل الوجود بالفعل. وهذا يعني أنَّ أفلاطون يعترف بالحاجة إلى هؤلاء الدخلاء المقيمين، ولكنه يرفض تحولهم إلى مواطنين، فالحدود مع المواطن، كما يقول، لا يجب تجاوزها مهما كبرت الحاجة وعظمت (أفلاطون، القوانين). يقيم هذا المقيم الدخيل في داخل المدينة وخارجها، إنَّه يسكن فيها ولكنه بعيد عنها، إنَّها تستقبله، وقد ترحب به، وتستضيفه، ولكنها تستبعده ولا تدمجه، رغم أن هذه المدينة ذاتها، لا تستطيع أن تتحرَّر منه. لقد أصبحت هذه المدينة مسكونة بالآخر أو الغير الذي تحوَّل إلى مبدأ منظم في الثقافة اليونانية وحضارتها، ويقسم البشرية إلى الأجنبي البربري وإلى المواطن اليوناني، بل إننا نجد أنَّ هذه الثقافة اليونانية قد جعلت من الإبعاد (ostracisme)، بما هو حكم بالغربة على المواطن، عقوبة قاسية، تسلَّط على كل مواطن لا يحترم قيم ومبادئ مدينة أثينا.
ولقد عبَّر الأدب اليوناني عن هذه التجربة القاسية بأشكال مختلفة، وخاصة الأدب المسرحي كما نقرأه في نصوص يوريبديس، حيث يظهر الإبعاد واللجوء مرادفًا للشر الذي يُصيب المواطن اليوناني؛ لأنَّه يفقده سمة عزيزة على هذا المواطن ألَا وهي سمة الصراحة التي تعني قول الحقيقة، ويُفرض عليه العيش في هوية (كاذبة) أو(سلبية)، كما سأبيِّن ذلك لاحقًا. يروي يوربيديس في مسرحيته المسماة الفينيقيات الحوار الآتي: (يوريبديس، الفينيقيات، ).
وإذا كانت الفلسفة اليونانية قد نظرت إلى الغربة والغريب من منظور سياسي وأخلاقي، فإنَّ الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط قد نظرت إلى الغربة نظرة دينية ووجودية وجمالية، لذا يصح القول إنَّ الغربة قد توسعت في محطتها الثانية، وتحوَّلت إلى مقولة وجودية. فقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما نصه: . وجعل المتصوفة من الغربة بعدًا من أبعاد وجودهم الروحي والمادي على حد سواء. يقول ابن عربي:. (ابن عربي، الفتوحات المكية، ). وتعمَّق في هذه الفكرة السهروردي في رسالته: الغربة الغربية التي يروي فيها قصته الرمزية القائمة على الانفصال عن (مشرق الأنوار) أو الأصل، والسقوط في عالم البرزخ.
واستعملت الفلسفة الإسلامية لفظًا آخر للدلالة على الغربة والغريب، وهو لفظ (النوابت) الذي نقرأه عند الفيلسوف ابن باجة صاحب كتاب: تدبير المتوحد، الذي حدَّده بقوله: . (ابن باجة، الرسائل الإلهية).
ولكن الذي وقف عند الغربة بمختلف أبعادها الوجودية والنفسية والاجتماعية، وعاش حياة الغربة والغريب هو بلا منازع (أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء)، كما وصفه بذلك ياقوت الحموي، وأعني به أبو حيان التوحيدي الذي ترك لنا صفحات خالدة في الغربة والغريب، توقَّف عندها كثير من الباحثين المعاصرين بالدراسة والتحليل والتأويل، وذلك نظرًا لقيمتها التاريخية والفلسفية على حد سواء. يقول التوحيدي: (التوحيدي، الإشارات الإلهية). إن معاني الغربة والاستعراف المرافقة للغريب الذي أصبح غير مرئي في نظر التوحيدي، سيعرف تحوُّلات مهمة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، يصعب الوقوف عند مختلف وجوهها، نظرًا لكثافتها وتعقدها وتشابكها، إلَّا أنَّه مع ذلك يجب الإشارة إلى بعض الجوانب، ومنها مفهوم الاغتراب الملازم للغربة. تحيل المعاجم العربية القديمة والحديثة كلمة الاغتراب إلى الغربة، والنوى، والبعد، والذهاب، والنزوح عن الوطن. ويفيد الأصل اللاتيني لكلمة الاغتراب أو الاستلاب (alienation) التحويل، وخاصة تحويل شيء ليصبح ملكية شخص آخر. كما تعني الانتزاع والإزالة المتصلة بعمليات انتقال الملكية. فعندما تنتقل ملكية شخص ما لشخص آخر، تصبح تلك الملكية غريبة عن الشخص الأول. كما تدل على حالة العلاقة بين الأشخاص الذين كانت تجمعهم الصداقة ثم أصبحت فاترة أو محدودة أو منقطعة. وأخيرًا، فإنَّ كلمة الاغتراب تدل على المرض الذي يصيب النفس، ويلحق بها التصدع، وغياب الوعي، وهوما يعني اكتساب الكلمة لدلالة طبية ونفسية لا تزال تستعمل في عمليات التشخيص النفسي.
