تضعنا رواية «أيام الشمس المشرقة» للروائية المصرية «ميرال الطحاوي» الصادرة حديثا عن دار العين 2022م، أمام رؤية بانورامية هائلة عن أحوال العرب المهاجرين الشرعيين منهم وغير الشرعيين، لعلها الرواية العربية الأولى من نوعها التي نحتت بعمق سرديات المهاجرين العرب لاسيما المصريين منهم واللاجئين الذين بدورهم شهدوا هجرات مكثفة من بلادهم نتيجة الحرب الطاحنة منذ سنوات، ليختار الأغلبية منهم الهجرة إلى دول بعينها كالسويد وكندا على سبيل المثال؛ كونها دول تعاطفت مع هؤلاء اللاجئين ووفرت لهم سبل العيش التي يطمح لها معظمهم.
في القرن الماضي كان اللبنانيون هم أوائل من هاجروا لدول الغرب نتيجة للحرب الأهلية اللبنانية. نهج المهاجرون اللبنانيون في الاندماج في المجتمعات الغربية، حتى تداعى عن ذلك مصطلح هجرة الأدمغة العربية، فمعظم تلك الهجرات الفردية منها والجماعية حققت إنجازات شخصية وبرز أصحابها كعلماء وكتّاب وسياسيين على درجة عالية من العالمية، لعل من أبرزهم حاليًّا هو الروائي الفرنسي من أصل لبناني «أمين معلوف» الذي قلّده الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» وسام الاستحقاق الوطني من درجة «ضابط كبير» تقديرًا لما أنجزه في حقل الأدب والمعرفة.
لكن هذه المهارة في الاندماج في الحضارة الغربية لم تعد متاحة عند بقية المهاجرين العرب لاسيما المسلمين منهم، وأصبحت الأمور أسوأ بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر. ما جعل الهجرات العربية وفق الدراسات العالمية تنحصر حول أربعة أنماط يتفاوت تأثيرها من حيث التفاعل والتأقلم الحضاري والثقافي والاجتماعي في مجتمعات الهجرة والبيئة الجديدة، تكمن فيما يسمى بالعزلة الاختيارية، والتهميش، والاندماج، وأخيرًا الاستيعاب والانصهار.
هذه الأنماط نفسها قدمتها الطحاوي في روايتها الثرية «أيام الشمس المشرقة»، فالشخصية الأولى «نعم الخبّاز» الفتاة التي نشأت في مجتمع مسحوق. مع أب متعدد الزيجات، وأخوات كثيرات، تزوجن كلهن عدا «نعم» التي خسرت حظوظها في الزواج؛ لأنها لم تملك مؤهلات الزوجة، فهي قصيرة ومشوهة الوجه، يتخلص منها الأب - مدمن الأفيون- الذي لا يهتم بسوى بزوجته «الريِّسة» إلى امرأة تشغلها في خدمة البيوت. لا أحد يعرف كيف أصبحت «نعم» مهاجرة شرعية في أرض شمس المشرقة. غير أن ماضيها الخالي من مسؤولية الأبوة وحنان الأمومة حولها لامرأة انتهازية، سليطة اللسان، توظف دون خجل تلميحات جنسية، هي الشخصية التي أصبحت عليها «نعم» المهاجرة في بلاد المهجر لتكون نسخة مستعارة بل مقلدّة بحذافيرها من شخصية زوجة أبيها الجبارة «الريِّسة»، فقد وجدت «نعم الخبّاز» في استنساخ شخصيتها المتسلطة ذاتها المهاجرة في مجتمع لم تجد اندماجها فيه سوى في انتهاز الفرص، وحاولت رغم إمكانياتها المعدومة كامرأة أن تخلق لنفسها فرصًا في الحياة. فتقربت من «أحمد الوكيل» ونجحت في إغوائه ليتزوجها، رغم