هل يمكن أن تتحوّل المنافي والمغتربات والمهاجر إلى أوطان بديلة؟ إلى أيّ حدّ يكون في الاندماج المفترض تخلّياً عن الذاكرة والذكريات التي من شأنها أن تكون زوّادة المغترب في منفاه؟ هل الغريب حقّا هو البعيد عن مسقط رأسه ووطنه المفترض أم ذاك الذي صادف واكتشف في مكانه الجديد وجوده وهويّته وتقديره كإنسان يستحقّ أن يعيش بكرامة، له ما له من حقوق وعليه ما عليه من واجبات؟
حين تشعر بأنّ وطنك المفترض يلفظك كشيء غير مرغوب به، أو يضيّق عليك بحيث يقزّمك، تبحث عن وطن بديل، لا في الخيال فقط بل في الواقع، لأنّك تحتاج أن تعيش بمعزل عن مُسلّع تتمّ قيادته بالأوامر والإملاءات، ومن المفارقة أنّ الدول التي كنّا نصفها بدول الاستعمار هي التي تتحوّل إلى أوطان، وتصبح بدورك، ككاتب كرّس حياته للتغنّي بالوطن المأمول، مسكونا بحنين إلى الاستعمار، وإلى ذاك الذي تربّيت في مناهجك التعليمية على كرهه واستعدائه، إلى المستعمر الذي يأويك ويبدّد شيئاً من غربتك بأن يكفل لك حقوقك وحرّياتك من دون أن يحاول قهرك بشتّى السبل، أو سلبك كينونتك وهويتك، كما كان يفعل من يفترض بأنه ابن وطنك.
لا يتعلّق الأمر باختيار أو إجبار، ولا برغبة أو إرادة، بقدر ما يعود بجذوره إلى ظروف قاهرة للابتعاد، وذاك الابتعاد يمكن أن يسمّى بتسميات وأوصاف مختلفة، يمكن أن يكون هجرة أو منفى أو لجوءاً، كما قد يوصف بأنه هرب من الاستحقاقات والمواجهات.. لكن هل الكاتب في وارد مواجهة قوى عنيفة قاتلة تسعى إلى إقصائه والقضاء عليه؟ وهل يملك الكاتب سوى أسلحته الأدبية وفكره وخياله للمواجهة والتعرية في معركة الحياة في الوطن الطارد؟
كما أنّ الظلم ظلمات، فإنّ المنفى منافٍ، والغربة غربات، لها وجوه متعدّدة، قاهرة، قاسية، دامية، وقد تكون مداوية للجراج ومعالج للانكسارات السابقة. وهي تختلف من امرئ لآخر، فهناك من قد يعتبرها مرحلة مؤقتة بانتظار العودة المأمولة لوطنه، لكنه يتناسى أو يغفل عن انسلال العمر من بين يديه، فلا يستقرّ به المقام في غربته التي يحتاج لتكيّف معها وترويضها، ولا يتمكّن من العودة لوطن يزداد بعداً ونأيا عنه بالتراكم، لدرجة أنّه يرسم تفاصيل متخيلة في خياله لا تتقاطع مع الواقع المتغيّر بأية صلة.
تخلّف الظروف البائسة التي تمرّ بها مناطق النزاع و الاحتراب ضحاياها، ولا يكون أولئك الذين يسقطون في المواجهات المباشرة في الحروب والمعارك القتلى الوحيدين في مواسم الخراب والإجرام، بل هناك آخرون يعانون مرارات الجريمة الماضية المستمرّة في أرواحهم، وبخاصّة الأدباء والفنّانين الذين وجدوا أنفسهم في رحاب منافٍ موحشة وملاجئ كانت أحنّ عليهم من أوطانهم المفترضة.