وللاغتراب تاريخ ممتد ومتشعب في الفلسفة المعاصرة، لا يربطه بالغربة فقط، وإنَّما يفتحه على الظواهر الجديدة للمجتمعات المعاصرة، ومنها العمل والهجرة. ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو أنَّ الكلمة المستعملة والمتداولة في كثير من البلدان التي يهاجر منها مواطنوها، ومنها مواطنو بلدان المغرب العربي على سبيل المثال، لا تزال تستعمل كلمة الغربة، ولا يزال يوصف المهاجر بالمغترب. ويعد الفيلسوف الألماني هيجل في القرن التاسع عشر، أهم فيلسوف صاغ مفهوم الاغتراب في علاقته بالغربة، وذلك في كتابه المعروف: فينومينولوجيا الروح. ويكمن إسهامه الأساسي في حديثه عن (عالم الروح المغترب عن ذاته) الذي يتميَّز بالانفصال بين العالم الواقعي الفعلي وبين عالم العقل أو المثال أو الفكرة بوصفها ماهية العالم الواقعي، وخاصة بين الفرد والمجتمع والدولة والثروة. فكل عنصر من هذه العناصر مغترب عن العناصر الأخرى. ويعتبر النسق الفلسفي الهيجلي، محاولة لإعادة العلاقة بين هذه العناصر، وذلك من خلال المنطق الجدلي.
وأصبح لمفهوم الاغتراب أهمية خاصة عند من يسمون في تاريخ الفلسفة الهيجلية باليسار الهيجلي الذي اهتم بمفهوم الاغتراب، وخاصة الاغتراب الديني الذي صاغه فيورباخ في كتابه المعروف: جوهر المسيحية، بحيث حدَّد الاغتراب بوصفه العملية التي يقنع الإنسان بها نفسه بوجود ألوهية متخيلة يخضع لأوامرها. ولكن على الرغم من إسهام الفلسفة المثالية الألمانية بتياراتها المختلفة في صياغة مفهوم الاغتراب، إلَّا أنَّ المؤرخين والدارسين يكادون يتفقون على أنَّ المعنى الفلسفي لهذا المفهوم إنَّما يعود إلى الفيلسوف المجري الماركسي جورج لوكاتش في كتابه: التاريخ والوعي الطبقي، حيث قدَّم صياغة نظرية لهذا المفهوم لا تزال إلى اليوم موضوع مناقشة ونقد وتطوير وإثراء في الوقت نفسه.
ويتمثل إسهام جورج لوكاتش في إعادة قراءة كتاب ماركس: رأس المال، وخاصة النصوص المتعلقة بما يسمى (الطابع الشيئي للسلعة)، مستندا في ذلك إلى مفهوم الاغتراب عند هيجل، بحيث توصَّل إلى فكرة مؤدَّاها: إنَّ العمل في ظل العلاقات الرأسمالية يكون غريبًا عن العامل، ومستقلًّا عنه، ويهيمن عليه بقوانين مستقلة وغريبة عنه في الوقت نفسه وهو ما سماه بالتشيؤ أو الصنمية (reification)، وكان ذلك تحت تأثير نشر المخطوطات الاقتصادية والفلسفية التي كتبها ماركس في عام 1848، ونشرت في عام 1932. وهذه المخطوطات عبارة عن مجموعة النصوص التي تنتمي إلى مرحلة الشباب، وفقًا لبعض تصنيفات أعمال ماركس، ومنها قراءة الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير في كتابه: من أجل ماركس. وفي هذه المخطوطات يظهر بجلاء الدور الأساسي لمفهوم الاغتراب في تحليلات ماركس السياسة والاقتصادية، بل هنالك من يذهب إلى القول إنَّ ماركس قدَّم نظرية في الاغتراب متزامنة مع نظريته في الاقتصاد السياسي، وخاصة نظرية فائض القيمة، وعلاقتها بالعمل المغترب الذي يتحوَّل فيه منتوج العمل إلى شيء غريب عن المنتج أو العامل، ويكتسي قوة مستقلة عنه. وهذا يعني أنَّ اغتراب العامل يشير إلى أنَّ العمل قد أصبح شيئًا غريبًا عن العامل. ولم يكتف ماركس بذلك، وإنَّما بيَّن بعض الخصائص الأساسية للعمل المغترب في المجتمع البورجوازي، ومنها أن العمل في هذا المجتمع أصبح يمارس الهيمنة على العمال، ولم يعد منتوج العمل ملكًا للعامل، وإنَّما أصبح غريبًا عليه، وذلك بحكم تحديد ماركس لهوية الإنسان وماهيته من جهة العمل.
