تدور هذه المقالة حول قضية أساسية داخل الممارسات الفنية المعاصرة وهي إبداع معنى المكان. ضرب من القضية التي اشتغل حولها جورج ديدي هيبرمان (Georges Didi-Huberman) في كتابه عبقري اللاّ-مكان. تتعلق المسألة بالإبداع في اللحظة التي تكون فيه كلّ الأمكنة مشبعة ومفتقرة للمعنى.
ستنكشف هذه القضية بشكل أكثر وضوحا في معرض الحكايات المَثَلية للمكان (Fables du lieu)، الذي أقامه جورج ديدي هيبرمان في2001 في المخبر الوطني للفنون المعاصرة بتوركوان (Tourcoing) والذي سيكون المدوّنة الأساسية لهذا المقال. وهو معرض ضمّ كلا من: سيمون هانتاي (Simon Hantai)، كلوديو برميدجياني (Claudio Parmiggiani)، غيساب بينون (Giuseppe Penone)، جايمس تورال (James Turrell)، وباسكال كونفار (Pascal Convert).
لماذا عنون جورج ديدي هيبرمان هذا اللقاء بالحكايات المَثَلية للمكان (Fables du lieu)؟ هل ما كان يرمي إليه هي الحكايات المثَلية حول المكان؟ أم الحكايات المثَلية للمكان؟
يعرف قاموس السيميائية. المعجم المعلل في نظرية اللغة الحكاية كمصطلح غامض «ويشمل مضامين متباينة جدا». ويمكننا معاينة هذه المضامين كالآتي: فالحكاية هي الكون الدلالي الذي يتأسس على مصادرات ما، بما هي مسلّمات: هذه المسلمات التي خضعت إلى تقطيع زماني. أمّا المنحى الثاني، فإن الحكاية تقوم بوصفها ما يتماثل مع السرد ووصف الأحداث. أمّا الحكاية المثَلية (Fable)، فهي تأتي كمرادف للأمثولة أو الخرافة. فالجانب الرمزي الذي تستند إليه يُعَدُّ ركيزة محورية في اختلافها عن الحكاية. تعنى الحكاية المَثَلية أساسا بجانب أنسنة الحيوان، حين يتعذر مقام الكلام. وهذا ما نلحظه سواء لدى الإغريق في قصص الشاعر هوزيزدوس (Ἡσίοδος / Hêsíodos)، أو لدى الفراعنة. أمّا لدى العرب فيمكننا تحسّس ترجمة كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع كأهم النصوص التي وثقت للحكاية المَثَلية. أما الحكايات المَثَلية الغربية فإنّ لافونتان (La fontaine) يُعتبر من أهم الأدباء الذين اعتنوا بهذا الصنف.
يبدو أن مسألة هذا المعرض لا تتعلق بسرد المكان، أي السرد التاريخي الذي يعرض لنا تسلسل تاريخ الأمكنة. بل ما يسعى جورج ديدي هيبرمان إلى رفعه والاعتناء به هو هذا المكان الحدّي (Un lieu limite) الذي يتمظهر بوصفه مكانا حدثيا (Lieu événementiel) ولا علاقة تجمعه بالبنية السردية التي تنتمي إلى زمن الحكايات الكبرى. الحدث هنا بالمعنى الذي ضبطه دولوز، أي ما يأتي ليحطم البنية نحو انعراجات غير مسبوقة للمعنى، وهذا تحديدا في تقديرنا ما يسميه جورج ديدي هيبرمان باللا- مكان. اللا-مكان هنا هو الطابع الحدثي للمكان.
حين استدعى جورج ديدي هيبرمان هؤلاء الفنانين، قرر أن لا يعنون المعرض بسرديات المكان، بل عنون ذلك بالحكايات المثلية بما هي حكايات تختلف عن السرد الحكائي. اختلافها الأساسي هو الطابع الرمزي الذي تتميز به، والمساحة التي تتركها للقارئ من أجل رفع المعنى ومكاشفة الحقيقة. إذ يعلم القارئ مسبقا أننا إزاء طابع خرافي، ولكن هذا الطابع الخرافي يحتوي كلّ الحقيقة المتنازع حولها.
ما يمكن الاحتفاظ به هنا هو الجملة التقديمية الواردة في الصفحة الأولى، إذ «غالبا ما تبتدئ أشياء الفن عكس أشياء الحياة. تبدأ الحياة بالولادة فيما يمكن للأثر الفني أن يبتدئ من تحت إمبراطورية الدمار: عهد الرماد والالتجاء للحداد وعودة الأشباح والمراهنة الضرورية على الغياب. ففي قلب منزله الآيل للدمار رسم رودريك إيشار لوحاته التي تخيلها إدغار بو». ما يعنينا نحن هنا هو رفع معنى اللا- مكان كحدث انطلاقا من المكان المدمّر. فما الذي يعنيه جورج ديدي هيبرمان تحديدا باللا- مكان. هل هو نقيض المكان؟
ما كان يعني ديدي هيبرمان في ماهية معنى اللا- مكان هو قيامه على حدود رماد المكان. المكان هنا بالمعنى الذي ضبطه الإغريق (Topos) وهو المنابع الحجاجية للجدل والبلاغة. وهو أمر طوره في ما بعد غادامار، واعتبر المكان (Topos) هو الماقبليات المؤسسة لثقافة ما. يتوافق هذا التعريف مع ما قدمه مارك أوجيه (Marc Augé) في كتابه اللاأمكنة. مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة. فوفق هذا الأخير فإن المكان «هوياتي (identitaire) وعلائقي وتاريخي». وهو «حيّز المعنى المسجّل والمرمز. إنّه المكان الأنثروبولوجي». بمعنى أن المكان هو في حقيقته نسج علاقات عضوية مع الآخر. أما اللا- مكان فهو ضرب من خلق «علاقة تعاقدية ووحدانية».
