يحدثنا تقرير (المهارات العالمية 2022)، الصادر عن مؤسسة كوسيرا في كاليفورنيا بالولايات المتحدة، عما أطلق عليه (إعادة المهارات العظيمة)؛ فالأتمتة والتقنيات الرقمية المتسارعة تُحدث الكثير من التغيرات على مستوى الصناعات والأعمال عموما، ولهذا فإن هذه التحولات تُعيد تشكيل سوق العمل على مستوى العالم؛ فبـ "حلول منتصف هذا العقد، قد تختفي ما يُقدَّر بنحو 85 مليون وظيفة، في حين أن 97 مليون وظيفة ستحل محلها" – حسب ما ورد في التقرير -، وفي خضم هذه التغيرات يجب علينا النظر في تلك المهارات التي نحتاجها لتطوير أدائنا وضمان استدامة تنميتنا المجتمعية.

قسَّم التقرير دول العالم من حيث دراسة المهارات الأساسية التي تحتاجها إلى أقاليم أربعة هي؛ أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وآسيا والمحيط الهادي، وأوروبا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وقد جاء ضمن تحليل نتائج دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن المنطقة تُحدث انتقالا بعيدا عن (اقتصاد الوقود الأحفوري، لكن هناك حاجة إلى مزيد من تنمية المهارات)؛ ولأن التحاق المرأة بسوق الأعمال ظل ثابتا أو متصاعدا في بعض دول المنطقة، فإن التقرير يرى أن "حصة المرأة في الوظائف المهنية والتقنية ستتضاعف بحلول نهاية العقد الحالي"، وعليه فإن هناك حاجة ملحة للتدريب على المهارات، فقد "بلغت النسبة المئوية للمتعلمات 37% في كل من تقرير المهارات العالمية للعام الماضي وهذا العام" – حسب التقرير -.

إضافة إلى ذلك فقد كشف التقرير أن المنطقة تستعد (لثورة تكنولوجيا التعليم)، خاصة مع انخفاض تكاليف البيانات، وإمكانات الوصول إليها عبر الهواتف المحمولة، والأجهزة التقنية الأخرى، وعلى الرغم من ذلك فإن المتعلمين في المنطقة يسجلون (درجات عالية في مهارات العمل، ولكن أقل في علوم التكنولوجيا والبيانات)، مما يفتح مجالا رحبا للتدريب والتعلم في مجال مهارات التكنولوجيا وآفاق استخدامها لتطوير الأعمال المختلفة، خاصة في مجالات (ريادة الأعمال المبتكرة)، التي يُظهر التقرير إمكانات تحقيقها في المنطقة نتيجة تلك الجهود التي تقوم بها الدول.

والحق أن سلطنة عمان من تلك الدول التي اعتنت بالتدريب والتأهيل في كافة القطاعات، خاصة القطاعات التقنية والتكنولوجية التي أصبحت حاجة ملحة في قطاعات الأعمال كلها، وقد جعلت من التدريب على المهارات أولوية وطنية تقوم بها المؤسسات والمراكز من أجل تحقيق الأهداف التي يصبو إليها الوطن. إن ما تقدمه المؤسسات المعنية بالقطاع التقني والإداري بشكل خاص يؤسس لتلك المهارات التي يتطلبها تطوير سوق الأعمال، والاستعداد للمتغيرات العالمية القادمة التي ستؤثر على الأعمال، وبالتالي ستؤدي إلى إحداث إشكالات وتحديات إذا لم يتم الاستعداد لها بوقت كافٍ.

ولعل الأزمات المختلفة المالية والصحية التي مرَّت على العالم قد أثَّرت على مستويات التدريب والتأهيل في معظم البلدان، حيث نجد أن التقرير يشير إلى التراجع العام في المهارات مقابل التغيرات التي يجب على الدول مواكبتها، وهذا التراجع يُسجَّل أيضا في عُمان لكن بنسبة أقل مقارنة بالكثير من دول المنطقة، وهو دلالة على تلك الجهود المبذولة من قِبل المؤسسات التي أولت المهارات اهتماما كبيرا، إضافة إلى الوعي المؤسسي باحتياجات القطاعات والتخطيط المعتمد على الرؤية الوطنية عمان 2040. ولأن مؤشرات التقدم في تكنولوجيا التعليم تشهد تطورا كبيرا على مستوى المنطقة والعالم، فإن الاستفادة مما أحدثته جائحة كورونا (كوفيد 19) من تطورات تقنية متسارعة، وما قامت به المؤسسات التعليمية في عُمان تغييرا للمنظومة التعليمية بما يتناسب والتحديات التي كانت تواجه التعليم، وما عملت عليه من ابتكار في آليات العمل التقني والتكنولوجي، فإن العمل على تطوير هذه المنظومة وتأهيل الكوادر التدريسية بما يتناسب والمعطيات التقنية، يُعد من أساسيات استدامة التطور التقني للتعليم والابتكار التكنولوجي الذي يضمن تطوير المنظومة التعليمية من ناحية، والاستعداد للطوارئ من ناحية أخرى، فما تم من جهود وما بُذل من قِبل المؤسسات التربوية والتعليمية والأفراد لابد أن يُستفاد منه، ولابد أن يُشكِّل أساسا للتنمية التقنية في الحقل التربوي.