ولا يزال هذا النقاش قائمًا حول جدوى استعمال الاغتراب في وصف وتحليل الظواهر النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وخاصة بعد أن عزَّزته ظواهر كثيرة، أهمُّها ظاهرة الهجرة التي تكثَّفت مع عصر العولمة أو الرأسمالية المعمَّمة، وأصبحت موضوعًا رئيسيًّا في كل نقاش فلسفي أو سياسي أو أدبي. ومما لا شك فيه أنَّ الهجرة تعد تجسيدًا لمختلف معاني الغربة والغريب، فكيف تنظر الفلسفة الاجتماعية إلى هذه التحولات الجديدة التي عرفتها مجتمعاتنا المعاصرة؟
ثمة في النظرية السياسية المعاصرة موقفان متعارضان من الهجرة، يمثل الموقف الأول التيار الجمعاتي (communautariste) الذي يرى إجمالًا أنَّ على الغريب أن يبقى غريبًا، والمهاجر مهاجرًا، وهو بذلك يعيد إنتاج الموقف اليوناني القديم الذي عبَّر عنه أفلاطون، مع بعض التعديلات الطفيفة، ويقابله التيار الليبرالي الذي يقرُّ بمبدأ المساواة بين جميع مواطني العالم على المستوى الأخلاقي، ولكنه يتحفظ على المساواة السياسية، بحكم (الضرورة) التي تفرضها الدولة القومية أو الوطنية.
وبالنظر إلى المفارقة الظاهرة في النظرية الليبرالية، فإنَّ بعض الفلاسفة المعاصرين، ممن يصح وصفهم بأنصار النزعة الإنسانية، فضَّلوا إحياء مفهوم الضيافة، ومنهم جاك دريدا الذي عمل ضمن البرلمان العالمي للكتاب والمؤلفين على إنشاء ما سمي بـ(مدن اللجوء)، وذلك منذ عام 1996 في مدينة ستراسبورج الفرنسية باعتبارها تمثل المقر الرسمي لبرلمان الاتحاد الأوربي. تستند هذه الدعوة إلى النزعة الكونية (cosmopolitisme)، وإلى الحق في اللجوء والضيافة، وتعبر عن التضامن الإنساني بين مختلف شعوب العالم، وواجبها في استقبال اللاجئ، والمهاجر، والنازح، والمبعد، وأن تعمل على تصحيح السياسات الرسمية في الهجرة القائمة على البعد النفعي الاقتصادي فقط، وإعادة النظر في فكرة الانتماء. ومما لا شك فيه أنَّ ثمة تاريخًا للضيافة وأخلاقها، وأن على مدن اللجوء أن تستعيد هذا الميراث الذي بدأ مع الديانات السماوية، وعبَر الفكر القديم والوسيط، وتعزَّز بمبادئي حقوق الإنسان في العصر الحديث التي تحتاج إلى تطوير يستجيب للحالات الجديدة التي تعرفها الهجرة، بحيث تصبح مدن اللجوء تعبيرًا عن هذه التحوُّلات والتطورات التي يحكمها قانون الضيافة بوصفه صورة جديدة للنزعة الكونية المعاصرة، أو المعمورة بحسب عبارة الفارابي في مدينته الفاضلة.
ولقد تحولت فكرة الضيافة كما قدَّمها دريدا إلى موضوع أساسي للنقاش في الفلسفة الاجتماعية، وخاصة فكرته عن الضيافة المشروطة وغير المشروطة، ومدى جدواها النظري والعملي، خاصة وأنَّ دريدا نفسه يعرضها كمستحيل وغير ممكن. صحيح أنَّ دريدا أراد تفكيك التقاليد التي تأصلت فيها الضيافة حتى ينظر في حدودها القصوى، إلَّا أنَّه، وبحسب الفيلسوف إيف شارل زركا، قد أفرغ الضيافة من معناها، وذلك بمحو شرطها الأساسي ألَا وهو: وجود المستقبل، وعدم التمييز بين الذات والآخر، الذي يمثل شرط الاستقبال. (إيف شارل زركا، ما الذي تعنيه الضيافة اليوم، في مجلة (Cités).