قد يواجه الأديب المهاجر، وبخاصّة الخارج في ظروف معيّنة، كالحرب أو الحصار أو التضييق على الحرّيات، بسيل من الاتّهامات التي لا تخلو من إساءات عنصرية من الأجيال الجديدة اللاحقة التي لم تعش محنته ولم تعش تفاصيلها، وقد يتّهم من قبل بعض مجاليه بأنّه اختار سلامته الشخصيّة وترك الوطن خلفه يعيش قسوة واقعه، كما قد ينعَت بالجبن لأنّه لم يتمكّن من المواجهة، وأنّه كان عليه اختيار البقاء مهما كلّفه ذلك.
وجوه المنفى
الغربة مدماك من تاريخ الأدب وحجر أساس فيه، القديم منه والحديث، وهي مؤثرة وحاضرة دوما كشكل من أشكال المواجهة والتحدّي من جهة، وكصيغة من صيغ التصالح مع الذات والزمن والمكان من جهة أخرى، وكأنّي بها تهدهد الذكريات وتبني عالما جديدا على ركامها، أو انطلاقا من صورها المعتمة وتجلّياتها الأدبية والحياتية المتجدّدة.
يرمّم الاغتراب والنفي بعض الصدوع في الأرواح لكنّه يخلف شروخا لا يمكن ردمها أيضا، ويكتب على المغترب والمنفي أن يتعايش مع النقائض التي تجبل روحه وكيانه، ويفرض عليه أن يوجد معادلته الخاصة للمضيّ إلى غده. ويا له من درب حياتيّ وأدبيّ يجمع بين ما هو هارب منه وما هو هارب إليه.!
في الملاجئ، المهاجر، المنافي، يكتشف الكاتب ذواتا كان يقهرها ويطلق لها العنان لتعبّر بحرّية بعيدا عمّن نصّبوا أنفسهم سدنة للوطن والدين والأعراف والقيم، يتحلّى بمسؤولية الكلمة التي يوظّفها بشكل أكبر، لأنّه لم يعد محكوما بسلطات القهر والنهي والنفي والإرغام، يعيش حرّيته ويكتبها، وهنا تكون مسؤوليته مضاعفة.
تستوطن الغربة نفوس أصحابها، تغدو وطنا بجانب المنفى الذي غدا بدوره وطنا، تتعاظم الغربات وتكثر الأوطان ويبقى البحث الدائم عن ذاك الوطن الحلم الذي يجمع بين ضفتين متنافرتين تجمعهما روح معذّبة غريبة وذاكرة لا تنفكّ تترنّم على إيقاع الذكريات، من جهة حقوق المنفى وحرياته وقيمه ومن جهة أخرى ذاك الأمان الطفوليّ البريء الذي يكاد يكون من باب الاستحالة أن يعثر عليه أيّ شخص في أيّ منفى.
وكم أجاد الشاعر الفلسطينيّ الراحل محمود درويش بحديثه عن المنفى بقوله: «نحن نُولَدُ في منفى، ويولد فينا المنفى. ولا يُعَزّينا أن يُقال إن أرض البشر كُلّها منفى، لكي نضع منفانا في مَقُولةٍ أدبية.» وهو الذي تحدث عن وجوه المنفى وعن العودة المجازية التي لم تستطع ردم الفجوات في الأرواح الهائمة في فضاءات منافيها المتجدّدة والمتعددة التي لم تستدلّ إلى دروب للتبدّد.
وكذلك أبدع مواطنه وصديقه الراحل إدوارد سعيد الذي يعدّ أحد أبرز من كتب عن المنفى وتحوّلاته في أكثر من عمل له، في سيرته البديعة «خارج المكان»، و»تأملات حول المنفى» بجزأيه، والذي يقول في الجزء الأول منه: «ما أراه هو أن بمقدور المنفى أن يولّد الضغينة والالتياع، غير أن بمقدوره أيضا أن يولّد رؤية حادّة وماضية. فما خلّفه المرء وراءه يمكن أن يكون مثاراً للندب والتفجّع كما يمكن أن يستخدم في توفير مجموعة مغايرة من العدسات. ولأنّ المنفى والذاكرة يسيران معاً، بالتعريف تقريبا، فإنّ ما يتذكّره المرء ما الماضي والكيفية التي يتذكّره بها هو ما يحدّد كيف يرى هذا المرء إلى المستقبل».
