في كل جامعاتنا العربية أقسام للتاريخ، من مشرق العالم العربي إلى مغربه، كما تَمنح الجامعات مئات الرسائل العلمية ( ماجستير ودكتوراة) في كل عام، ولا أعتقد أن غالبيتها تنطبق عليها المقومات العلمية بمعناها الفني والعلمي، فهي مجرد كتابات بذل فيها الباحثون قدرًا من الوقت، جاءت في معظمها منقولة من دراسات وبحوث سابقة اقتطعوا فيها جملة من هنا وجملة من هناك، وفقرة من هنا وأخرى من هناك، ولم يكلفوا أنفسهم عناء النقد أو التحليل أو المقارنة بين ما يُكتب هنا وما يُكتب هناك اعتقادًا منهم بأن البحث التاريخي مجرد أوراق تُسود.
أعتقد أن على جامعاتنا ومراكزنا البحثية أن تعيد النظر في القضية برمتها، ولعل المشكلة تكمن في افتقاد الباحثين لمقومات البحث الأكاديمي. فلم يتسلح الباحث بقدر مناسب من الثقافة ليس في مجال مناهج البحث فقط وإنما في الثقافة العامة التي يجب أن يتسلح بها الباحثون ابتداءً من القراءة المتعمقة في كل فروع العلوم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، حتى في مجال الأدب وغيرها من المعارف العديدة. ففي غيبة هذه الثقافة تأتي الكتابة في نطاق ضيق دون الانفتاح على المعارف ذات الصلة بالكتابة التاريخية وخصوصًا الدراسات الفلسفية، ولا أعتقد أن أقسام التاريخ قد التفتت إلى أهمية الثقافة المساعدة التي تفتح مجالات معرفية واسعة تمكن الباحث من الكتابة بالمعنى العلمي والأكاديمي.
لم يلتفت المؤرخون إلى أهمية النقد التاريخي وفقًا لرؤية علمية قوامها العقل والنقد والتحليل كما هو الحال في مجالات النقد الأدبي والفني، ولم يكلف الأساتذة أنفسهم عناء الكتابة عن السيل المنهمر من الرسائل الجامعية التي غالبًا ما يكون مصيرها الإهمال،حتى الرسائل التي يتم نشرها نشرًا عامًا لم تحظ بأي قدر من النقد أو مجرد التعليق، ولم يتنبه المؤرخون إلى أهمية وضع قواعد علمية وفنية ومنهجية لهذه الكتابات التي يكون مصيرها أرفف المكتبات الجامعية التي لايرجع إليها أحد، وهي أزمة يتحملها الأساتذة الذين أجازوا مثل هذه الرسائل بل وأشادوا بها، فأصبح هؤلاء – الذين أجيزت رسائلهم- لايحملون منها إلا مجرد اللقب العلمي، وهو ما أضاع الفرصة على تكوين أجيال من الباحثين المتميزين.
الملاحظ في حياتنا المعاصرة افتقادنا للأستاذ الأكاديمي بالمعنى العلمي، وخلو المكتبة العربية على المستويين القُطري والقومي من أساتذة مؤهلين سواء في كتاباتهم أو الإشراف على طلابهم الذين جاءوا صورة مشوهة من أساتذتهم الذين افتقدوا مقومات المشرف الأكاديمي، وهو ما يفسر خلو الساحة العلمية والثقافية من الكوادر العلمية المؤهلة، فضلاً عن الكتابات التي لم يلتفت إليها أحد لدرجة أن غالبية هذه البحوث قد افتقد مُعدوها مجرد المعرفة باللغة العربية والإلمام بقواعدها الفنية والأدبية، ولم تعد البحوث التاريخية إلا مجرد وسيلة للترقي وهي مسؤولية يتحملها المشرفون على هذه الرسائل، لذا لم تحظ هذه الكتابات بأي قدر من العناية من المجتمع الثقافي، وفي ظل عناية بالتخصصات التجريبية والتطبيقية سقطت الدراسات التاريخية من حسابات القائمين على جامعاتنا العربية.
الكثير من هذه الدراسات تفتقد إلى الاعتماد على المصادر الأصيلة كالوثائق والمخطوطات رغم أن بعضها قد أشار إليها الباحثون في قائمة مصادرهم لكنها جاءت لمجرد تجميل الصورة، وغالبًا ما أوردها الباحث دون الاعتماد عليها اعتمادًا حقيقيًا. فالمصادر ليس مهمتها استقاء المعلومات فقط وإنما تحقيقها وإعمال المنهج النقدي فيها وفق ثقافة الباحث في مجال معارفه الفلسفية والآدبية والاجتماعية جميعها تشكل المقومات الأساسية للبحث العلمي.
وحينما اهتمت الدول بإرسال بعثات إلى الدول الأوروبية ليستفيد المتخصصون في الدراسات التاريخية من الثقافات الأخرى إلا أن معظم هؤلاء - الذين حصلوا على شهادتهم من الجامعات الأجنبية - اكتفوا بما تعلموه بمجرد أوراق جمعوها سواء من كتب عربية أو أجنبية، حتى حينما اعتمد بعضهم على الوثائق الخاصة بموضوعاتهم فقد اكتفوا بمجرد الترجمة والنقل دون تحقيق، أو تحليل، أو معرفة بالسياقات التاريخية التي وردت فيها هذه المعلومات.