التنافر الذي كبر بينهما مع الوقت استطاعت أن تخرج من هذه الزيجة بولدين «جمال» و«عمر»؛ رغم أن الرواية تستفتح على حادثة انتحار «جمال» الابن البكر لـــ«نعم الخباز» غير أن القارئ لا يشهد في شخصية «نعم» الأم أي نوع من الصدمات، يظل حزنها خاليًّا من المشاعر وباردًا وكأن الذي انتحر هو ابن زوجها لا فلذة كبدها، بل حاولت أن تكتسب من حادثة ابنها نوعًا من التعاطف المصطنع من قبل المحيطين بها في أيام الشمس المشرقة. وهذا يعود لماضي «نعم» ولتأثيرات تكوينها الأسري على شخصيتها، التي جمدت مشاعرها تجاه الأمومة بالمفهوم الدارج، الأم التي تقدم التضحيات بل كانت أقرب لأم جاحدة، أم تعارك طواحينها، أم سليطة اللسان طفّشت ابنها «عمر» وكانت سببًا وراء انتحار ابنها «جمال». أرادت «نعم» المستنسخة لشخصية «الريِّسة» أن تتحكم بزوجها «أحمد الوكيل» غير أنه هرب منها وغاب ولا نعرف مصيره كقراء. هي أيضا أرادت أن يكون أبناؤها طوع يدها، تتحكم بهم، فزادت الوضع سوءًا ونهايات مأساوية. هذا التفتيت الأسري جعل من «نعم» تجد تعويضها في الاندماج مع شخصيات أيام الشمس المشرقة، فهي تكاد تكون صديقة الجميع أقرب لنموذج «صديقة المصلحة»، لكن صلاتها بالنساء تحديدًا، المهاجرات كانت مبنية على المنفعة ونابعة من حقدها على ما يمتلكن من مقومات تفتقدها سواء على تكوينها الجسدي أو الفكري أيضا. بينما صلاتها بالرجال فكانت تسعى إلى نصب طوقها حولهم، أما صلاتها مع المجتمع ككل فكان قائمًا على خلق أسطورة «التعاطف» وساهم تكوينها الجسدي «تشويه وجهها» نتيجة حريق حصل في ماضي ديارها في تحقيق مساعيها «لم تخبئ نعم تلك الندوب التي توارت قليلا بفعل التجاعيد وغبار الزمن، بل كانت تستخدمها وفقا لما تقتضيه الحاجة كوثيقة على ما تعرضت له في طفولتها من كوارث تستوجب الشفقة».
على نقيض شخصيتها «ميمي دونج» التي امتلكت من مقومات الجمال ما جعلها محط أنظار الرجال في أيام الشمس المشرقة، المرأة التي استثمرت جسدها على النحو الذي يرضيها، بدت كأميرة من سلاسة ملاك الأرض وزعماء القبيلة، رغم أن «نعم» من حقدها كانت تصمها بالعاهرة. إلا أنها كانت تمنح جسدها بحب دون أن تُشعر من حولها بأنها مضطرة لذلك، تمنحه دون مال، تمنحه بناء على حنانها ورغبتها في احتواء الآخرين كما فعلت مع «سليمان النجار» و«جمال»، كانت تستوعب متاعبهم النفسية، وتحاول أن تسكن من هلعهم، ومن الدمار النفسي الملحق بهم من بيئاتهم، من عائلاتهم، ومن ماضيهم المضطرب.
هي نفسها أيضا كانت تعي إمكانيات جسدها، ومدى ما تملكه من مؤهلات تكون مبعثًا لراحة الآخرين وسعادتهم بل وحاجتهم، لذا قامت بجانب منح جسدها إلى بيع بويضاتها لنساء وجدن لتبرعها حياة ثرية لأمومتهن، يتجلى من هذا الوهب قدرتها الخلاقة على العطاء؛ لعلها أرادت أن تحيا بويضاتها في مستقبل أكثر استحقاقًا وأمنا من طفولتها، من الطفلة التي نجت من إحدى إرساليات الكنسية ولم تعرف أمها يوما.