ويقول إدوارد سعيد في موضع آخر من الكتاب نفسه: «يجبر المنفى المرءَ على التفكير فيه ويا لها من تجربة فظيعة. إنّه الشرخ الذي لا التئام له بين كائن بشريّ ومكانه الأصليّ. بين الذات وموطنها الحقيقيّ؛ فلا يمكن البتّة التغلّب على ما يولّده من شجن أساسيّ. وإذا ما كان صحيحاً أنّ الأدب والتاريخ يحفلان بحوادث بطولية، ورومانسية، ومجيدة، بل وظافرة حدثت في حياة النفي، إلّا أنّ هذه الحوادث لا تعدو أن تكون جهوداً مضنية يُقصد منها التغلّب على أسى الغربة الشالّ. فمآثر المنفى لا يني يقوّضها فقدان شيء ما خلّفه المرء وراءه إلى الأبد».
ويمكن أن يوضع المغترب المنفيّ كدريئة لتوجيه الاتّهامات إليه وتأليب العنصريّين عليه، بحيث يتمّ التشكيك بما يكتبه أو يعلنه من مواقف باعتباره تخلّى عن تشبّثه بمكانه واختار إيثار سلامته الشخصية، وترك ساحة المواجهة، كما حدث مع الروائيّ الألمانيّ ألفريد دوبلن (1878-1957) الذي كان قد اضطر لترك بلاده بسبب صعود النازية واستقر بداية في فرنسا بين سنوات 1933 – 1940م ثم هاجر في بداية الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة، وبقي هناك بضع سنوات، ثم عاد إلى بلاده بعد انتهاء الحرب، لكنه ما لبث أن غادرها إلى فرنسا مرة أخرى حيث عاش ظروفا صعبة، واتّهم من قبل بعض أبناء بلده بكثير من الاتّهامات التي نالت من مصداقيته وآرائه، وحتّى كتابته.
يمهّد الألماني كريستوف بيترز لمجموعته «استئناس الغربة» بجمل قصيرة عن الغربة يقول فيها: «غرباء خارج أوطاننا/ غرباء في أرضنا وديارنا/ وأينما نحلّ.. سنبقى غرباء»، في إشارة إلى الغربة الملتصقة بروح الإنسان في حلّه وترحاله وكيف أنه يبقى مسكونا ومقيّدا بها، وكأنّها قدره أو رفيقة دربه وراسمه مصيره بحيث ليس أمامه سوى الانصياع لها ومحاولة تكييف نفسه وفق شروطها.
يبدأ الغريب بالارتياح للغرباء، فليس هناك ما يقيّده، ليس هناك ماضٍ مشترك ليخشى منه، أو ما هو متقاطع ليقوم بتشذيبه والتملّص من مواجهته، هناك فقط تلك اللحظة الهاربة المنفلتة من أيّة التزامات، وهنا يتقاطع مع الإنكليزي آيان مكيوان في روايته «الارتياح للغرباء» التي ترصد صوراً وأصداء من تأثير الغربة على الناس، ومن جماليات السفر والترحال، وكيف أن الغريب يبدأ بنسج خيوط علاقات مع محيطه الجديد الذي يجد نفسه فيه، في محاولة منه للاندماج مع واقعه، وتبديد اغترابه المتعاظم، عسى أن يستدل إلى طريقة لتهدئة نيران غربته ووحشته.