والحقيقة هي أنَّه إذا كان المنظور الإنساني والسياسي في صورته الليبرالية، يعمل على إيجاد مخارج لحالة الغربة والهجرة من خلال اجتهادات نظرية، فإنَّ ما يجب التركيز عليه هو حالة الغريب أو المهاجر أو بالأحرى تجربة الغريب الذي يكابد المؤقت والوهم في حياته ما أن يقرِّر الهجرة بشكل إرادي أو غير إرادي، بحيث يمكن القول أنَّ الغريب مسكون بالمؤقت وبوهم العودة، وخاصة في الحالة المرتبطة بالهجرة من أجل العمل، التي تشكِّل الحالة الكبرى، كمَّا ونوعًا، مقارنة بحالات اللجوء، والنزوح، والسفر وغيرها من الحالات الملازمة للغربة أو الهجرة.
وتتَّصف الهجرة من أجل العمل بطابعها الهش المتمثل في دوام المؤقت، ووهم العودة إلى الديار الأولى، وذلك لأنَّ المهاجر الذي يمثِّل الآخر أو الغريب أو الأجنبي في بلاد المهجر والغربة، فإنَّه سيتحوَّل إلى آخر في موطنه الأول، وذلك بحكم نظرة أهله له. لقد أصبح غريبًا حقًّا، وشخصًا آخر في الحالتين، وتلك واحدة من مفارقات الغربة والهجرة التي تتجسد ماديًّا ورمزيًّا في الغياب المزدوج، بحسب عبارة عالم الاجتماع الجزائري عبد المالك صيَّاد الذي اختص في هذا الموضوع، وقدَّم أعمالًا متميزةً برفقة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (عبد المالك صياد، الهجرة أو مفارقات الغيرية.
وينجم عن هذه المفارقة تشكيل هويات سلبية، أو هويات متفجرة، وممزقة، ومحطمة، مع أن الهوية بالتعريف لا تقبل الانقسام، وتتصف بالانسجام والاستقلال والحرية. ولكن الغريب في غربته أو المهاجر في هجرته ومهجره سيكتسب هوية سلبية وممزقة، بفعل التاريخ، وتقلبات الزمن، وانقلاب الظروف، وبذلك يكون الغريب نتاجًا مباشرًا لتجربة الغربة أو الهجرة، وبالأخص لعلاقات الهيمنة، وتجسيدًا لها في الوقت نفسه. وتتجلى علاقات الهيمنة بشكلها الشفاف في كل ما تعلق بالغربة والهجرة واللجوء والنزوح، مهما اختلفت الدرجات، وتعددت الأسباب، وذلك بحكم هشاشة وضعف حالة المهاجر أو الغريب، وقابليته للانجراح والانكسار والعطب.
ومن هنا يمكن القول إنَّ في اصطلاح الهوية السلبية والمتشظية والممزقة التي يعاني منها الغريب أو المهاجر ما يوجز كل تلك العبارات التي وصف بها التوحيدي نفسه بوصفه غريبًا يعيش غربة عصره. هذه الغربة التي تحولت مع الزمن والقرون إلى آلية لإنتاج الهجرة وصناعة الهوية السلبية المتأرجحة بين وعود الاعتراف بحقوقها وبين ضرورات (الدولة القومية)، وهوما يعني أن فصول سرديتها مفتوحة أمام تجارب إنسانية كثيرة، وأمام قدرتها الإنجازية في صناعة الممكنات العملية والنظرية، والإسهام في تطوير قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحد من إكراهات الهيمنة والإقصاء.
الزواوي بغورة مفكر ومترجم جزائري يعمل أستاذا للفلسفة في قسم الفلسفة بجامعة الكويت.
وفي تقديري، فإنَّ الغربة قد عرفت ثلاث محطَّات كبرى على الأقل، في تاريخ الفلسفة: تبدأ المحطة الأولى في الفلسفة اليونانية، ونقرأها في محاورات أفلاطون، وخاصة في محاورتي: الجمهورية، والقوانين أين يظهر الغريب أو الأجنبي بمظهر مُلتبس، فهو مقبول تارة ومرفوض تارة أخرى. مقبول بحكم الحاجة الاقتصادية إلى التجارة والتاجر. فلا يمكن للمدينة-الدولة أن تغلق أبوابها كلية أمام التاجر الأجنبي بحكم الضرورة، وبالتالي عليها أن تكون مدينة مضيافة، ومرحِّبة بالأجنبي. وعليها أن تكون مضيافة على الأقل أمام أربعة أنواع من الغرباء هم: التاجر، والسائح، والدبلوماسي، وشخص رابع يسميه أفلاطون الملاحظ أو المستكشف، والذي أصبحنا نسميه اليوم المراسل. والسبب الذي يجعل المدينة تستضيف هؤلاء الغرباء هو كونهم يتمتعون بصفة واحدة ألا وهي أنَّهم يحضرون حضورًا مؤقَّتًا، وأنَّ إقامتهم محدَّدة بزمان قصير.