فإذا ما كانت «ميمي دونج» بجمالها الخارق وقفت كحجر عثرة في طريق طموحات «نعم الخباز» فجابهتها بعدائية ووصمتها بالعهر، غير أنها وجدت في شخصية «نجلاء» انصافًا لها بشكل ما، فهي كانت قبيحة الشكل والجسد في آن، وفق المنظور العام للمجتمع العربي. «نجلاء» التي كانت نموذجًا لمهاجرة مهمشة؛ لم تسع لاستدرار العطف كما فعلت «نعم الخباز» بل وضعت نفسها في قوقعة من العزلة، تسيرها الظروف وفق هوى الآخرين، بقيت على حالها خاضعة ومسلّمة بحقيقة وجودها. وكانت «نعم» هي حلقة وصلها مع باقي شخصيات الشمس المشرقة. «نعم» نفسها حاولت التخلص منها وفق أمزجتها المتقلبة في عقد وقطع الصداقات في محيطها القائم على المنفعة قبل أي شيء آخر.
أما النماذج العربية من هجرات الرجال فتجسدت في عدة شخصيات، أبرزها «أحمد الوكيل» الذي ترعرع في بيئة أمومية، فقد مات والده في وقت مبكر، ليجد نفسه مراهقًا في كنف أم تفوح برائحة الكاز الذي تبيعه، الأم وهي العاملة في النهار بينما في الليل تخرج مسرنمة بكامل عريّها إلى حيث تقودها خطواتها وكأنما ثمة قوة وهمية تسحبها خارج بيتها كلما نزل الليل. تغدو الأم عورة تُحرج مراهقة أحمد الوكيل وترهق رجولته. تجعله متخبطًا بعد موت الأم كيتيم يتلقى أولى دروس الأنوثة الطاغية عند أم حنان وابنتها. تقنعه أم حنان بفكرة السند والأخوة لابنتها زينب، فيكون حارسها الشخصي حيثما حلّت، ما يجعله يراها بكونها عورة محرمة وعليه أن يحميها من براثن مجتمع فجّ، وكأن أحمد الوكيل حُكم عليه أن يكون غطاء ساترًا لكل النساء اللاتي صادفهن في حياته، بدءًا بأمه انتهاءً بــ«نعم الخبّاز».
بينما على نقيضه شخصية «سليم النجار» المهاجر الشامي، ففي الوقت الذي وجد فيه «أحمد الوكيل» بعد خيبات العطالة وتردي الأوضاع النفسية في زيارة المسجد الحيّ والاعتكاف عند قبور الأموات خلاصًا ومهربًا عن خيباته في الماضي العتيق والواقع المرير. كان «سليم النجار» منشغلاً بخلق أساطير عن هجرته التي حاول من خلالها أن يقنع نفسه بها، بدا كـ «فاطيما» كانت تجد متعة في اختراع تاريخها الشخصي.
وسليم مهاجر شرقي كان يضع فحولته في المرتبة الأولى لنجاحه في المهجر، وفي كونه لاجئا لا يمتلك من الإمكانيات التي تؤهله ليحقق نجاحًا في مجال ما امتدادًا بقينه الطفولي المتوارث «فقد جاء صغيرًا وحالمًا ومسلحًا بكل المتخيلات المشرقية عن الحب والتلاقح والإخصاب البشري، وتوافق سريعًا مع عالمه الجديد واضعًا أحلام المهاجرين الرومانتيكية جانبًا والتعلق بما جادت به الحياة من متع صغيرة وآثمة». فما تزال وفق فكره الشرقي «الفحولة والرجولة» مقومات أساسية للسعي خلف غاياته وهو الذي يتمتع بجسد ممشوق وتقاطيع وسيمة وبنية مهيبة، هي بمثابة صك لعبور جسد العالم المستحدث، رغم أن «سليم النجار» كان متحفظًا في الحديث عن علاقاته بالنساء لعل ذلك نابع من البيئة المحافظة التي انبثق منها، فمهما بدت أساطير حكاياته عن نفسه يظل المرء مخلصًا لحكايته الأصيلة وإن مدّها بالأكاذيب، تبقى بلا تشويه في حقيقة ذاته. بينما «يوسف الأزهري» الدكتور الجامعي الذي كان يمتلك مؤهلات علمية غير أن ذلك لم تحرر قناعاته الشرقية في كون «الفحولة» هي أهم ما صلب رجولته فيمن حوله؛ لذا كان يتعمد في توسيع مغامراته الجنسية مع النساء لاسيما سيرته مع «زهرة» الطالبة الجامعية حيث درست «نجوى».