أتّفق مع مكيوان في إشارته إلى أن الأماكن التي يمر بها المرء قد تتحول إلى محطة للراحة بعد البوح والاعتراف والاسترسال في ذلك، بحيث تغدو تلك الأماكن بمثابة عتبات شافية لمَن يعبرونها، لأنهم يخففون عن أنفسهم عناء الكتمان، ويبوحون بما يقض مضاجعهم، من دون أن يعود عليهم بالأذى والفضيحة، لأنهم يلقون أسرارهم ويرتحلون إلى عوالمهم السابقة، ويتركون تلك الأمكنة بكل ما ومن فيها.
معادلة لا بدّ منها
لعلّ من باب المفارقة أنّ مَن يبحثون عن تبديد لغربتهم أحياناً لا يغامرون بالخروج من مناطق راحتهم، أو ترويض منافيهم بمحاولة تأثيثها بتفاصيل تبقي روابط الذاكرة والذكريات حيّة ومتجدّدة، كحال معظم أبناء الجاليات العربية والكردية - الشرقيّة عموما - في بريطانيا ممّن لا يجدون أنفسهم معنيّين بأيّ نشاط أدبيّ أو فنّي أو ثقافيّ، حتّى وإن كان عنهم. كأنّهم بهذا «النأي بالنفس»، يفرضون على أنفسهم طوقاً مركّباً من العزلة والاغتراب، يشدّدون الخناق على أنفسهم بتضييق فضاءاتهم وتحديد ميادين تحرّكهم. أقول هذا من وحي أمسيات أدبية شاركت فيها والتقيت أثناءها بأصدقاء ومهتمّين بريطانيّين وأوروبيّين وقلة من المتابعين العرب والكرد في عدة مدن هنا في بريطانيا.
ولعلّ من باب الاعتراف التأكيد على أنّ الغربة ليست بغيضة كما كان يحلو لنا أن نصفها، ولاسيّما حين تتبدّى أرحم من بلادك الطاردة لك، وهنا تكون المفارقة، تكون في مواجهة مع ماضيك وذاكرتك، تحتاج لإعادة تعريف للمفاهيم كي تبقى على صلة بواقعك وذاتك بمعزل عن حمولتك المتراكمة من الضغائن والمآسي. الغربة كانت ثيمة أساسية في رواياتي وكتاباتي وستبقى حاضرة فيها، لأنها متجددة في كياني، تلهب ذاكرتي وتشعل جذوة الحنين إلى ذكريات أسبغ عليها الجمال لأنّها باتت في حكم ماضٍ لا أريد له أن يعود، ماضٍ أمقت بعض تفاصيله من دون أن أحقد على نفسي فيها، ومن دون التبرّؤ من كلّ ما كان يحيط بها من تناقضات شكّلت ملامح أجيال بأكملها.
صناعة الذكريات لا تفلح في تحويل المنفى لوطن، فليس المطلوب من الكاتب المغترب أن يثور على ذاكرته المفعمة بمخزون هائل من تفاصيل ماضيه وأمكنته السابقة، بل تكون في إيجاد نوع من الانسجام والتناغم مع راهنه، بحيث يؤالف بين يومه وأمسه وينسج نصوصاً تكون بوّابات وجسوراً إلى غده، يروم بها الهدوء والسلام.
وليس مطلوباً من المنفيّ أن يحقد على ذواته المتشظّية المتناغمة رغماً عنها، ولا أن يتعاطى بعنصرية مع ماضيه وحاضره، ولا أن يمارس أيّ نوع من أنواع الإقصاء لأيّ جانب من جوانب حياته، لأنّه حينها سيصارع وحوشاً لا يمكن قمعها أو كبتها في داخله، والأسلم له أن يبتكر معادلته الجامعة بين المتناقضات التي ترسم لوحته الحياتية وتثري تجربته الإنسانية.