من هنا ميَّز أفلاطون بين هؤلاء الأجانب المؤقَّتون وبين الذي يسميه الأجنبي المقيم (météque)، أو الدخيل المقيم، الذي يحيى على أطراف المدينة، ولا يجب أن يصبح مواطنًا، مهما طال به الأمد في المدينة. والسبب الذي يجعله مقيمًا إقامة شبه دائمة، ولكنها في جميع الأحوال هشة، هو الحاجة إلى خدماته اليدوية؛ لأنَّ المواطن اليوناني يتفرغ لشؤون المدينة السياسية والتنظيمية والتعليمية وغيرها من الشؤون التي تحتاجها المدينة –الدولة. ويشبه هذا الدخيل المقيم مقارنة بالمواطن الأصيل، الوجود بالقوة في مقابل الوجود بالفعل. وهذا يعني أنَّ أفلاطون يعترف بالحاجة إلى هؤلاء الدخلاء المقيمين، ولكنه يرفض تحولهم إلى مواطنين، فالحدود مع المواطن، كما يقول، لا يجب تجاوزها مهما كبرت الحاجة وعظمت (أفلاطون، القوانين). يقيم هذا المقيم الدخيل في داخل المدينة وخارجها، إنَّه يسكن فيها ولكنه بعيد عنها، إنَّها تستقبله، وقد ترحب به، وتستضيفه، ولكنها تستبعده ولا تدمجه، رغم أن هذه المدينة ذاتها، لا تستطيع أن تتحرَّر منه. لقد أصبحت هذه المدينة مسكونة بالآخر أو الغير الذي تحوَّل إلى مبدأ منظم في الثقافة اليونانية وحضارتها، ويقسم البشرية إلى الأجنبي البربري وإلى المواطن اليوناني، بل إننا نجد أنَّ هذه الثقافة اليونانية قد جعلت من الإبعاد (ostracisme)، بما هو حكم بالغربة على المواطن، عقوبة قاسية، تسلَّط على كل مواطن لا يحترم قيم ومبادئ مدينة أثينا.
ولقد عبَّر الأدب اليوناني عن هذه التجربة القاسية بأشكال مختلفة، وخاصة الأدب المسرحي كما نقرأه في نصوص يوريبديس، حيث يظهر الإبعاد واللجوء مرادفًا للشر الذي يُصيب المواطن اليوناني؛ لأنَّه يفقده سمة عزيزة على هذا المواطن ألَا وهي سمة الصراحة التي تعني قول الحقيقة، ويُفرض عليه العيش في هوية (كاذبة) أو(سلبية)، كما سأبيِّن ذلك لاحقًا. يروي يوربيديس في مسرحيته المسماة الفينيقيات الحوار الآتي: (يوريبديس، الفينيقيات، ).
وإذا كانت الفلسفة اليونانية قد نظرت إلى الغربة والغريب من منظور سياسي وأخلاقي، فإنَّ الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط قد نظرت إلى الغربة نظرة دينية ووجودية وجمالية، لذا يصح القول إنَّ الغربة قد توسعت في محطتها الثانية، وتحوَّلت إلى مقولة وجودية. فقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما نصه: . وجعل المتصوفة من الغربة بعدًا من أبعاد وجودهم الروحي والمادي على حد سواء. يقول ابن عربي:. (ابن عربي، الفتوحات المكية، ). وتعمَّق في هذه الفكرة السهروردي في رسالته: الغربة الغربية التي يروي فيها قصته الرمزية القائمة على الانفصال عن (مشرق الأنوار) أو الأصل، والسقوط في عالم البرزخ.
واستعملت الفلسفة الإسلامية لفظًا آخر للدلالة على الغربة والغريب، وهو لفظ (النوابت) الذي نقرأه عند الفيلسوف ابن باجة صاحب كتاب: تدبير المتوحد، الذي حدَّده بقوله: . (ابن باجة، الرسائل الإلهية).