ولعل العلاقة بين المكان واللا- مكان لم تثبّت بشكل جيد إلا مع مارك أوجيه. إذ «يشكّل المكان واللّا- مكان قطبيتين هاربتين: الأولى لا يمكن أن تمحى بشكل تام، والثانية لا تُكتَمل مطلقا بشكل تام»، ورغم عدم اكتمالهما باستمرار، إلا أنّهما يلتقيان عند الحدّ الفاصل بينهما. يقول حول الراهن: «في الواقع الملموس لعالم اليوم، تتشابك وتتداخل الفضاءات والأمكنة واللا-أمكنة. إنّ إمكان اللا-مكان لا يغيب قطّ عن أيّ مكان، والعودة إلى المكان هي ملجأ الإنسان الذي يرتاد اللا- أمكنة».
تتقاطع هذه المقاربة مع ما منحنا إيّاه جورج ديدي هيبرمان من خلال عودته إلى بالزاك في الأثر الفني المجهول (le chef d’œuvre inconnu)، حين عاين كيفية رسم فرانهوفر (Frenhofer) لجزء صغير من قَدَم تلك الجميلة (La belle Gillette) وقد ضاعت داخل زخم الألوان. ما احتفظ به فرانهوفر هو الجزء المتبقي من مغادرة هذه المرأة لسطح اللوحة. اللامكان الحدثي الذي يخبرنا الآن عن هذا الغياب، ومغادرة كلّ ملامح هذه المرأة لفضاء اللوحة. ما تبقى فقط هو الجزء الرائع من تلك القدم التي ستغيب بدورها بعد حين. ما كان يعني فرانهوفر (Frenhofer) ليس مغادرة المرأة لمكان اللوحة، بل قبض اللوحة على لحظة حدث المغادرة، وهو ما اصطلح عليه الإغريق بلحظة الكايروس ( kairos (καιρός)): مكان المغادرة زمن المغادرة، وهو ما يجرّنا للحديث حول معنى المكان الحدثي بوصفه لا مكانا.
حين عاين جورج ديدي هيبرمان أعمال بارميدجاني (Parmiggiani)، عاينها انطلاقا من مفهوم (Delocazione) (ديلوكاتسيوني) والذي نترجمه بالإخلاء أو تغيير الموقع. إخلاء المكان بمعنى انتزاع الأغراض بما هي هوية للمكان والمحافظة على أثر الإخلاء. فاللا- مكان هو المكان الذي تم انتزاع أشيائه والمحافظة على أثر الانتزاع. يشتغل بارميدجاني بدخان إطارات العربات. أثر الدخان حول حدود الأشياء هو لحم اللامكان: أثر الغياب بما هو لحم الانتزاع.
يمكننا معاينة في مونبيلياي (Montpellier) ما أضافه متحف فابر (Fabre) كجزء مقتطع من مكتبة البلدية والمحافظة عليه كما هو. هناك أين تم استدعاء بارميدجاني (Parmiggiani)، أين نلمح انسحاب الكتب ورفوفها. ما تبقى هي أشباح الكتب: ضرب من هسهسة الأفكار التي نعثر على ملامحها في فيلم أجنحة الرغبة لفان فندرس (Wim Wenders). ما قام به بارميدجياني هو إشعال إطارات السيارات داخل المكتبة، ثم سحب الكتب والمحافظة فحسب على ظلال الدخان. الظل وهو يتّخذ لون البياض ويمنحنا المعنى.
نعثر على غرابة المكان أيضا في أعمال باسكال كونفار (Pascal Convert)، والتي يصفها الفنان نفسه بأنّ أعماله تندرج ضمن أركيولوجيا الهندسة المعمارية. حين احترقت مكتبة شومون سير لوار(Chaumont sur loire) تم استدعاء هذا الفنان لإعادة إحياء المكان، عبر تقنية التكلّس (Cristallisation).
تتمثل هذه التقنية لدى كونفار في سكب البلور الساخن أو الشمع الذائب على الكتب القديمة. ضرب من إحراق الكتب، ولكن يظل جزء من هذه الكتب سليما وحاضرا داخل البلّور. وهذا ما من شأنه أن يمنحنا إمكانية القبض على ذاكرة الفكر والاحتفاظ بها بشكل أبدي: النار التي تنتفض ضد نفسها من أجل ذاكرة المكان ومعناه. أما في معرض حكايات مثَلية للمكان (Les fables du lieu) فقد اشتغل على تنويعة أخرى. لقد جلب أجذال الشجر التي تم انتزاعها إبّان حفر خنادق الحروب وإسكانها مكانا غير مكانها. هذه الأجذال شاهدة على آلام الضحايا، دمهم، احتضارهم، ألم الرصاصة الأخيرة داخل اللحم.