يبدو أن الشخصيات في رواية «أيام الشمس المشرقة» وقعت في شِرك الرؤية البانورامية المبهرة، الشائعة بشكل عام عن هجرات المهاجرين العرب إلى الغرب. وبريق الحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية لم تكن سوى فقاعة، بل طريقًا مفخخًا بالعثرات والصعوبات، ربما حظي بعض المهاجرين الأوائل كـ«نعم الخباز» ببعض الامتيازات، لكن اندماجها ظل محدودًا في الشمس المشرقة، وذلك أشعرها بالفوقية عليهم جميعا لكونها من جيل الرواد «من الجيل الأكثر حظا، الذين جاءوا مبكرين، واستطاعوا أن يحصلوا على بطاقات الضمان الاجتماعي وكروت الطعام ومعونات البطالة وتوفيق أوضاع الهجرة، جيل المعونات والاقتراض من البنوك».
أما باقي الشخصيات كانوا مهمشين، فقدوا الاتصال بثقافتهم، فروا من خراب العيش في ديارهم وعوضًا عن التواصل الاجتماعي والاندماج لم يسعوا بشكل حقيقي إلى اكتساب ثقافة المجتمع الجديد، وظل تواصلهم على نطاق ضيق ببعضهم البعض دون أن يجسروا على العبور خارج حدود أيام الشمس المشرقة. بقي كل منهم على الحالة التي انسل بها عن ماضيه؛ ليجابه مخاوفًا لا تكاد تتباين عن الهواجس التي امتصّها حتى التعب في حياته السابقة، ظل كل واحد منهم يتوارى خلف أساطير مخترعة علّها تخفف عبء هجرته التي ضاعفت من حدّة غربته، وكلما كبست العزلة على أرواحهم أصبحوا أكثر راديكالية في أفكارهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم، في مجابهة مخاوفهم الشخصية أيضا.
وكأن رواية «أيام الشمس المشرقة» حاولت أن تفقىء الأوهام عن بصائر الذين يرون في الغربة والهجرة والمنفى مهما اختلفت التسميات جنة أبدية، حيث يحصد المرء رغد العيش بل هي في صورتها الواقعية على نقيض من ذلك، يعوز الإنسان المهاجر كثير من التحديات، ليتغلب على هواجسه الشخصية وليردأ مخاوفه وخيباته سعيًا للحياة التي كان يطمح لها.
الهجرات على ما يبدو فقدت هالتها البراقة، ولم تعدّ الغاية المثلى ولا مثار الحسد كما وضحت الكاتبة في ثنايا روايتها: «معظمهم يفضلون الابتعاث إلى جهات محببة، تسمح لهم بتجنب مشقة إجادة لغة أجنبية، بلدان أقرب، وأكثر نفطًا، وتسمح لهم بفرص للتحول من مبتعثين مؤقتين إلى موظفين دائمين».