ولكن الذي وقف عند الغربة بمختلف أبعادها الوجودية والنفسية والاجتماعية، وعاش حياة الغربة والغريب هو بلا منازع (أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء)، كما وصفه بذلك ياقوت الحموي، وأعني به أبو حيان التوحيدي الذي ترك لنا صفحات خالدة في الغربة والغريب، توقَّف عندها كثير من الباحثين المعاصرين بالدراسة والتحليل والتأويل، وذلك نظرًا لقيمتها التاريخية والفلسفية على حد سواء. يقول التوحيدي: (التوحيدي، الإشارات الإلهية). إن معاني الغربة والاستعراف المرافقة للغريب الذي أصبح غير مرئي في نظر التوحيدي، سيعرف تحوُّلات مهمة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، يصعب الوقوف عند مختلف وجوهها، نظرًا لكثافتها وتعقدها وتشابكها، إلَّا أنَّه مع ذلك يجب الإشارة إلى بعض الجوانب، ومنها مفهوم الاغتراب الملازم للغربة. تحيل المعاجم العربية القديمة والحديثة كلمة الاغتراب إلى الغربة، والنوى، والبعد، والذهاب، والنزوح عن الوطن. ويفيد الأصل اللاتيني لكلمة الاغتراب أو الاستلاب (alienation) التحويل، وخاصة تحويل شيء ليصبح ملكية شخص آخر. كما تعني الانتزاع والإزالة المتصلة بعمليات انتقال الملكية. فعندما تنتقل ملكية شخص ما لشخص آخر، تصبح تلك الملكية غريبة عن الشخص الأول. كما تدل على حالة العلاقة بين الأشخاص الذين كانت تجمعهم الصداقة ثم أصبحت فاترة أو محدودة أو منقطعة. وأخيرًا، فإنَّ كلمة الاغتراب تدل على المرض الذي يصيب النفس، ويلحق بها التصدع، وغياب الوعي، وهوما يعني اكتساب الكلمة لدلالة طبية ونفسية لا تزال تستعمل في عمليات التشخيص النفسي.
وللاغتراب تاريخ ممتد ومتشعب في الفلسفة المعاصرة، لا يربطه بالغربة فقط، وإنَّما يفتحه على الظواهر الجديدة للمجتمعات المعاصرة، ومنها العمل والهجرة. ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو أنَّ الكلمة المستعملة والمتداولة في كثير من البلدان التي يهاجر منها مواطنوها، ومنها مواطنو بلدان المغرب العربي على سبيل المثال، لا تزال تستعمل كلمة الغربة، ولا يزال يوصف المهاجر بالمغترب. ويعد الفيلسوف الألماني هيجل في القرن التاسع عشر، أهم فيلسوف صاغ مفهوم الاغتراب في علاقته بالغربة، وذلك في كتابه المعروف: فينومينولوجيا الروح. ويكمن إسهامه الأساسي في حديثه عن (عالم الروح المغترب عن ذاته) الذي يتميَّز بالانفصال بين العالم الواقعي الفعلي وبين عالم العقل أو المثال أو الفكرة بوصفها ماهية العالم الواقعي، وخاصة بين الفرد والمجتمع والدولة والثروة. فكل عنصر من هذه العناصر مغترب عن العناصر الأخرى. ويعتبر النسق الفلسفي الهيجلي، محاولة لإعادة العلاقة بين هذه العناصر، وذلك من خلال المنطق الجدلي.
وأصبح لمفهوم الاغتراب أهمية خاصة عند من يسمون في تاريخ الفلسفة الهيجلية باليسار الهيجلي الذي اهتم بمفهوم الاغتراب، وخاصة الاغتراب الديني الذي صاغه فيورباخ في كتابه المعروف: جوهر المسيحية، بحيث حدَّد الاغتراب بوصفه العملية التي يقنع الإنسان بها نفسه بوجود ألوهية متخيلة يخضع لأوامرها. ولكن على الرغم من إسهام الفلسفة المثالية الألمانية بتياراتها المختلفة في صياغة مفهوم الاغتراب، إلَّا أنَّ المؤرخين والدارسين يكادون يتفقون على أنَّ المعنى الفلسفي لهذا المفهوم إنَّما يعود إلى الفيلسوف المجري الماركسي جورج لوكاتش في كتابه: التاريخ والوعي الطبقي، حيث قدَّم صياغة نظرية لهذا المفهوم لا تزال إلى اليوم موضوع مناقشة ونقد وتطوير وإثراء في الوقت نفسه.