يشير تقرير (المهارات العالمية الخضراء 2022)، الصادر عن مؤسسة (Linkedin) للتمثيل الاقتصادي، إلى تلك التحولات التي أعقبت جائحة كوفيد19، والتي جرَّت تغيرات ليس على مستوى الاقتصاد وحده وإنما أيضا على مستوى السياسات، الأمر الذي أحدث العديد من التغيرات على المستويات الاجتماعية وبالتالي على مستوى المهارات التي نحتاجها لمواكبة المتغيرات والتحديات التي تواجهنا وستواجهنا في المستقبل القريب، إنها اللحظة التي أسماها عليها التقرير بـ (اللحظة غير المسبوقة في التاريخ). إنها اللحظة التي نشأت جرَّاء الاضطرابات الاقتصادية العالمية، بالإضافة إلى العديد من التحديات كالتغير المناخي والبيئي، والتطورات التقنية، ومسارات الابتكار.

يستعرض التقرير الحاجة إلى ما أطلق عليه بـ (المهارات الخضراء)، التي تواكب (الوظائف الخضراء)، التي تقودها (المواهب الخضراء) من القوى العاملة في العالم؛ حيث "ارتفعت حصة المواهب الخضراء من 9.6 في العام 2015، إلى 13.3 في العام 2021، بمعدل نمو بلغ 38.5%" – حسب التقرير- ، وترتبط هذه المواهب وتلك المهارات والوظائف، بالبيئة من ناحية وقدرتها على إحداث تغير في مستويات الحفاظ على المناخ وحمايته من ناحية ثانية، ولهذا سنجد أن هناك تحولات وظيفية ومهارية ضمن القطاع البيئي ستؤثر على القطاعات الحيوية الأخرى، خاصة القطاع الاجتماعي، والثقافي، وقطاع الإعلام، إضافة إلى قطاع التعليم؛ فهذه القطاعات تسير وفق معطيات مرتبطة بالبيئة والتقنية، ومتغيرة وفقا لتلك التحولات التي تحدث في قطاع الوظائف وسوق العمل، والابتكار وتمكين الاستثمار فيه، وبالتالي فإنها قطاعات ذات قابلية عالية نحو إحداث تغيرات على مستوى المهارات المستقبلية التي تحتاجها القوى العاملة، والمبدعون العاملون فيها.

ولعل هناك من يظن أن (التخضير) لا يتعلَّق بالمجالات الاجتماعية والثقافية والتعليمية وغيرها من المجالات الإنسانية، باعتبار أنه مجال اقتصادي مرتبط بالتصنيع. والحال أن هذه القطاعات تقع في قلب (المهارات الخضراء) كونها مهارات تتأسس على (رأس المال البشري) الذي يعتمد على أفراد المجتمع بشكل عام والعاملين في القطاعات بشكل خاص؛ فإذا كان دور القوى العاملة والمؤسسات المشتغلة في قطاعات التصنيع والطاقة والتعدين والبناء وغيرها أساسي في الاقتصاد الأخضر، فإن القطاعات الإنسانية تعظِّم الفرص لتسخير لحظة التغيير وتوجيه المواهب الإبداعية والابتكارية للتغلُّب على التحديات الأكثر إلحاحا من أجل تمكين لحظة التغيير ، وقيادة المجتمع نحو المهارات الخضراء من أجل تحقيق الاستدامة التنموية.

ولهذا فإن تقرير (Linkedin) يكشف الطلب المتزايد على القوى العاملة المؤهلة بالمهارات الخضراء في القطاعات كلها؛ حيث "نمت إعلانات الوظائف التي تتطلب مهارات خضراء بنسبة 8% سنويا على مدى السنوات الخمس الماضية، ونمت حصة المواهب الخضراء بنحو 6% سنويا في الفترة نفسها"، وعلى الرغم من الطلب المتزايد في سوق العمل، إلاَّ أن التقرير يكشف أيضا عن (هيمنة) الوظائف غير الخضراء بنسبة تصل إلى (50%) على مستوى العالم، الأمر الذي يعني أن سوق الأعمال والمواهب يتجه في اتجاهات لا تتناسب مع مستويات التدريب والتأهيل المطلوبين.

ولكي تكون التنمية البشرية مستدامة وتنموية عليها أن تواكب تلك المهارات التي يتطلبها التطور التربوي والتعليمي من ناحية، وسوق الأعمال من ناحية ثانية، وقدرة التطور التقني والتكنولوجي من ناحية ثالثة، ولأن عُمان تتطلَّع إلى ثورة تقنية، ونمو في سعة الإبداع والابتكار فإن التدريب والتأهيل عليه أن يتواكب مع تلك التطلعات، والأمر هنا لا يتعلق بالمؤسسات الحكومية وحدها، فعلى القطاع الخاص والمدني دور كبير ومسؤولية وطنية تُحتِّم عليها تهيئة القوى العاملة بمهارات المستقبل بما يتواكب مع تطلعاتها وأهدافها.

إن التدريب والتأهيل وتمكين المهارات واجبنا جميعا، فلن تتحقق أهدافنا وطموحاتنا وبالتالي أهداف وطننا دون تطوير لما لدينا من مهارات، ودون الاستثمار في أنفسنا وأبنائنا. إننا نصبو نحو أهدافنا بما نملك من مهارات، فعلينا أن نتسلَّح بمهارات المستقبل، وأن نمنح أنفسنا فرص التطوير والتنمية الذاتية بما يتناسب مع تطلعاتنا وطموحنا.