تمكنت الكاتبة «ميرال الطحاوي» في روايتها «أيام الشمس المشرقة» من أن ترسخ في قلب قارئها وفكره عملاً روائيًّا شديد المتعة والتنوع، عبر شخصيات حيّوية، غذّت امتدادها الشخصي في واقع القراء، شخصيات ستظل تراوح طويلاً كحكايات تُروى وتجارب مفعمة بالخيبات والأمل في آن، هذه الرواية بتأكيد إضافة مهمة في تاريخ سرديات الرواية العربية الحديثة.
ليلى عبدالله قاصة وكاتبة عمانية
في القرن الماضي كان اللبنانيون هم أوائل من هاجروا لدول الغرب نتيجة للحرب الأهلية اللبنانية. نهج المهاجرون اللبنانيون في الاندماج في المجتمعات الغربية، حتى تداعى عن ذلك مصطلح هجرة الأدمغة العربية، فمعظم تلك الهجرات الفردية منها والجماعية حققت إنجازات شخصية وبرز أصحابها كعلماء وكتّاب وسياسيين على درجة عالية من العالمية، لعل من أبرزهم حاليًّا هو الروائي الفرنسي من أصل لبناني «أمين معلوف» الذي قلّده الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» وسام الاستحقاق الوطني من درجة «ضابط كبير» تقديرًا لما أنجزه في حقل الأدب والمعرفة.
لكن هذه المهارة في الاندماج في الحضارة الغربية لم تعد متاحة عند بقية المهاجرين العرب لاسيما المسلمين منهم، وأصبحت الأمور أسوأ بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر. ما جعل الهجرات العربية وفق الدراسات العالمية تنحصر حول أربعة أنماط يتفاوت تأثيرها من حيث التفاعل والتأقلم الحضاري والثقافي والاجتماعي في مجتمعات الهجرة والبيئة الجديدة، تكمن فيما يسمى بالعزلة الاختيارية، والتهميش، والاندماج، وأخيرًا الاستيعاب والانصهار.
هذه الأنماط نفسها قدمتها الطحاوي في روايتها الثرية «أيام الشمس المشرقة»، فالشخصية الأولى «نعم الخبّاز» الفتاة التي نشأت في مجتمع مسحوق. مع أب متعدد الزيجات، وأخوات كثيرات، تزوجن كلهن عدا «نعم» التي خسرت حظوظها في الزواج؛ لأنها لم تملك مؤهلات الزوجة، فهي قصيرة ومشوهة الوجه، يتخلص منها الأب - مدمن الأفيون- الذي لا يهتم بسوى بزوجته «الريِّسة» إلى امرأة تشغلها في خدمة البيوت. لا أحد يعرف كيف أصبحت «نعم» مهاجرة شرعية في أرض شمس المشرقة. غير أن ماضيها الخالي من مسؤولية الأبوة وحنان الأمومة حولها لامرأة انتهازية، سليطة اللسان، توظف دون خجل تلميحات جنسية، هي الشخصية التي أصبحت عليها «نعم» المهاجرة في بلاد المهجر لتكون نسخة مستعارة بل مقلدّة بحذافيرها من شخصية زوجة أبيها الجبارة «الريِّسة»، فقد وجدت «نعم الخبّاز» في استنساخ شخصيتها المتسلطة ذاتها المهاجرة في مجتمع لم تجد اندماجها فيه سوى في انتهاز الفرص، وحاولت رغم إمكانياتها المعدومة كامرأة أن تخلق لنفسها فرصًا في الحياة. فتقربت من «أحمد الوكيل» ونجحت في إغوائه ليتزوجها، رغم التنافر الذي كبر بينهما مع الوقت استطاعت أن تخرج من هذه الزيجة بولدين «جمال» و«عمر»؛ رغم أن الرواية تستفتح على حادثة انتحار «جمال» الابن البكر لـــ«نعم الخباز» غير أن القارئ لا يشهد في شخصية «نعم» الأم أي نوع من الصدمات، يظل حزنها خاليًّا من المشاعر وباردًا وكأن الذي انتحر هو ابن زوجها لا فلذة كبدها، بل حاولت أن تكتسب من حادثة ابنها نوعًا من التعاطف المصطنع من قبل المحيطين بها في أيام الشمس المشرقة. وهذا يعود لماضي «نعم» ولتأثيرات تكوينها الأسري على شخصيتها، التي جمدت مشاعرها تجاه الأمومة بالمفهوم الدارج، الأم التي تقدم التضحيات بل كانت أقرب لأم جاحدة، أم تعارك طواحينها، أم سليطة اللسان طفّشت ابنها «عمر» وكانت سببًا وراء انتحار ابنها «جمال». أرادت «نعم» المستنسخة لشخصية «الريِّسة» أن تتحكم بزوجها «أحمد الوكيل» غير أنه هرب منها وغاب ولا نعرف مصيره كقراء. هي أيضا أرادت أن يكون أبناؤها طوع يدها، تتحكم بهم، فزادت الوضع سوءًا ونهايات مأساوية. هذا التفتيت الأسري جعل من «نعم» تجد تعويضها في الاندماج مع شخصيات أيام الشمس المشرقة، فهي تكاد تكون صديقة الجميع أقرب لنموذج «صديقة المصلحة»، لكن صلاتها بالنساء تحديدًا، المهاجرات كانت مبنية على المنفعة ونابعة من حقدها على ما يمتلكن من مقومات تفتقدها سواء على تكوينها الجسدي أو الفكري أيضا. بينما صلاتها بالرجال فكانت تسعى إلى نصب طوقها حولهم، أما صلاتها مع المجتمع ككل فكان قائمًا على خلق أسطورة «التعاطف» وساهم تكوينها الجسدي «تشويه وجهها» نتيجة حريق حصل في ماضي ديارها في تحقيق مساعيها «لم تخبئ نعم تلك الندوب التي توارت قليلا بفعل التجاعيد وغبار الزمن، بل كانت تستخدمها وفقا لما تقتضيه الحاجة كوثيقة على ما تعرضت له في طفولتها من كوارث تستوجب الشفقة».
على نقيض شخصيتها «ميمي دونج» التي امتلكت من مقومات الجمال ما جعلها محط أنظار الرجال في أيام الشمس المشرقة، المرأة التي استثمرت جسدها على النحو الذي يرضيها، بدت كأميرة من سلاسة ملاك الأرض وزعماء القبيلة، رغم أن «نعم» من حقدها كانت تصمها بالعاهرة. إلا أنها كانت تمنح جسدها بحب دون أن تُشعر من حولها بأنها مضطرة لذلك، تمنحه دون مال، تمنحه بناء على حنانها ورغبتها في احتواء الآخرين كما فعلت مع «سليمان النجار» و«جمال»، كانت تستوعب متاعبهم النفسية، وتحاول أن تسكن من هلعهم، ومن الدمار النفسي الملحق بهم من بيئاتهم، من عائلاتهم، ومن ماضيهم المضطرب.
هي نفسها أيضا كانت تعي إمكانيات جسدها، ومدى ما تملكه من مؤهلات تكون مبعثًا لراحة الآخرين وسعادتهم بل وحاجتهم، لذا قامت بجانب منح جسدها إلى بيع بويضاتها لنساء وجدن لتبرعها حياة ثرية لأمومتهن، يتجلى من هذا الوهب قدرتها الخلاقة على العطاء؛ لعلها أرادت أن تحيا بويضاتها في مستقبل أكثر استحقاقًا وأمنا من طفولتها، من الطفلة التي نجت من إحدى إرساليات الكنسية ولم تعرف أمها يوما.