ويتمثل إسهام جورج لوكاتش في إعادة قراءة كتاب ماركس: رأس المال، وخاصة النصوص المتعلقة بما يسمى (الطابع الشيئي للسلعة)، مستندا في ذلك إلى مفهوم الاغتراب عند هيجل، بحيث توصَّل إلى فكرة مؤدَّاها: إنَّ العمل في ظل العلاقات الرأسمالية يكون غريبًا عن العامل، ومستقلًّا عنه، ويهيمن عليه بقوانين مستقلة وغريبة عنه في الوقت نفسه وهو ما سماه بالتشيؤ أو الصنمية (reification)، وكان ذلك تحت تأثير نشر المخطوطات الاقتصادية والفلسفية التي كتبها ماركس في عام 1848، ونشرت في عام 1932. وهذه المخطوطات عبارة عن مجموعة النصوص التي تنتمي إلى مرحلة الشباب، وفقًا لبعض تصنيفات أعمال ماركس، ومنها قراءة الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير في كتابه: من أجل ماركس. وفي هذه المخطوطات يظهر بجلاء الدور الأساسي لمفهوم الاغتراب في تحليلات ماركس السياسة والاقتصادية، بل هنالك من يذهب إلى القول إنَّ ماركس قدَّم نظرية في الاغتراب متزامنة مع نظريته في الاقتصاد السياسي، وخاصة نظرية فائض القيمة، وعلاقتها بالعمل المغترب الذي يتحوَّل فيه منتوج العمل إلى شيء غريب عن المنتج أو العامل، ويكتسي قوة مستقلة عنه. وهذا يعني أنَّ اغتراب العامل يشير إلى أنَّ العمل قد أصبح شيئًا غريبًا عن العامل. ولم يكتف ماركس بذلك، وإنَّما بيَّن بعض الخصائص الأساسية للعمل المغترب في المجتمع البورجوازي، ومنها أن العمل في هذا المجتمع أصبح يمارس الهيمنة على العمال، ولم يعد منتوج العمل ملكًا للعامل، وإنَّما أصبح غريبًا عليه، وذلك بحكم تحديد ماركس لهوية الإنسان وماهيته من جهة العمل.
ولا يزال هذا النقاش قائمًا حول جدوى استعمال الاغتراب في وصف وتحليل الظواهر النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وخاصة بعد أن عزَّزته ظواهر كثيرة، أهمُّها ظاهرة الهجرة التي تكثَّفت مع عصر العولمة أو الرأسمالية المعمَّمة، وأصبحت موضوعًا رئيسيًّا في كل نقاش فلسفي أو سياسي أو أدبي. ومما لا شك فيه أنَّ الهجرة تعد تجسيدًا لمختلف معاني الغربة والغريب، فكيف تنظر الفلسفة الاجتماعية إلى هذه التحولات الجديدة التي عرفتها مجتمعاتنا المعاصرة؟
ثمة في النظرية السياسية المعاصرة موقفان متعارضان من الهجرة، يمثل الموقف الأول التيار الجمعاتي (communautariste) الذي يرى إجمالًا أنَّ على الغريب أن يبقى غريبًا، والمهاجر مهاجرًا، وهو بذلك يعيد إنتاج الموقف اليوناني القديم الذي عبَّر عنه أفلاطون، مع بعض التعديلات الطفيفة، ويقابله التيار الليبرالي الذي يقرُّ بمبدأ المساواة بين جميع مواطني العالم على المستوى الأخلاقي، ولكنه يتحفظ على المساواة السياسية، بحكم (الضرورة) التي تفرضها الدولة القومية أو الوطنية.
وبالنظر إلى المفارقة الظاهرة في النظرية الليبرالية، فإنَّ بعض الفلاسفة المعاصرين، ممن يصح وصفهم بأنصار النزعة الإنسانية، فضَّلوا إحياء مفهوم الضيافة، ومنهم جاك دريدا الذي عمل ضمن البرلمان العالمي للكتاب والمؤلفين على إنشاء ما سمي بـ(مدن اللجوء)، وذلك منذ عام 1996 في مدينة ستراسبورج الفرنسية باعتبارها تمثل المقر الرسمي لبرلمان الاتحاد الأوربي. تستند هذه الدعوة إلى النزعة الكونية (cosmopolitisme)، وإلى الحق في اللجوء والضيافة، وتعبر عن التضامن الإنساني بين مختلف شعوب العالم، وواجبها في استقبال اللاجئ، والمهاجر، والنازح، والمبعد، وأن تعمل على تصحيح السياسات الرسمية في الهجرة القائمة على البعد النفعي الاقتصادي فقط، وإعادة النظر في فكرة الانتماء. ومما لا شك فيه أنَّ ثمة تاريخًا للضيافة وأخلاقها، وأن على مدن اللجوء أن تستعيد هذا الميراث الذي بدأ مع الديانات السماوية، وعبَر الفكر القديم والوسيط، وتعزَّز بمبادئي حقوق الإنسان في العصر الحديث التي تحتاج إلى تطوير يستجيب للحالات الجديدة التي تعرفها الهجرة، بحيث تصبح مدن اللجوء تعبيرًا عن هذه التحوُّلات والتطورات التي يحكمها قانون الضيافة بوصفه صورة جديدة للنزعة الكونية المعاصرة، أو المعمورة بحسب عبارة الفارابي في مدينته الفاضلة.
