تستحق التجربة الفكرية الطليعيّة للمفكّر الخليجي الكبير د. محمد جابر الأنصاري (مواليد البحرين عام 1939) التضوئة عليها باستمرار، نظراً لما تطرحه على مستوى مشهدية الفكر النهضوي العربي المتجدّد من أسئلة نقدية تحديثية قادرة على بلورة فكر قومي تنويري، من مهمته إعادة التجديد الإنتاجي في كل شيء، خصوصاً تجاه شجاعة تعيين المشكلات العميقة التي تعاني منها الأمة، وفي طليعتها المسألة الديمقراطيّة، وتثبيت مبدأ المواطنة المدعوم بالقانون، وبناء أدوات معرفيّة سياسيّة مختلفة عن تلك التي كان يستخدمها نظام الفهم السابق.

بلا جدال، يمكننا تصنيف محمد جابر الأنصاري في مصاف كبار مفكّري الجيل الفكري العربي الثالث الذي جاء بأطروحات فكريّة أكثر غنى وديناميّة واكتمالاً رؤيويّاً، من أمثال: عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط، وأنور عبد الملك، وزكي نجيب محمود، ومحمد أركون، وجورج قرم، وعلي محافظة، والطيب تيزيني، وصادق جلال العظم، وفهمي جدعان وغيرهم.. وغيرهم.

ركّز الأنصاري في سنوات عطاءاته الفكريّة الغزيرة (أمدّ الله بعمره) على مشروعين فكريين متلازمين، درساً وتقييماً. يتمثل الأول بدراسة البنية الفوقيّة على مستوى الوعي لتيّارات الفكر العربي الفلسفي والديني والسياسي الحديث والمعاصر، من زاوية التفسير التوفيقي لنزعة هذا الفكر وبيئته.

والمشروع الثاني، يذهب لدراسة البنية التحتيّة للسوسيولوجيا العربيّة منذ تكوّنها التاريخي المعروف إلى زمننا الراهن، ومدى مسؤوليّتها عن إفراز مختلف النظم والمسلكيّات والتراجعات السياسيّة والفكريّة والثقافيّة في الحياة العربيّة.

بالنسبة إلى المشروع الأول، انتقد الأنصاري مراوحة مجمل المفكّرين العرب المعاصرين في دائرة التوفيقيّة، وعدم تجاوزهم إيّاها إلى موقف واضح وحاسم، يُعيّن المسار الجديد للأمة، ويحدّد أولويّاته على ما عداها. وقد أشار في كتابه المميز «الفكر العربي وصراع الأضداد» إلى أن تيّارات ما عُرف بالفكر القومي الثوري منذ الأربعينات إلى نهاية الستينات من القرن الماضي، على ما بدا في ظاهر خطابها من راديكاليّة وثورية حاسمة، هي في الواقع تيّارات توفيقيّة تتجنّب الحسم بين ثنائيات: الواقعية والمثالية، المادية والروحية، القُطرية والقومية، الشرق والغرب... إلخ من هذه الثنائيّات التي أبقت إنساننا مُربكاً لا يلوي على شيء، في ما خصّ مساره الراهن والمستقبلي.

أما المشروع الثاني الذي استحوذ على اهتمام د. الأنصاري، فقد انبثق من حال التأزّم السياسي العربي المستمر، وما أنتجه من هزائم ونكسات أطبقت على حياتنا العربيّة المعاصرة برمتها. ودعا إلى عدم تفسير ذلك بقصور الأنظمة السياسيّة ومؤامرات الأعداء، على جري العادة، بل علينا قبل ذلك الرجوع إلى تأمل طبيعة تكوين ما سمّاه بـ«القاع السوسيولوجي العربي» وتخبّطاته العشائريّة والطائفيّة والإيديولوجيّة والحزبيّة الضيقة... إلخ. وتشخيص الأمر، في المحصّلة، على أنه بنية معيقة لنمو مجتمعاتنا وتطورها في اتجاه قيام دولة المواطنة الحديثة وتعزيزها.

وفي هذا الإطار رأى د. الأنصاري إن إعادة امتلاك الواقع معرفيّاً، هو السبيل لإعادة امتلاكه عمليّاّ، وعليه فإنّ أيّ اختراق نقدي مؤثر لواقعنا المؤلم، لا بدّ أن يكون اختراقاً معرفيّاً في المقام الأول، فالمعرفة هنا هي الشرط اللازم لرسم أيّ تصوّرات أو مبادئ محدّدة للتغيير النهضوي المنشود.

وعلى أهمية الدور المنسوب للمفكرين والمثقفين العرب، والمنتظر منهم تحقيقه في هذا المضمار، إلا أن د. الأنصاري يرى أنه ما لم ترتفع قطاعات المجتمع كافة إلى مستوى المسؤوليّة الفكرية والثقافية، وتشارك في صوغ الرؤية الجديدة ونقدها وإغنائها، فإنّ المفكرين والمثقفين وحدهم، لن يحققوا أي معجزة، مهما قيل عن دورهم الريادي المفترض.