ولئن أبصرنا الخيط الناظم بين باسكال كونفار (Pascal Convert) وبرميدجياني (Parmiggiani) حول مسألة المكان كذاكرة إخلاء أو كذاكرة الدمار، فإنّ أعمال جايمس تورال (James Turrel) تختلف كليا. إن ما يعنيه هو ما أشار إليه جورج ديدي هيبرمان في كتاب حول هذا الفنان عنونه بـالرجل الذي كان يمشي في اللون (L’homme qui marchait dans la couleur).
ما يعنينا بحق هو اشتغال جايمس تورال (James Turrel) حول مسألة تناولها أفلاطون في محاورة (Le timée) تحت مفهوم كورا (chôra ) والتي تشير في مفهومها البسيط إلى دلالة المحل أو الموضع، أما لدى أفلاطون فهي مفهوم أنطولوجي يمكن تسميته بشكل مغامر الفضاء. يجب الانتباه هنا أنّنا لسنا إزاء الفضاء كامتداد فارغ ينتظر سكنى الأشياء، إنّما هو في حقيقة الأمر قانون الصيرورة المتحكمة في معنى تلك الأشياء. لذلك فمفهوم chôra يتموقع عند الحد بين الكينونة واللاكينونة: ضرب ممّا يمكن تسميته خاصّية المحسوس. يقول جورج ديدي هيبرمان أنّ ما كان يعني جايمس تورال (James Turrel) هو استثمار الأمكنة العينية (Un lieu concret) ، إفراغها وإخلاؤها للمرور من المكان الموضوعي إلى المكان المنفتح. وفي حقيقة الأمر أن هذه المعالجة للمكان عبر إخلائه هو ضرب من صنع اليتم: يتم المشاهد إزاء تعلقه بالمعنى المتداول للأشياء. ما كان يعني جايمس تورال هو تفكيك الأمكنة المبتذلة. الابتذال هنا هو بمعنى الإمكان البسيط في العثور على الأشياء، محاصرتها والقبض عليها وتسميتها. وفي حقيقة الأمر أن ما سعى إليه جايمس تورال هو قطع الخيط الواصل بين المشاهد والشروط المنهكة والمستعملة التي دأب المشاهد على الاتّكال عليها من أجل معاينة فضاء فني ما. ها هنا يحّول اليُتم المكان العيني إلى مكان أبيض كما أشار جورج ديدي هيبرمان. تفتيح الفضاء عبر الإخلاء، وإلغاء إمكان النظر المظهري (La visibilité aspectuelle) الذي يرتكز على هيئة الأشياء. ما يريد جايمس تورال العثور عليه هو صورية المكان دون صورة. أي أنّ إعدام صور المكان هو ما يشكّل في حقيقة الأمر صورة اللامكان: لحمها الأساسي. ها هنا تماما وانطلاقا من غرابة هذه الأمكنة سيتحول الإدراك إلى موضوع للإدراك. اللامكان بوصفه غرابه تتفحصنا: إننا نتحول إلى موضوع للرؤية.
أما سيمون هانتاي فقد كان حضوره لافتا في أعمال جورج ديدي هيبرمان. ولعل كتاب التنجيم (L’étoilement) كان كافيا للإحاطة باستراتيجية هذا الفنان في مغادرته للوحة كمحمل أو شاشة عرض، ومحاولاته المتكررة واللا نهائية لمنح الطابع اللحمي للفضاء. يشير ديدي هيبرمان إلى أن سيمون هانتاي كان دائم الالتزام بإبداع المكان الذي يتم دائما استنادا إلى طابع الحكايات المثلية. أما تقنينته الأساسية فقد كانت تتمحور حول الثني والطيّ (Pliage)، والذهاب بهذه التقنية إلى حدودها القصوى، وربما هذا ما يتوافق مع دانتي حين تناول مسألة الكتابة. يشير فيليب سولار (Philippe Sollers) إلى أنّ من يريد أن يقبض على العبارة عليه أن يكون يقظا لتاريخ العبارة ولخرائطيتها وإلى جدّتها التي علينا استحداثها بضرب من الفعل الثوري. ها هنا تماما يمكننا معاينة موقع سيمون هانتاي ضمن معرض الحكايات المثلية للمكان. إذ يقدّم سيمون هونتاي عملا يحاول من خلاله الذهاب إلى تفتيح اللامكان داخل المكان، أي الذهاب بالمكان إلى حدوده القصوى التي تحدث عنها فيليب سولار. لقد حاول سيمون هانتاي أن يتحسس ضربا من مثالية الرسم التي تقع عند حدود اللا شيء. هذا اللا شيء الذي يجد مرادفه في أعمال جايمس تورال (James Turrell)، سواء في مستوى التفضية (l’espacement) أو في مستوى إبداع اللامكان استنادا إلى الضوء. يقول جورج