أكرّر دائماً إن ذاكرة المرء سلاحه، تاريخه الذي ينير له مستقبله، نقطة الأمل التي تحفظ له توازنه، وتبقيه على صلة بأمسه وغده. الذاكرة تبقي ارتباط الإنسان بأرضه وأهله وعاداته وتقليدها.. تصوّر بشراً من دون ذاكرة..! أي نوع من البشر سيكون هؤلاء...!َ
هيثم حسين روائي وناقد سوريّ مقيم في لندن.
حين تشعر بأنّ وطنك المفترض يلفظك كشيء غير مرغوب به، أو يضيّق عليك بحيث يقزّمك، تبحث عن وطن بديل، لا في الخيال فقط بل في الواقع، لأنّك تحتاج أن تعيش بمعزل عن مُسلّع تتمّ قيادته بالأوامر والإملاءات، ومن المفارقة أنّ الدول التي كنّا نصفها بدول الاستعمار هي التي تتحوّل إلى أوطان، وتصبح بدورك، ككاتب كرّس حياته للتغنّي بالوطن المأمول، مسكونا بحنين إلى الاستعمار، وإلى ذاك الذي تربّيت في مناهجك التعليمية على كرهه واستعدائه، إلى المستعمر الذي يأويك ويبدّد شيئاً من غربتك بأن يكفل لك حقوقك وحرّياتك من دون أن يحاول قهرك بشتّى السبل، أو سلبك كينونتك وهويتك، كما كان يفعل من يفترض بأنه ابن وطنك.
لا يتعلّق الأمر باختيار أو إجبار، ولا برغبة أو إرادة، بقدر ما يعود بجذوره إلى ظروف قاهرة للابتعاد، وذاك الابتعاد يمكن أن يسمّى بتسميات وأوصاف مختلفة، يمكن أن يكون هجرة أو منفى أو لجوءاً، كما قد يوصف بأنه هرب من الاستحقاقات والمواجهات.. لكن هل الكاتب في وارد مواجهة قوى عنيفة قاتلة تسعى إلى إقصائه والقضاء عليه؟ وهل يملك الكاتب سوى أسلحته الأدبية وفكره وخياله للمواجهة والتعرية في معركة الحياة في الوطن الطارد؟
كما أنّ الظلم ظلمات، فإنّ المنفى منافٍ، والغربة غربات، لها وجوه متعدّدة، قاهرة، قاسية، دامية، وقد تكون مداوية للجراج ومعالج للانكسارات السابقة. وهي تختلف من امرئ لآخر، فهناك من قد يعتبرها مرحلة مؤقتة بانتظار العودة المأمولة لوطنه، لكنه يتناسى أو يغفل عن انسلال العمر من بين يديه، فلا يستقرّ به المقام في غربته التي يحتاج لتكيّف معها وترويضها، ولا يتمكّن من العودة لوطن يزداد بعداً ونأيا عنه بالتراكم، لدرجة أنّه يرسم تفاصيل متخيلة في خياله لا تتقاطع مع الواقع المتغيّر بأية صلة.
تخلّف الظروف البائسة التي تمرّ بها مناطق النزاع و الاحتراب ضحاياها، ولا يكون أولئك الذين يسقطون في المواجهات المباشرة في الحروب والمعارك القتلى الوحيدين في مواسم الخراب والإجرام، بل هناك آخرون يعانون مرارات الجريمة الماضية المستمرّة في أرواحهم، وبخاصّة الأدباء والفنّانين الذين وجدوا أنفسهم في رحاب منافٍ موحشة وملاجئ كانت أحنّ عليهم من أوطانهم المفترضة.
قد يواجه الأديب المهاجر، وبخاصّة الخارج في ظروف معيّنة، كالحرب أو الحصار أو التضييق على الحرّيات، بسيل من الاتّهامات التي لا تخلو من إساءات عنصرية من الأجيال الجديدة اللاحقة التي لم تعش محنته ولم تعش تفاصيلها، وقد يتّهم من قبل بعض مجاليه بأنّه اختار سلامته الشخصيّة وترك الوطن خلفه يعيش قسوة واقعه، كما قد ينعَت بالجبن لأنّه لم يتمكّن من المواجهة، وأنّه كان عليه اختيار البقاء مهما كلّفه ذلك.