لا أعتقد أن جامعة أكاديمية يمكن أن تقبل استمرار عضو هيئة تدريس تكون مهمته التدريس فقط وإهمال البحث العلمي وهي مسؤولية يتحملها القائمون على جامعاتنا فلا يمكن أن يكون الأستاذ أستاذًا إلا بقدر ما كتب وأبدع في مجال تخصصه وإلا فمكانه هو التعليم ما قبل الجامعي وليس الجامعة التي قوامها البحث العلمي.
المثير في الأمر آيضًا أنه في كثير من الأحيان يعتمد الباحثون في كتاباتهم على المذكرات التاريخية التي كتبها أصحابها في سياقات تاريخية متباينة، والمدهش أنهم يأخذون ما ورد في هذه الكتابات على أنها حقائق مجردة، دون النظر لثقافة كاتب هذه المذكرات ودون مقارنتها بما كتبه الآخرون، ودون عرض هذا كله على عقل الباحث، ومنطق الأحداث، وسياقات الزمن الذي كُتبت فيه. حتى الوثائق الأجنبية التي كتبها دبلوماسيون عاشوا في بلادنا وكتبوا تقارير إلى بلادهم جميعها تمثل وجهة نظر كاتبها وهنا تأتي مهمة المؤرخ الحقيقي لكي يفكك الأحداث ويجمع وجهات النظر التي كتبها آخرون لكي يعيد المشهد وفقًا لثقافته وقراءته وإمكاناته.
لا ازعم أنني على معرفة وافية بكل ما يحدث في جامعاتنا العربية، لكن الكثير مما أعرفه عن بعض الجامعات يثير الألم والمرارة، فلم أقرأ بحثًا وافيًا عن تاريخ المشرق العربي أو مغربه، ولا زلنا نعيش عالة على ماكتبه أساتذتنا القدامى من أمثال عبد العزيز الدوري (العراق)، وجمال زكريا قاسم (مصر)، وأسد رستم (الشام). لعل القائمين على التعليم الجامعي وحتى مادون الجامعي لايقدرون العناية بالدراسات التاريخية التي سقطت من حساباتهم أمام زحف التكنولوجيا والبحوث التجريبية، لذا لم تحظ التخصصات التاريخية والفلسفية بنفس القدر من الأهمية اعتقادًا منهم بأن العلم بها لاينفع والجهل بها لايضر.
ماتناولته في هذا المقال لايشكل صورة سوداوية لحال الدراسات التاريخية فمازال لدينا القدر الكبير من التفاؤل اعتقادًا منا بإدراك مامضى من إهمال خلال السنوات الأخيرة على أمل أن تتبوأ هذه الدراسات المكانة اللائقة بها في جامعاتنا العربية.
أعتقد أن على جامعاتنا ومراكزنا البحثية أن تعيد النظر في القضية برمتها، ولعل المشكلة تكمن في افتقاد الباحثين لمقومات البحث الأكاديمي. فلم يتسلح الباحث بقدر مناسب من الثقافة ليس في مجال مناهج البحث فقط وإنما في الثقافة العامة التي يجب أن يتسلح بها الباحثون ابتداءً من القراءة المتعمقة في كل فروع العلوم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، حتى في مجال الأدب وغيرها من المعارف العديدة. ففي غيبة هذه الثقافة تأتي الكتابة في نطاق ضيق دون الانفتاح على المعارف ذات الصلة بالكتابة التاريخية وخصوصًا الدراسات الفلسفية، ولا أعتقد أن أقسام التاريخ قد التفتت إلى أهمية الثقافة المساعدة التي تفتح مجالات معرفية واسعة تمكن الباحث من الكتابة بالمعنى العلمي والأكاديمي.
لم يلتفت المؤرخون إلى أهمية النقد التاريخي وفقًا لرؤية علمية قوامها العقل والنقد والتحليل كما هو الحال في مجالات النقد الأدبي والفني، ولم يكلف الأساتذة أنفسهم عناء الكتابة عن السيل المنهمر من الرسائل الجامعية التي غالبًا ما يكون مصيرها الإهمال،حتى الرسائل التي يتم نشرها نشرًا عامًا لم تحظ بأي قدر من النقد أو مجرد التعليق، ولم يتنبه المؤرخون إلى أهمية وضع قواعد علمية وفنية ومنهجية لهذه الكتابات التي يكون مصيرها أرفف المكتبات الجامعية التي لايرجع إليها أحد، وهي أزمة يتحملها الأساتذة الذين أجازوا مثل هذه الرسائل بل وأشادوا بها، فأصبح هؤلاء – الذين أجيزت رسائلهم- لايحملون منها إلا مجرد اللقب العلمي، وهو ما أضاع الفرصة على تكوين أجيال من الباحثين المتميزين.