ديدي هيبرمان: «وفي المحصلة، إن الحكاية المَثلية هو ما يتعين علينا إنشاءه باستمرار، من أجل محاولة القبض على شيء ما قد منحه لنا الحلم قديما على شكل هبة». لذلك يشير هيبرمان باستمرار إلى أن معنى اللا مكان يُقدُّ باستمرار بمادة الحلم. لذلك لا يتقدم الحلم كاستعارة بل يتقدم كرحم وبراديغم. وهذا تماما هي المادة التي يستعملها هونتاي في طيّ القماشة من أجل إبداع معنى اللاّ- مكان. أما بالنسبة لغيساب بينون (Giuseppe Penone) فالأمر يختلف تماما، ولكنه يتقاطع مع ما ذكرنا سابقا. وهذا ما أدلى به جورج ديدي هيبرمان في حواره مع كريستين بالمياري (Christine Palmiéri ). إذ ما يتقاطع عنده هؤلاء الفنانين ليس التجمّع الأسلوبي (regroupement stylistique)، ولا النمط الفني، أو المدارس الفنية. إذ ثمة تنوع بين التنصيبات والرسم والعرض الضوئي، ولكن ما يجمع بين كلّ هذه الأعمال الفنية هو تقاطعها عند تنوع أساليب إبداع الحكايات المَثَلية لللامكان. ما يذهب إليه غيساب بينون (Giuseppe Penone) هو منح الطابع اللحمي للفضاءات غير المحتملة. لكن بواسطة ماذا؟ وما هي الكيفيات التي يستعملها؟
ضمن كتاب الكينونة جمجمة يفكك لنا جورج ديدي هيبرمان أساليب إبداع اللامكان. يجر غيساب بينون استراتيجية الحفر في الجمجمة، وهو ما يسميها الذهاب نحتيا (sculpturalement)، أي دفع الفعل الفني (le geste artistique) إلى الحدود القصوى واللاّ محتملة. هذا الدفع إلى الأقصى هو ما يسميه غيساب بينون تحسس إمكان التفكير. تقوم هذه التجربة على تفتيح الجمجمة ومحاولة طبع الحياكة التي تقع على الجهة الداخلية للجمجمة. هذه الحكاية التي يقول عنها بينون بأنها ناتجة عن احتكاك المخيخ على الغلاف الداخلي. وفي تقديرنا أن ما قام به بينون هو رفع «لا مكان» التفكير (أثر المخيخ على الجمجمة) إلى فضاء اللوحة. يقول في معرض حديثه: « يتكون جسدنا من أجزاء رخوة وأخرى صلبة، أما علبة الجمجمة بما هي حماية متينة للمخ فهي تتأقلم مع الشكل الذي تحميه. إن عظم الجمجمة لهو المادة التشكيلية للمخ الذي يشكله ويأقلمه مع شكله. لذلك يلتحم المخ بالجمجمة التي فوقها يسجل دوافعه، غير أنه ليس قادرا على قراءة ذلك السطح الذي يلامسه. ولفهم شكل السطح الداخلي للجمجمة واستيعابه، علينا تحسسه بأيدينا، ورؤيته بأعيننا. إضافة إلى ذلك، سنمتلك صورة عن طريق وساطة الاحتكاك: الاحتكاك الأقصى المماثل لذلك الاحتكاك الذي حدث داخل الجمجمة». ما يفعله بينون هو رفع مكان الاحتكاك إلى اللوحة ومحاولة الكشف عن هذا اللاّ- مكان القصي.
ما يمكن رفعه هنا أن لحم معنى اللامكان قد قدّ من الغياب والذاكرة والإخلاء والاحتكاك. وهي مواد في حقيقة الأمر تتقاطع مع اللا مادي كصيغة أساسية. إن ما كان يعني جورج ديدي هيبرمان هو التركيز بشكل أساسي على الطابع التراجيكي للإنسانية المعاصرة. وهذا ما يحسب له: الوقوف عند انتزاع ما يشوش الرؤية والتفكير تجاه العالم. لذلك فالأمكنة المأهولة التي نحيا بها هي أماكن في أغلبها تصلح للبقاء ولا تصلح للحياة والمعنى. وما يفعله الفنان هو مساءلة المكان من أجل اجتثاث اللاّ- مكان كصيغة أساسية للتفكير والحياة. لذلك يلتقي كل هؤلاء الفنانين عند الحكايات المثَلية، كلّ يؤثثها بتقنياته ومواده. ما يفتحه هؤلاء الفنانون هو المعنى كوجه أساسي لصيرورة المكان المنتزع من بغضاء الأشياء المتكاثرة والذاكرة المثقوبة والحضور الذي بدّد حضوره من فرط استعماله التسطيحي. لم تعد أنسنة الحيوان هي الصيغة المثلى للحكايات المَثَلية، بل أصبحت تقد من الغياب والاحتكاك والإخلاء. وهذا ما نعبر عليه بالدفع الأقصى للمكان إلى جهة الحدود التي لم يعرفها من قبل.