وجوه المنفى
الغربة مدماك من تاريخ الأدب وحجر أساس فيه، القديم منه والحديث، وهي مؤثرة وحاضرة دوما كشكل من أشكال المواجهة والتحدّي من جهة، وكصيغة من صيغ التصالح مع الذات والزمن والمكان من جهة أخرى، وكأنّي بها تهدهد الذكريات وتبني عالما جديدا على ركامها، أو انطلاقا من صورها المعتمة وتجلّياتها الأدبية والحياتية المتجدّدة.
يرمّم الاغتراب والنفي بعض الصدوع في الأرواح لكنّه يخلف شروخا لا يمكن ردمها أيضا، ويكتب على المغترب والمنفي أن يتعايش مع النقائض التي تجبل روحه وكيانه، ويفرض عليه أن يوجد معادلته الخاصة للمضيّ إلى غده. ويا له من درب حياتيّ وأدبيّ يجمع بين ما هو هارب منه وما هو هارب إليه.!
في الملاجئ، المهاجر، المنافي، يكتشف الكاتب ذواتا كان يقهرها ويطلق لها العنان لتعبّر بحرّية بعيدا عمّن نصّبوا أنفسهم سدنة للوطن والدين والأعراف والقيم، يتحلّى بمسؤولية الكلمة التي يوظّفها بشكل أكبر، لأنّه لم يعد محكوما بسلطات القهر والنهي والنفي والإرغام، يعيش حرّيته ويكتبها، وهنا تكون مسؤوليته مضاعفة.
تستوطن الغربة نفوس أصحابها، تغدو وطنا بجانب المنفى الذي غدا بدوره وطنا، تتعاظم الغربات وتكثر الأوطان ويبقى البحث الدائم عن ذاك الوطن الحلم الذي يجمع بين ضفتين متنافرتين تجمعهما روح معذّبة غريبة وذاكرة لا تنفكّ تترنّم على إيقاع الذكريات، من جهة حقوق المنفى وحرياته وقيمه ومن جهة أخرى ذاك الأمان الطفوليّ البريء الذي يكاد يكون من باب الاستحالة أن يعثر عليه أيّ شخص في أيّ منفى.
وكم أجاد الشاعر الفلسطينيّ الراحل محمود درويش بحديثه عن المنفى بقوله: «نحن نُولَدُ في منفى، ويولد فينا المنفى. ولا يُعَزّينا أن يُقال إن أرض البشر كُلّها منفى، لكي نضع منفانا في مَقُولةٍ أدبية.» وهو الذي تحدث عن وجوه المنفى وعن العودة المجازية التي لم تستطع ردم الفجوات في الأرواح الهائمة في فضاءات منافيها المتجدّدة والمتعددة التي لم تستدلّ إلى دروب للتبدّد.
وكذلك أبدع مواطنه وصديقه الراحل إدوارد سعيد الذي يعدّ أحد أبرز من كتب عن المنفى وتحوّلاته في أكثر من عمل له، في سيرته البديعة «خارج المكان»، و»تأملات حول المنفى» بجزأيه، والذي يقول في الجزء الأول منه: «ما أراه هو أن بمقدور المنفى أن يولّد الضغينة والالتياع، غير أن بمقدوره أيضا أن يولّد رؤية حادّة وماضية. فما خلّفه المرء وراءه يمكن أن يكون مثاراً للندب والتفجّع كما يمكن أن يستخدم في توفير مجموعة مغايرة من العدسات. ولأنّ المنفى والذاكرة يسيران معاً، بالتعريف تقريبا، فإنّ ما يتذكّره المرء ما الماضي والكيفية التي يتذكّره بها هو ما يحدّد كيف يرى هذا المرء إلى المستقبل».