فإذا ما كانت «ميمي دونج» بجمالها الخارق وقفت كحجر عثرة في طريق طموحات «نعم الخباز» فجابهتها بعدائية ووصمتها بالعهر، غير أنها وجدت في شخصية «نجلاء» انصافًا لها بشكل ما، فهي كانت قبيحة الشكل والجسد في آن، وفق المنظور العام للمجتمع العربي. «نجلاء» التي كانت نموذجًا لمهاجرة مهمشة؛ لم تسع لاستدرار العطف كما فعلت «نعم الخباز» بل وضعت نفسها في قوقعة من العزلة، تسيرها الظروف وفق هوى الآخرين، بقيت على حالها خاضعة ومسلّمة بحقيقة وجودها. وكانت «نعم» هي حلقة وصلها مع باقي شخصيات الشمس المشرقة. «نعم» نفسها حاولت التخلص منها وفق أمزجتها المتقلبة في عقد وقطع الصداقات في محيطها القائم على المنفعة قبل أي شيء آخر.
أما النماذج العربية من هجرات الرجال فتجسدت في عدة شخصيات، أبرزها «أحمد الوكيل» الذي ترعرع في بيئة أمومية، فقد مات والده في وقت مبكر، ليجد نفسه مراهقًا في كنف أم تفوح برائحة الكاز الذي تبيعه، الأم وهي العاملة في النهار بينما في الليل تخرج مسرنمة بكامل عريّها إلى حيث تقودها خطواتها وكأنما ثمة قوة وهمية تسحبها خارج بيتها كلما نزل الليل. تغدو الأم عورة تُحرج مراهقة أحمد الوكيل وترهق رجولته. تجعله متخبطًا بعد موت الأم كيتيم يتلقى أولى دروس الأنوثة الطاغية عند أم حنان وابنتها. تقنعه أم حنان بفكرة السند والأخوة لابنتها زينب، فيكون حارسها الشخصي حيثما حلّت، ما يجعله يراها بكونها عورة محرمة وعليه أن يحميها من براثن مجتمع فجّ، وكأن أحمد الوكيل حُكم عليه أن يكون غطاء ساترًا لكل النساء اللاتي صادفهن في حياته، بدءًا بأمه انتهاءً بــ«نعم الخبّاز».
بينما على نقيضه شخصية «سليم النجار» المهاجر الشامي، ففي الوقت الذي وجد فيه «أحمد الوكيل» بعد خيبات العطالة وتردي الأوضاع النفسية في زيارة المسجد الحيّ والاعتكاف عند قبور الأموات خلاصًا ومهربًا عن خيباته في الماضي العتيق والواقع المرير. كان «سليم النجار» منشغلاً بخلق أساطير عن هجرته التي حاول من خلالها أن يقنع نفسه بها، بدا كـ «فاطيما» كانت تجد متعة في اختراع تاريخها الشخصي.
وسليم مهاجر شرقي كان يضع فحولته في المرتبة الأولى لنجاحه في المهجر، وفي كونه لاجئا لا يمتلك من الإمكانيات التي تؤهله ليحقق نجاحًا في مجال ما امتدادًا بقينه الطفولي المتوارث «فقد جاء صغيرًا وحالمًا ومسلحًا بكل المتخيلات المشرقية عن الحب والتلاقح والإخصاب البشري، وتوافق سريعًا مع عالمه الجديد واضعًا أحلام المهاجرين الرومانتيكية جانبًا والتعلق بما جادت به الحياة من متع صغيرة وآثمة». فما تزال وفق فكره الشرقي «الفحولة والرجولة» مقومات أساسية للسعي خلف غاياته وهو الذي يتمتع بجسد ممشوق وتقاطيع وسيمة وبنية مهيبة، هي بمثابة صك لعبور جسد العالم المستحدث، رغم أن «سليم النجار» كان متحفظًا في الحديث عن علاقاته بالنساء لعل ذلك نابع من البيئة المحافظة التي انبثق منها، فمهما بدت أساطير حكاياته عن نفسه يظل المرء مخلصًا لحكايته الأصيلة وإن مدّها بالأكاذيب، تبقى بلا تشويه في حقيقة ذاته. بينما «يوسف الأزهري» الدكتور الجامعي الذي كان يمتلك مؤهلات علمية غير أن ذلك لم تحرر قناعاته الشرقية في كون «الفحولة» هي أهم ما صلب رجولته فيمن حوله؛ لذا كان يتعمد في توسيع مغامراته الجنسية مع النساء لاسيما سيرته مع «زهرة» الطالبة الجامعية حيث درست «نجوى».