ولقد تحولت فكرة الضيافة كما قدَّمها دريدا إلى موضوع أساسي للنقاش في الفلسفة الاجتماعية، وخاصة فكرته عن الضيافة المشروطة وغير المشروطة، ومدى جدواها النظري والعملي، خاصة وأنَّ دريدا نفسه يعرضها كمستحيل وغير ممكن. صحيح أنَّ دريدا أراد تفكيك التقاليد التي تأصلت فيها الضيافة حتى ينظر في حدودها القصوى، إلَّا أنَّه، وبحسب الفيلسوف إيف شارل زركا، قد أفرغ الضيافة من معناها، وذلك بمحو شرطها الأساسي ألَا وهو: وجود المستقبل، وعدم التمييز بين الذات والآخر، الذي يمثل شرط الاستقبال. (إيف شارل زركا، ما الذي تعنيه الضيافة اليوم، في مجلة (Cités).
والحقيقة هي أنَّه إذا كان المنظور الإنساني والسياسي في صورته الليبرالية، يعمل على إيجاد مخارج لحالة الغربة والهجرة من خلال اجتهادات نظرية، فإنَّ ما يجب التركيز عليه هو حالة الغريب أو المهاجر أو بالأحرى تجربة الغريب الذي يكابد المؤقت والوهم في حياته ما أن يقرِّر الهجرة بشكل إرادي أو غير إرادي، بحيث يمكن القول أنَّ الغريب مسكون بالمؤقت وبوهم العودة، وخاصة في الحالة المرتبطة بالهجرة من أجل العمل، التي تشكِّل الحالة الكبرى، كمَّا ونوعًا، مقارنة بحالات اللجوء، والنزوح، والسفر وغيرها من الحالات الملازمة للغربة أو الهجرة.
وتتَّصف الهجرة من أجل العمل بطابعها الهش المتمثل في دوام المؤقت، ووهم العودة إلى الديار الأولى، وذلك لأنَّ المهاجر الذي يمثِّل الآخر أو الغريب أو الأجنبي في بلاد المهجر والغربة، فإنَّه سيتحوَّل إلى آخر في موطنه الأول، وذلك بحكم نظرة أهله له. لقد أصبح غريبًا حقًّا، وشخصًا آخر في الحالتين، وتلك واحدة من مفارقات الغربة والهجرة التي تتجسد ماديًّا ورمزيًّا في الغياب المزدوج، بحسب عبارة عالم الاجتماع الجزائري عبد المالك صيَّاد الذي اختص في هذا الموضوع، وقدَّم أعمالًا متميزةً برفقة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (عبد المالك صياد، الهجرة أو مفارقات الغيرية.
وينجم عن هذه المفارقة تشكيل هويات سلبية، أو هويات متفجرة، وممزقة، ومحطمة، مع أن الهوية بالتعريف لا تقبل الانقسام، وتتصف بالانسجام والاستقلال والحرية. ولكن الغريب في غربته أو المهاجر في هجرته ومهجره سيكتسب هوية سلبية وممزقة، بفعل التاريخ، وتقلبات الزمن، وانقلاب الظروف، وبذلك يكون الغريب نتاجًا مباشرًا لتجربة الغربة أو الهجرة، وبالأخص لعلاقات الهيمنة، وتجسيدًا لها في الوقت نفسه. وتتجلى علاقات الهيمنة بشكلها الشفاف في كل ما تعلق بالغربة والهجرة واللجوء والنزوح، مهما اختلفت الدرجات، وتعددت الأسباب، وذلك بحكم هشاشة وضعف حالة المهاجر أو الغريب، وقابليته للانجراح والانكسار والعطب.
ومن هنا يمكن القول إنَّ في اصطلاح الهوية السلبية والمتشظية والممزقة التي يعاني منها الغريب أو المهاجر ما يوجز كل تلك العبارات التي وصف بها التوحيدي نفسه بوصفه غريبًا يعيش غربة عصره. هذه الغربة التي تحولت مع الزمن والقرون إلى آلية لإنتاج الهجرة وصناعة الهوية السلبية المتأرجحة بين وعود الاعتراف بحقوقها وبين ضرورات (الدولة القومية)، وهوما يعني أن فصول سرديتها مفتوحة أمام تجارب إنسانية كثيرة، وأمام قدرتها الإنجازية في صناعة الممكنات العملية والنظرية، والإسهام في تطوير قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحد من إكراهات الهيمنة والإقصاء.
الزواوي بغورة مفكر ومترجم جزائري يعمل أستاذا للفلسفة في قسم الفلسفة بجامعة الكويت.