عمر علوي أستاذ مساعد بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف، خريج جامعة السوربون بباريس وصاحب مؤلف: «التفكير والحدود..دراسة في استيطيقا المقاومة».
ستنكشف هذه القضية بشكل أكثر وضوحا في معرض الحكايات المَثَلية للمكان (Fables du lieu)، الذي أقامه جورج ديدي هيبرمان في2001 في المخبر الوطني للفنون المعاصرة بتوركوان (Tourcoing) والذي سيكون المدوّنة الأساسية لهذا المقال. وهو معرض ضمّ كلا من: سيمون هانتاي (Simon Hantai)، كلوديو برميدجياني (Claudio Parmiggiani)، غيساب بينون (Giuseppe Penone)، جايمس تورال (James Turrell)، وباسكال كونفار (Pascal Convert).
لماذا عنون جورج ديدي هيبرمان هذا اللقاء بالحكايات المَثَلية للمكان (Fables du lieu)؟ هل ما كان يرمي إليه هي الحكايات المثَلية حول المكان؟ أم الحكايات المثَلية للمكان؟
يعرف قاموس السيميائية. المعجم المعلل في نظرية اللغة الحكاية كمصطلح غامض «ويشمل مضامين متباينة جدا». ويمكننا معاينة هذه المضامين كالآتي: فالحكاية هي الكون الدلالي الذي يتأسس على مصادرات ما، بما هي مسلّمات: هذه المسلمات التي خضعت إلى تقطيع زماني. أمّا المنحى الثاني، فإن الحكاية تقوم بوصفها ما يتماثل مع السرد ووصف الأحداث. أمّا الحكاية المثَلية (Fable)، فهي تأتي كمرادف للأمثولة أو الخرافة. فالجانب الرمزي الذي تستند إليه يُعَدُّ ركيزة محورية في اختلافها عن الحكاية. تعنى الحكاية المَثَلية أساسا بجانب أنسنة الحيوان، حين يتعذر مقام الكلام. وهذا ما نلحظه سواء لدى الإغريق في قصص الشاعر هوزيزدوس (Ἡσίοδος / Hêsíodos)، أو لدى الفراعنة. أمّا لدى العرب فيمكننا تحسّس ترجمة كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع كأهم النصوص التي وثقت للحكاية المَثَلية. أما الحكايات المَثَلية الغربية فإنّ لافونتان (La fontaine) يُعتبر من أهم الأدباء الذين اعتنوا بهذا الصنف.
يبدو أن مسألة هذا المعرض لا تتعلق بسرد المكان، أي السرد التاريخي الذي يعرض لنا تسلسل تاريخ الأمكنة. بل ما يسعى جورج ديدي هيبرمان إلى رفعه والاعتناء به هو هذا المكان الحدّي (Un lieu limite) الذي يتمظهر بوصفه مكانا حدثيا (Lieu événementiel) ولا علاقة تجمعه بالبنية السردية التي تنتمي إلى زمن الحكايات الكبرى. الحدث هنا بالمعنى الذي ضبطه دولوز، أي ما يأتي ليحطم البنية نحو انعراجات غير مسبوقة للمعنى، وهذا تحديدا في تقديرنا ما يسميه جورج ديدي هيبرمان باللا- مكان. اللا-مكان هنا هو الطابع الحدثي للمكان.
حين استدعى جورج ديدي هيبرمان هؤلاء الفنانين، قرر أن لا يعنون المعرض بسرديات المكان، بل عنون ذلك بالحكايات المثلية بما هي حكايات تختلف عن السرد الحكائي. اختلافها الأساسي هو الطابع الرمزي الذي تتميز به، والمساحة التي تتركها للقارئ من أجل رفع المعنى ومكاشفة الحقيقة. إذ يعلم القارئ مسبقا أننا إزاء طابع خرافي، ولكن هذا الطابع الخرافي يحتوي كلّ الحقيقة المتنازع حولها.
ما يمكن الاحتفاظ به هنا هو الجملة التقديمية الواردة في الصفحة الأولى، إذ «غالبا ما تبتدئ أشياء الفن عكس أشياء الحياة. تبدأ الحياة بالولادة فيما يمكن للأثر الفني أن يبتدئ من تحت إمبراطورية الدمار: عهد الرماد والالتجاء للحداد وعودة الأشباح والمراهنة الضرورية على الغياب. ففي قلب منزله الآيل للدمار رسم رودريك إيشار لوحاته التي تخيلها إدغار بو». ما يعنينا نحن هنا هو رفع معنى اللا- مكان كحدث انطلاقا من المكان المدمّر. فما الذي يعنيه جورج ديدي هيبرمان تحديدا باللا- مكان. هل هو نقيض المكان؟
ما كان يعني ديدي هيبرمان في ماهية معنى اللا- مكان هو قيامه على حدود رماد المكان. المكان هنا بالمعنى الذي ضبطه الإغريق (Topos) وهو المنابع الحجاجية للجدل والبلاغة. وهو أمر طوره في ما بعد غادامار، واعتبر المكان (Topos) هو الماقبليات المؤسسة لثقافة ما. يتوافق هذا التعريف مع ما قدمه مارك أوجيه (Marc Augé) في كتابه اللاأمكنة. مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة. فوفق هذا الأخير فإن المكان «هوياتي (identitaire) وعلائقي وتاريخي». وهو «حيّز المعنى المسجّل والمرمز. إنّه المكان الأنثروبولوجي». بمعنى أن المكان هو في حقيقته نسج علاقات عضوية مع الآخر. أما اللا- مكان فهو ضرب من خلق «علاقة تعاقدية ووحدانية».