الملاحظ في حياتنا المعاصرة افتقادنا للأستاذ الأكاديمي بالمعنى العلمي، وخلو المكتبة العربية على المستويين القُطري والقومي من أساتذة مؤهلين سواء في كتاباتهم أو الإشراف على طلابهم الذين جاءوا صورة مشوهة من أساتذتهم الذين افتقدوا مقومات المشرف الأكاديمي، وهو ما يفسر خلو الساحة العلمية والثقافية من الكوادر العلمية المؤهلة، فضلاً عن الكتابات التي لم يلتفت إليها أحد لدرجة أن غالبية هذه البحوث قد افتقد مُعدوها مجرد المعرفة باللغة العربية والإلمام بقواعدها الفنية والأدبية، ولم تعد البحوث التاريخية إلا مجرد وسيلة للترقي وهي مسؤولية يتحملها المشرفون على هذه الرسائل، لذا لم تحظ هذه الكتابات بأي قدر من العناية من المجتمع الثقافي، وفي ظل عناية بالتخصصات التجريبية والتطبيقية سقطت الدراسات التاريخية من حسابات القائمين على جامعاتنا العربية.
الكثير من هذه الدراسات تفتقد إلى الاعتماد على المصادر الأصيلة كالوثائق والمخطوطات رغم أن بعضها قد أشار إليها الباحثون في قائمة مصادرهم لكنها جاءت لمجرد تجميل الصورة، وغالبًا ما أوردها الباحث دون الاعتماد عليها اعتمادًا حقيقيًا. فالمصادر ليس مهمتها استقاء المعلومات فقط وإنما تحقيقها وإعمال المنهج النقدي فيها وفق ثقافة الباحث في مجال معارفه الفلسفية والآدبية والاجتماعية جميعها تشكل المقومات الأساسية للبحث العلمي.
وحينما اهتمت الدول بإرسال بعثات إلى الدول الأوروبية ليستفيد المتخصصون في الدراسات التاريخية من الثقافات الأخرى إلا أن معظم هؤلاء - الذين حصلوا على شهادتهم من الجامعات الأجنبية - اكتفوا بما تعلموه بمجرد أوراق جمعوها سواء من كتب عربية أو أجنبية، حتى حينما اعتمد بعضهم على الوثائق الخاصة بموضوعاتهم فقد اكتفوا بمجرد الترجمة والنقل دون تحقيق، أو تحليل، أو معرفة بالسياقات التاريخية التي وردت فيها هذه المعلومات.
لا أعتقد أن جامعة أكاديمية يمكن أن تقبل استمرار عضو هيئة تدريس تكون مهمته التدريس فقط وإهمال البحث العلمي وهي مسؤولية يتحملها القائمون على جامعاتنا فلا يمكن أن يكون الأستاذ أستاذًا إلا بقدر ما كتب وأبدع في مجال تخصصه وإلا فمكانه هو التعليم ما قبل الجامعي وليس الجامعة التي قوامها البحث العلمي.
المثير في الأمر آيضًا أنه في كثير من الأحيان يعتمد الباحثون في كتاباتهم على المذكرات التاريخية التي كتبها أصحابها في سياقات تاريخية متباينة، والمدهش أنهم يأخذون ما ورد في هذه الكتابات على أنها حقائق مجردة، دون النظر لثقافة كاتب هذه المذكرات ودون مقارنتها بما كتبه الآخرون، ودون عرض هذا كله على عقل الباحث، ومنطق الأحداث، وسياقات الزمن الذي كُتبت فيه. حتى الوثائق الأجنبية التي كتبها دبلوماسيون عاشوا في بلادنا وكتبوا تقارير إلى بلادهم جميعها تمثل وجهة نظر كاتبها وهنا تأتي مهمة المؤرخ الحقيقي لكي يفكك الأحداث ويجمع وجهات النظر التي كتبها آخرون لكي يعيد المشهد وفقًا لثقافته وقراءته وإمكاناته.
لا ازعم أنني على معرفة وافية بكل ما يحدث في جامعاتنا العربية، لكن الكثير مما أعرفه عن بعض الجامعات يثير الألم والمرارة، فلم أقرأ بحثًا وافيًا عن تاريخ المشرق العربي أو مغربه، ولا زلنا نعيش عالة على ماكتبه أساتذتنا القدامى من أمثال عبد العزيز الدوري (العراق)، وجمال زكريا قاسم (مصر)، وأسد رستم (الشام). لعل القائمين على التعليم الجامعي وحتى مادون الجامعي لايقدرون العناية بالدراسات التاريخية التي سقطت من حساباتهم أمام زحف التكنولوجيا والبحوث التجريبية، لذا لم تحظ التخصصات التاريخية والفلسفية بنفس القدر من الأهمية اعتقادًا منهم بأن العلم بها لاينفع والجهل بها لايضر.
ماتناولته في هذا المقال لايشكل صورة سوداوية لحال الدراسات التاريخية فمازال لدينا القدر الكبير من التفاؤل اعتقادًا منا بإدراك مامضى من إهمال خلال السنوات الأخيرة على أمل أن تتبوأ هذه الدراسات المكانة اللائقة بها في جامعاتنا العربية.