ويقول إدوارد سعيد في موضع آخر من الكتاب نفسه: «يجبر المنفى المرءَ على التفكير فيه ويا لها من تجربة فظيعة. إنّه الشرخ الذي لا التئام له بين كائن بشريّ ومكانه الأصليّ. بين الذات وموطنها الحقيقيّ؛ فلا يمكن البتّة التغلّب على ما يولّده من شجن أساسيّ. وإذا ما كان صحيحاً أنّ الأدب والتاريخ يحفلان بحوادث بطولية، ورومانسية، ومجيدة، بل وظافرة حدثت في حياة النفي، إلّا أنّ هذه الحوادث لا تعدو أن تكون جهوداً مضنية يُقصد منها التغلّب على أسى الغربة الشالّ. فمآثر المنفى لا يني يقوّضها فقدان شيء ما خلّفه المرء وراءه إلى الأبد».
ويمكن أن يوضع المغترب المنفيّ كدريئة لتوجيه الاتّهامات إليه وتأليب العنصريّين عليه، بحيث يتمّ التشكيك بما يكتبه أو يعلنه من مواقف باعتباره تخلّى عن تشبّثه بمكانه واختار إيثار سلامته الشخصية، وترك ساحة المواجهة، كما حدث مع الروائيّ الألمانيّ ألفريد دوبلن (1878-1957) الذي كان قد اضطر لترك بلاده بسبب صعود النازية واستقر بداية في فرنسا بين سنوات 1933 – 1940م ثم هاجر في بداية الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة، وبقي هناك بضع سنوات، ثم عاد إلى بلاده بعد انتهاء الحرب، لكنه ما لبث أن غادرها إلى فرنسا مرة أخرى حيث عاش ظروفا صعبة، واتّهم من قبل بعض أبناء بلده بكثير من الاتّهامات التي نالت من مصداقيته وآرائه، وحتّى كتابته.
يمهّد الألماني كريستوف بيترز لمجموعته «استئناس الغربة» بجمل قصيرة عن الغربة يقول فيها: «غرباء خارج أوطاننا/ غرباء في أرضنا وديارنا/ وأينما نحلّ.. سنبقى غرباء»، في إشارة إلى الغربة الملتصقة بروح الإنسان في حلّه وترحاله وكيف أنه يبقى مسكونا ومقيّدا بها، وكأنّها قدره أو رفيقة دربه وراسمه مصيره بحيث ليس أمامه سوى الانصياع لها ومحاولة تكييف نفسه وفق شروطها.
يبدأ الغريب بالارتياح للغرباء، فليس هناك ما يقيّده، ليس هناك ماضٍ مشترك ليخشى منه، أو ما هو متقاطع ليقوم بتشذيبه والتملّص من مواجهته، هناك فقط تلك اللحظة الهاربة المنفلتة من أيّة التزامات، وهنا يتقاطع مع الإنكليزي آيان مكيوان في روايته «الارتياح للغرباء» التي ترصد صوراً وأصداء من تأثير الغربة على الناس، ومن جماليات السفر والترحال، وكيف أن الغريب يبدأ بنسج خيوط علاقات مع محيطه الجديد الذي يجد نفسه فيه، في محاولة منه للاندماج مع واقعه، وتبديد اغترابه المتعاظم، عسى أن يستدل إلى طريقة لتهدئة نيران غربته ووحشته.
أتّفق مع مكيوان في إشارته إلى أن الأماكن التي يمر بها المرء قد تتحول إلى محطة للراحة بعد البوح والاعتراف والاسترسال في ذلك، بحيث تغدو تلك الأماكن بمثابة عتبات شافية لمَن يعبرونها، لأنهم يخففون عن أنفسهم عناء الكتمان، ويبوحون بما يقض مضاجعهم، من دون أن يعود عليهم بالأذى والفضيحة، لأنهم يلقون أسرارهم ويرتحلون إلى عوالمهم السابقة، ويتركون تلك الأمكنة بكل ما ومن فيها.