ولعل العلاقة بين المكان واللا- مكان لم تثبّت بشكل جيد إلا مع مارك أوجيه. إذ «يشكّل المكان واللّا- مكان قطبيتين هاربتين: الأولى لا يمكن أن تمحى بشكل تام، والثانية لا تُكتَمل مطلقا بشكل تام»، ورغم عدم اكتمالهما باستمرار، إلا أنّهما يلتقيان عند الحدّ الفاصل بينهما. يقول حول الراهن: «في الواقع الملموس لعالم اليوم، تتشابك وتتداخل الفضاءات والأمكنة واللا-أمكنة. إنّ إمكان اللا-مكان لا يغيب قطّ عن أيّ مكان، والعودة إلى المكان هي ملجأ الإنسان الذي يرتاد اللا- أمكنة».
تتقاطع هذه المقاربة مع ما منحنا إيّاه جورج ديدي هيبرمان من خلال عودته إلى بالزاك في الأثر الفني المجهول (le chef d’œuvre inconnu)، حين عاين كيفية رسم فرانهوفر (Frenhofer) لجزء صغير من قَدَم تلك الجميلة (La belle Gillette) وقد ضاعت داخل زخم الألوان. ما احتفظ به فرانهوفر هو الجزء المتبقي من مغادرة هذه المرأة لسطح اللوحة. اللامكان الحدثي الذي يخبرنا الآن عن هذا الغياب، ومغادرة كلّ ملامح هذه المرأة لفضاء اللوحة. ما تبقى فقط هو الجزء الرائع من تلك القدم التي ستغيب بدورها بعد حين. ما كان يعني فرانهوفر (Frenhofer) ليس مغادرة المرأة لمكان اللوحة، بل قبض اللوحة على لحظة حدث المغادرة، وهو ما اصطلح عليه الإغريق بلحظة الكايروس ( kairos (καιρός)): مكان المغادرة زمن المغادرة، وهو ما يجرّنا للحديث حول معنى المكان الحدثي بوصفه لا مكانا.
حين عاين جورج ديدي هيبرمان أعمال بارميدجاني (Parmiggiani)، عاينها انطلاقا من مفهوم (Delocazione) (ديلوكاتسيوني) والذي نترجمه بالإخلاء أو تغيير الموقع. إخلاء المكان بمعنى انتزاع الأغراض بما هي هوية للمكان والمحافظة على أثر الإخلاء. فاللا- مكان هو المكان الذي تم انتزاع أشيائه والمحافظة على أثر الانتزاع. يشتغل بارميدجاني بدخان إطارات العربات. أثر الدخان حول حدود الأشياء هو لحم اللامكان: أثر الغياب بما هو لحم الانتزاع.
يمكننا معاينة في مونبيلياي (Montpellier) ما أضافه متحف فابر (Fabre) كجزء مقتطع من مكتبة البلدية والمحافظة عليه كما هو. هناك أين تم استدعاء بارميدجاني (Parmiggiani)، أين نلمح انسحاب الكتب ورفوفها. ما تبقى هي أشباح الكتب: ضرب من هسهسة الأفكار التي نعثر على ملامحها في فيلم أجنحة الرغبة لفان فندرس (Wim Wenders). ما قام به بارميدجياني هو إشعال إطارات السيارات داخل المكتبة، ثم سحب الكتب والمحافظة فحسب على ظلال الدخان. الظل وهو يتّخذ لون البياض ويمنحنا المعنى.
نعثر على غرابة المكان أيضا في أعمال باسكال كونفار (Pascal Convert)، والتي يصفها الفنان نفسه بأنّ أعماله تندرج ضمن أركيولوجيا الهندسة المعمارية. حين احترقت مكتبة شومون سير لوار(Chaumont sur loire) تم استدعاء هذا الفنان لإعادة إحياء المكان، عبر تقنية التكلّس (Cristallisation).
تتمثل هذه التقنية لدى كونفار في سكب البلور الساخن أو الشمع الذائب على الكتب القديمة. ضرب من إحراق الكتب، ولكن يظل جزء من هذه الكتب سليما وحاضرا داخل البلّور. وهذا ما من شأنه أن يمنحنا إمكانية القبض على ذاكرة الفكر والاحتفاظ بها بشكل أبدي: النار التي تنتفض ضد نفسها من أجل ذاكرة المكان ومعناه. أما في معرض حكايات مثَلية للمكان (Les fables du lieu) فقد اشتغل على تنويعة أخرى. لقد جلب أجذال الشجر التي تم انتزاعها إبّان حفر خنادق الحروب وإسكانها مكانا غير مكانها. هذه الأجذال شاهدة على آلام الضحايا، دمهم، احتضارهم، ألم الرصاصة الأخيرة داخل اللحم.