كما أن الطريق إلى التغيير والتحديث - من وجهة نظر الأنصاري - ينطلق أيضاً من نقد الذات العربيّة، وإعادة تصويب علاقتها بتاريخها وحاضرها، لا من إلقاء اللوم على الآخرين، سواء أكانوا داخل الأمة أم خارجها. هذا على الأقل ما نستفيد منه بعد قراءتنا كتابه المهم للغاية: «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، والذي يركّز فيه على إعمال الفكر النقدي في سائر التجارب الفكرو/ سياسيّة المعاصرة التي مرّت وتمرّ بها الأمّة حتى الآن. كما يدعو في الكتاب عينه إلى تأسيس مدرسة فكريّة مجتمعيّة تحدّد الخصوصيّات العميقة للنهضة العربيّة، وكيفية تسييل مفاتيحها على الأرض، كي تكون مستوعبة من الجميع. ولا غرو، فالأنصاري يميل في كتابه هذا، كما في سائر كتبه الفكرية، إلى تفكيك القضايا المعقدة وتقديمها بشكل ميسّر وسهل التناول، انطلاقاً من قناعة راسخة لديه، بأن نجاح أي مشروع فكري، بخاصة إذا كان نهضوياً، إنما يكون بتوصيله للناس وتفاعلهم الحقيقي معه.

من جانب آخر، وبخصوص ديننا الإسلامي الحنيف، ومنعاً من تشويه صورته ومقاصده ورسالته الإيمانية، يدعو الأنصاري «إلى النهوض بإسلام متسامح معتدل، ينسجم مع طبيعة العصر ولا يتعارض مطلقاً مع أصل رسالته القائمة على الانفتاح على الآخر، والحوار معه، وتعزيز الأخوّة الإنسانيّة الواحدة».

ابن خلدون جديد

من شدّة انبهاره بالتجربة الخلدونيّة وقراءتها قراءة إسقاطيّة خلّاقة على واقعنا العربي غير العقلاني اليوم، بات د. محمد جابر الأنصاري يُلقّب بـ«ابن خلدون زماننا» أو «ابن خلدون الجديد»، والذي يظهر هذه المرة من مشرق بلاد العرب لا من مغربها. وكان كتابه: «لقاء التاريخ بالعصر.. دعوة لبذر الخلدونيّة بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العصر» بمثابة خارطة طريق لذلك.

ولم يقتصر أمر ترجمة انبهار الأنصاري بابن خلدون على كتابه المذكور فقط، بل تعداه إلى مباحث ومقالات عدة، جاء في إحداها «وإذ انتمى ابن خلدون إلى الماضي، فإنّ العرب لن يستطيعوا تجاوز فكره المجتمعي، إلا بعد معرفته عن كثب. وأعتقد أن «مقدمته» تمثل الكتاب الأفضل لمحو «أميّتنا» الحضارية والتاريخيّة».

الدرس الآسيوي

وما يميّز الأنصاري بعد، هو أنه كان على رأس المفكرين العرب الذي دعوا لاستلهام الدرس النهضوي الآسيوي، وقراءة روافع منطلقاته وحداثته المتكاملة، خصوصاً في بلدان كاليابان والصين وكوريا الجنوبية، لعلنا نستفيد من نهضة هذا الشرق، الذي حقق وللمرة الأولى في تاريخ العالم الحديث «قوة حضارية غير مرتبطة بميول الغرب وانحيازاته، ولا بأيّ عداء تاريخي للعرب والمسلمين» على حد تعبيره. وهنا نطرح السؤال انطلاقاً من استنتاجاته: هل يستوعب العقل الاستراتيجي العربي مثل هذا التحوّل الآسيوي الكبير، والذي لم يعد في آلياته العامة منافساً للعقل الغربي فقط، بل ومتجاوزاً له في شؤون عدّة، اقتصادية وعلمية وتكنولوجية، وسيتفوّق عليه في غضون سنوات معدودات؟

ونبقى في المدار الآسيوي لنقول، إن الأنصاري كان قد عرّج على مسألة «صدام الحضارات» من وجهة نظر عربيّة، وقبل ظهور أطروحة صموئيل هنتنغتون بشأنها بأكثر من خمس سنوات، ليصرّح بما ملخصه بأنه لا يريد منافسة هنتنغتون على براءة اختراعه للفكرة، فقد نالها بلا منازع في عصر العولمة العتيدة، لكنه يريد القول فقط، إننا انشغلنا بذلك الجانب من طرح هنتنغتون الذي وضع الإسلام بمواجهة الغرب، ولم نركّز على أهمية بروز القوى الآسيوية كقوى موازية للغرب، وكيف يمكن الاستفادة منها عربيّاً كقوة نديّة وذات كفاءة. وعليه سيظل العالم الإسلامي في هذه المرحلة ساحة للصراع، لا قوة في الصراع (على غرار الحالة الآسيوية)، وذلك بحكم واقع الحركة البطيئة للعلم والتقدم الحضاري والإنتاجي في المجتمعات الإسلامية.

قصارى القول، محمد جابر الأنصاري مفكّر عربي خليجي كبير، وصاحب مشروع فكري تنويري شجاع ومتجاوز، يجدر بنا قراءته بعمق، والبناء عليه. يكفي أنّ فلسفته الفكرية تقوم على معادلة أن النهضات الحقيقية للشعوب، إنما تبدأ بالعلم والتقدم الحضاري قبل أية أولويّات أخرى.. وأن الإنسان، في النتيجة، هو حصيلة معارفه، والأمة حصيلة وعيها.

أحمد فرحات كاتب وصحفي لبناني