معادلة لا بدّ منها
لعلّ من باب المفارقة أنّ مَن يبحثون عن تبديد لغربتهم أحياناً لا يغامرون بالخروج من مناطق راحتهم، أو ترويض منافيهم بمحاولة تأثيثها بتفاصيل تبقي روابط الذاكرة والذكريات حيّة ومتجدّدة، كحال معظم أبناء الجاليات العربية والكردية - الشرقيّة عموما - في بريطانيا ممّن لا يجدون أنفسهم معنيّين بأيّ نشاط أدبيّ أو فنّي أو ثقافيّ، حتّى وإن كان عنهم. كأنّهم بهذا «النأي بالنفس»، يفرضون على أنفسهم طوقاً مركّباً من العزلة والاغتراب، يشدّدون الخناق على أنفسهم بتضييق فضاءاتهم وتحديد ميادين تحرّكهم. أقول هذا من وحي أمسيات أدبية شاركت فيها والتقيت أثناءها بأصدقاء ومهتمّين بريطانيّين وأوروبيّين وقلة من المتابعين العرب والكرد في عدة مدن هنا في بريطانيا.
ولعلّ من باب الاعتراف التأكيد على أنّ الغربة ليست بغيضة كما كان يحلو لنا أن نصفها، ولاسيّما حين تتبدّى أرحم من بلادك الطاردة لك، وهنا تكون المفارقة، تكون في مواجهة مع ماضيك وذاكرتك، تحتاج لإعادة تعريف للمفاهيم كي تبقى على صلة بواقعك وذاتك بمعزل عن حمولتك المتراكمة من الضغائن والمآسي. الغربة كانت ثيمة أساسية في رواياتي وكتاباتي وستبقى حاضرة فيها، لأنها متجددة في كياني، تلهب ذاكرتي وتشعل جذوة الحنين إلى ذكريات أسبغ عليها الجمال لأنّها باتت في حكم ماضٍ لا أريد له أن يعود، ماضٍ أمقت بعض تفاصيله من دون أن أحقد على نفسي فيها، ومن دون التبرّؤ من كلّ ما كان يحيط بها من تناقضات شكّلت ملامح أجيال بأكملها.
صناعة الذكريات لا تفلح في تحويل المنفى لوطن، فليس المطلوب من الكاتب المغترب أن يثور على ذاكرته المفعمة بمخزون هائل من تفاصيل ماضيه وأمكنته السابقة، بل تكون في إيجاد نوع من الانسجام والتناغم مع راهنه، بحيث يؤالف بين يومه وأمسه وينسج نصوصاً تكون بوّابات وجسوراً إلى غده، يروم بها الهدوء والسلام.
وليس مطلوباً من المنفيّ أن يحقد على ذواته المتشظّية المتناغمة رغماً عنها، ولا أن يتعاطى بعنصرية مع ماضيه وحاضره، ولا أن يمارس أيّ نوع من أنواع الإقصاء لأيّ جانب من جوانب حياته، لأنّه حينها سيصارع وحوشاً لا يمكن قمعها أو كبتها في داخله، والأسلم له أن يبتكر معادلته الجامعة بين المتناقضات التي ترسم لوحته الحياتية وتثري تجربته الإنسانية.
أكرّر دائماً إن ذاكرة المرء سلاحه، تاريخه الذي ينير له مستقبله، نقطة الأمل التي تحفظ له توازنه، وتبقيه على صلة بأمسه وغده. الذاكرة تبقي ارتباط الإنسان بأرضه وأهله وعاداته وتقليدها.. تصوّر بشراً من دون ذاكرة..! أي نوع من البشر سيكون هؤلاء...!َ
هيثم حسين روائي وناقد سوريّ مقيم في لندن.