ولئن أبصرنا الخيط الناظم بين باسكال كونفار (Pascal Convert) وبرميدجياني (Parmiggiani) حول مسألة المكان كذاكرة إخلاء أو كذاكرة الدمار، فإنّ أعمال جايمس تورال (James Turrel) تختلف كليا. إن ما يعنيه هو ما أشار إليه جورج ديدي هيبرمان في كتاب حول هذا الفنان عنونه بـالرجل الذي كان يمشي في اللون (L’homme qui marchait dans la couleur).
ما يعنينا بحق هو اشتغال جايمس تورال (James Turrel) حول مسألة تناولها أفلاطون في محاورة (Le timée) تحت مفهوم كورا (chôra ) والتي تشير في مفهومها البسيط إلى دلالة المحل أو الموضع، أما لدى أفلاطون فهي مفهوم أنطولوجي يمكن تسميته بشكل مغامر الفضاء. يجب الانتباه هنا أنّنا لسنا إزاء الفضاء كامتداد فارغ ينتظر سكنى الأشياء، إنّما هو في حقيقة الأمر قانون الصيرورة المتحكمة في معنى تلك الأشياء. لذلك فمفهوم chôra يتموقع عند الحد بين الكينونة واللاكينونة: ضرب ممّا يمكن تسميته خاصّية المحسوس. يقول جورج ديدي هيبرمان أنّ ما كان يعني جايمس تورال (James Turrel) هو استثمار الأمكنة العينية (Un lieu concret) ، إفراغها وإخلاؤها للمرور من المكان الموضوعي إلى المكان المنفتح. وفي حقيقة الأمر أن هذه المعالجة للمكان عبر إخلائه هو ضرب من صنع اليتم: يتم المشاهد إزاء تعلقه بالمعنى المتداول للأشياء. ما كان يعني جايمس تورال هو تفكيك الأمكنة المبتذلة. الابتذال هنا هو بمعنى الإمكان البسيط في العثور على الأشياء، محاصرتها والقبض عليها وتسميتها. وفي حقيقة الأمر أن ما سعى إليه جايمس تورال هو قطع الخيط الواصل بين المشاهد والشروط المنهكة والمستعملة التي دأب المشاهد على الاتّكال عليها من أجل معاينة فضاء فني ما. ها هنا يحّول اليُتم المكان العيني إلى مكان أبيض كما أشار جورج ديدي هيبرمان. تفتيح الفضاء عبر الإخلاء، وإلغاء إمكان النظر المظهري (La visibilité aspectuelle) الذي يرتكز على هيئة الأشياء. ما يريد جايمس تورال العثور عليه هو صورية المكان دون صورة. أي أنّ إعدام صور المكان هو ما يشكّل في حقيقة الأمر صورة اللامكان: لحمها الأساسي. ها هنا تماما وانطلاقا من غرابة هذه الأمكنة سيتحول الإدراك إلى موضوع للإدراك. اللامكان بوصفه غرابه تتفحصنا: إننا نتحول إلى موضوع للرؤية.
أما سيمون هانتاي فقد كان حضوره لافتا في أعمال جورج ديدي هيبرمان. ولعل كتاب التنجيم (L’étoilement) كان كافيا للإحاطة باستراتيجية هذا الفنان في مغادرته للوحة كمحمل أو شاشة عرض، ومحاولاته المتكررة واللا نهائية لمنح الطابع اللحمي للفضاء. يشير ديدي هيبرمان إلى أن سيمون هانتاي كان دائم الالتزام بإبداع المكان الذي يتم دائما استنادا إلى طابع الحكايات المثلية. أما تقنينته الأساسية فقد كانت تتمحور حول الثني والطيّ (Pliage)، والذهاب بهذه التقنية إلى حدودها القصوى، وربما هذا ما يتوافق مع دانتي حين تناول مسألة الكتابة. يشير فيليب سولار (Philippe Sollers) إلى أنّ من يريد أن يقبض على العبارة عليه أن يكون يقظا لتاريخ العبارة ولخرائطيتها وإلى جدّتها التي علينا استحداثها بضرب من الفعل الثوري. ها هنا تماما يمكننا معاينة موقع سيمون هانتاي ضمن معرض الحكايات المثلية للمكان. إذ يقدّم سيمون هونتاي عملا يحاول من خلاله الذهاب إلى تفتيح اللامكان داخل المكان، أي الذهاب بالمكان إلى حدوده القصوى التي تحدث عنها فيليب سولار. لقد حاول سيمون هانتاي أن يتحسس ضربا من مثالية الرسم التي تقع عند حدود اللا شيء. هذا اللا شيء الذي يجد مرادفه في أعمال جايمس تورال (James Turrell)، سواء في مستوى التفضية (l’espacement) أو في مستوى إبداع اللامكان استنادا إلى الضوء. يقول جورج ديدي هيبرمان: «وفي المحصلة، إن الحكاية المَثلية هو ما يتعين علينا إنشاءه باستمرار، من