يبدو أن الشخصيات في رواية «أيام الشمس المشرقة» وقعت في شِرك الرؤية البانورامية المبهرة، الشائعة بشكل عام عن هجرات المهاجرين العرب إلى الغرب. وبريق الحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية لم تكن سوى فقاعة، بل طريقًا مفخخًا بالعثرات والصعوبات، ربما حظي بعض المهاجرين الأوائل كـ«نعم الخباز» ببعض الامتيازات، لكن اندماجها ظل محدودًا في الشمس المشرقة، وذلك أشعرها بالفوقية عليهم جميعا لكونها من جيل الرواد «من الجيل الأكثر حظا، الذين جاءوا مبكرين، واستطاعوا أن يحصلوا على بطاقات الضمان الاجتماعي وكروت الطعام ومعونات البطالة وتوفيق أوضاع الهجرة، جيل المعونات والاقتراض من البنوك».
أما باقي الشخصيات كانوا مهمشين، فقدوا الاتصال بثقافتهم، فروا من خراب العيش في ديارهم وعوضًا عن التواصل الاجتماعي والاندماج لم يسعوا بشكل حقيقي إلى اكتساب ثقافة المجتمع الجديد، وظل تواصلهم على نطاق ضيق ببعضهم البعض دون أن يجسروا على العبور خارج حدود أيام الشمس المشرقة. بقي كل منهم على الحالة التي انسل بها عن ماضيه؛ ليجابه مخاوفًا لا تكاد تتباين عن الهواجس التي امتصّها حتى التعب في حياته السابقة، ظل كل واحد منهم يتوارى خلف أساطير مخترعة علّها تخفف عبء هجرته التي ضاعفت من حدّة غربته، وكلما كبست العزلة على أرواحهم أصبحوا أكثر راديكالية في أفكارهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم، في مجابهة مخاوفهم الشخصية أيضا.
وكأن رواية «أيام الشمس المشرقة» حاولت أن تفقىء الأوهام عن بصائر الذين يرون في الغربة والهجرة والمنفى مهما اختلفت التسميات جنة أبدية، حيث يحصد المرء رغد العيش بل هي في صورتها الواقعية على نقيض من ذلك، يعوز الإنسان المهاجر كثير من التحديات، ليتغلب على هواجسه الشخصية وليردأ مخاوفه وخيباته سعيًا للحياة التي كان يطمح لها.
الهجرات على ما يبدو فقدت هالتها البراقة، ولم تعدّ الغاية المثلى ولا مثار الحسد كما وضحت الكاتبة في ثنايا روايتها: «معظمهم يفضلون الابتعاث إلى جهات محببة، تسمح لهم بتجنب مشقة إجادة لغة أجنبية، بلدان أقرب، وأكثر نفطًا، وتسمح لهم بفرص للتحول من مبتعثين مؤقتين إلى موظفين دائمين».
تمكنت الكاتبة «ميرال الطحاوي» في روايتها «أيام الشمس المشرقة» من أن ترسخ في قلب قارئها وفكره عملاً روائيًّا شديد المتعة والتنوع، عبر شخصيات حيّوية، غذّت امتدادها الشخصي في واقع القراء، شخصيات ستظل تراوح طويلاً كحكايات تُروى وتجارب مفعمة بالخيبات والأمل في آن، هذه الرواية بتأكيد إضافة مهمة في تاريخ سرديات الرواية العربية الحديثة.
ليلى عبدالله قاصة وكاتبة عمانية