أجل محاولة القبض على شيء ما قد منحه لنا الحلم قديما على شكل هبة». لذلك يشير هيبرمان باستمرار إلى أن معنى اللا مكان يُقدُّ باستمرار بمادة الحلم. لذلك لا يتقدم الحلم كاستعارة بل يتقدم كرحم وبراديغم. وهذا تماما هي المادة التي يستعملها هونتاي في طيّ القماشة من أجل إبداع معنى اللاّ- مكان. أما بالنسبة لغيساب بينون (Giuseppe Penone) فالأمر يختلف تماما، ولكنه يتقاطع مع ما ذكرنا سابقا. وهذا ما أدلى به جورج ديدي هيبرمان في حواره مع كريستين بالمياري (Christine Palmiéri ). إذ ما يتقاطع عنده هؤلاء الفنانين ليس التجمّع الأسلوبي (regroupement stylistique)، ولا النمط الفني، أو المدارس الفنية. إذ ثمة تنوع بين التنصيبات والرسم والعرض الضوئي، ولكن ما يجمع بين كلّ هذه الأعمال الفنية هو تقاطعها عند تنوع أساليب إبداع الحكايات المَثَلية لللامكان. ما يذهب إليه غيساب بينون (Giuseppe Penone) هو منح الطابع اللحمي للفضاءات غير المحتملة. لكن بواسطة ماذا؟ وما هي الكيفيات التي يستعملها؟
ضمن كتاب الكينونة جمجمة يفكك لنا جورج ديدي هيبرمان أساليب إبداع اللامكان. يجر غيساب بينون استراتيجية الحفر في الجمجمة، وهو ما يسميها الذهاب نحتيا (sculpturalement)، أي دفع الفعل الفني (le geste artistique) إلى الحدود القصوى واللاّ محتملة. هذا الدفع إلى الأقصى هو ما يسميه غيساب بينون تحسس إمكان التفكير. تقوم هذه التجربة على تفتيح الجمجمة ومحاولة طبع الحياكة التي تقع على الجهة الداخلية للجمجمة. هذه الحكاية التي يقول عنها بينون بأنها ناتجة عن احتكاك المخيخ على الغلاف الداخلي. وفي تقديرنا أن ما قام به بينون هو رفع «لا مكان» التفكير (أثر المخيخ على الجمجمة) إلى فضاء اللوحة. يقول في معرض حديثه: « يتكون جسدنا من أجزاء رخوة وأخرى صلبة، أما علبة الجمجمة بما هي حماية متينة للمخ فهي تتأقلم مع الشكل الذي تحميه. إن عظم الجمجمة لهو المادة التشكيلية للمخ الذي يشكله ويأقلمه مع شكله. لذلك يلتحم المخ بالجمجمة التي فوقها يسجل دوافعه، غير أنه ليس قادرا على قراءة ذلك السطح الذي يلامسه. ولفهم شكل السطح الداخلي للجمجمة واستيعابه، علينا تحسسه بأيدينا، ورؤيته بأعيننا. إضافة إلى ذلك، سنمتلك صورة عن طريق وساطة الاحتكاك: الاحتكاك الأقصى المماثل لذلك الاحتكاك الذي حدث داخل الجمجمة». ما يفعله بينون هو رفع مكان الاحتكاك إلى اللوحة ومحاولة الكشف عن هذا اللاّ- مكان القصي.
ما يمكن رفعه هنا أن لحم معنى اللامكان قد قدّ من الغياب والذاكرة والإخلاء والاحتكاك. وهي مواد في حقيقة الأمر تتقاطع مع اللا مادي كصيغة أساسية. إن ما كان يعني جورج ديدي هيبرمان هو التركيز بشكل أساسي على الطابع التراجيكي للإنسانية المعاصرة. وهذا ما يحسب له: الوقوف عند انتزاع ما يشوش الرؤية والتفكير تجاه العالم. لذلك فالأمكنة المأهولة التي نحيا بها هي أماكن في أغلبها تصلح للبقاء ولا تصلح للحياة والمعنى. وما يفعله الفنان هو مساءلة المكان من أجل اجتثاث اللاّ- مكان كصيغة أساسية للتفكير والحياة. لذلك يلتقي كل هؤلاء الفنانين عند الحكايات المثَلية، كلّ يؤثثها بتقنياته ومواده. ما يفتحه هؤلاء الفنانون هو المعنى كوجه أساسي لصيرورة المكان المنتزع من بغضاء الأشياء المتكاثرة والذاكرة المثقوبة والحضور الذي بدّد حضوره من فرط استعماله التسطيحي. لم تعد أنسنة الحيوان هي الصيغة المثلى للحكايات المَثَلية، بل أصبحت تقد من الغياب والاحتكاك والإخلاء. وهذا ما نعبر عليه بالدفع الأقصى للمكان إلى جهة الحدود التي لم يعرفها من قبل.
عمر علوي أستاذ مساعد بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف، خريج جامعة السوربون بباريس وصاحب مؤلف: «التفكير والحدود..دراسة في استيطيقا المقاومة».