في خضم الحرب الروسية على أوكرانيا، وتداعياتها المخيفة، وانشغال الأحزاب الحاكمة في أوروبا بها، تشهد القارة الأوروبية تحولات راديكالية ناعمة وعميقة تتم ضمن سياقات داخلية طبيعية، وتتخذ منها شرعيتها الراديكالية، مما يجعلنا نخضعها للدراسة الدقيقة، والمتابعة المستمرة، لكي نضع نتائجها فوق الطاولة السياسية للدول الخليجية الست في التواقيت المناسبة لعلنا نساهم في تصويب الفكر السياسي الخليجي نحو اتجاهات قد تكون غائبة عنه، أو أنها لم تزن بثقل أولويات اللحظة الزمنية التي تزاحمها اهتمام الدول الخليجية بتحولاتها الشاملة الجديدة، والحرب الروسية على أوكرانيا.
وتتجلى هذه التحولات المقلقة في أوروبا في وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة «النيوفاشية الجديدة» إلى السلطة في عدد متصاعد من العواصم الأوروبية، وحتى قبل الحرب على أوكرانيا كانت حظوظ النيوفاشية كبيرة، لكن بعد الحرب قد أصبحت الشعوب الأوروبية تراهن عليها كخيار سياسي بديل للخيار السياسي الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية، ليس حبا في أفكاره أو آيديولوجيته، وإنما أي بديل يسقط من أوقعها في الفقر والقلق المتصاعد على أساسيات حياتها رغم أنها تدفع الضرائب، والبديل أمامها الأحزاب اليمينية المتطرفة الأكثر تنظيما وتأهيلا للإحلال، وربما وبسهولة.
وهنا ينبغي طرح تساؤلات دقيقة لدواعي المنهجية التي نعتمدها في تحليلاتنا للكشف عن الأسباب والمسببات ونتائجها ومن ثم انعكاساتها العابرة للحدود، وذلك بهدف جعل القارئ يقف بوضوح على المدى الزمني والمكاني للانعكاسات:
- كيف وصلت الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة في عواصم أوروبية؟
- كيف أصبحت الأخرى في بقية أوروبا الآن أقرب للسلطة؟
- كيف تقف الشعوب الأوروبية مع هذه الأحزاب التي عقيدتها فاشية، لكن بنسخة معاصرة ملونة لدواعي الوصول للسلطة؟
ولو تحدثنا عن الدول الأوروبية التي تمكنت النيوفاشية من اختراق بنياتها الاجتماعية التي أوصلتها للسلطة، فسنجدها كثيرة، وتأتي على رأسها إيطاليا أحد المؤسسين للاتحاد الأوروبي، فقد فاز فيها تحالف الأحزاب اليمينية المتطرفة الثلاثة، وهي: إخوة إيطاليا، والرابطة، ويوزرا إيطاليا، وحصلت على 44 % من الانتخابات التشريعية مما يؤهلها لتشكيل حكومة.. ولو وسعنا النطاق أوروبيا، سنجد صعود هذا اليمين كذلك في المجر وبولندا والسويد وفرنسا وبلجيكا وهولندا والنمسا وألمانيا.. والقاسم المشترك في نجاحها، وجدناه فيما تنتجه سياقاتها الداخلية من تحولات جوهرية تمس أساسيات شعوبها بعد الفشل الذريع للأحزاب الحاكمة في أوروبا في تأمين أبسط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشعوب.
فكل النخب التقليدية الحاكمة في أوروبا من يمينية محافظة أو يسارية معتدلة، فشلت في إيجاد الحلول للأزمات التي تعصف بأوروبا، وآخرها انهيار الأوضاع المعيشية بسبب كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، ولنا في ما تشهده فرنسا من احتجاجات شعبية، وفي تآكل القيمة الحقيقية لدخل البريطانيين نتيجة ارتفاع الأسعار نموذجان ندلل بهما على حالة عجز الأحزاب التقليدية في أوروبا على حل مشاكل مجتمعاتها، وقبلها كانت تعاني المجتمعات الأوروبية من مجموعة سياسات مالية واقتصادية لا تخدم أهدافها الوطنية، وإنما تصب في صالح الرأسمالية والنيوليبيرالية العالمية مع تفاقم مشكلة المهاجرين رغم موجة الضرائب التي يدفعونها.
ومن رحم تلكم المآلات، تعيد الفاشية ولادة ذاتها من جديد بخطابات سياسية وإعلامية ذكية -وفق مصادر- ومنها - أي تلكم الأوضاع - تكسب النيوفاشية شرعيتها السياسية والاجتماعية، وبها تصل الآن إلى السلطة في أوروبا ككرة ثلج تتدحرج –وفق التعبير الشهير– إلى كل أنحاء أوروبا، وشأنها شأن الشعبوية التي تلتقي معها في الكثير من أهدافها وغاياتها، ولن نستبعد أن تلتقي النيوفاشية والشعبوية في مرحلة سياسية لاحقة وقريبة، لأن البنيات الاجتماعية في القارة العجوز مهيأة لصناعة مغامرات جديدة ومن الوزن التاريخي الثقيل، فكيف إذا ما التقت الشعبوية الأمريكية الترامبية مع اليمينية المتطرفة الأوروبية سواء عاد ترامب للحكم مجددا أو ظل خارجه، فهنا مرحلة تؤسس منذ عام 2017 بخطة ممنهجة لمستشار ترامب السابق ستيف بانون الذي استقال من منصبه في ذلك العام، وانتقل إلى بروكسل، وقام بإنشاء حركة يمينية شعبوية في أوروبا لكي تمثل ثقلا في مواجهة المستثمر جورج سوروس الذي يدعم مجموعات ليبرالية. هدف بانون من إنشاء هذه المؤسسة إلى إطلاق ثورة شعبوية يمينية في القارة الأوروبية، وفق وصف المصادر التي تطلق عليه برائد اليمين الشعبوي، وقد اعتبر الانتخابات الأوروبية في 2019 أول استحقاقات مؤسسته، والقول هنا للمصادر من بينها موقع «ديلي بيست الأمريكي» وقد تناولناه في مقال سابق.
هل وراء بانون ترامب على اعتبار أنه كان مستشاره، وعلى اعتبار دور ترامب في إحياء الشعبوية اليمينية في أمريكا؟ النتائج على الواقع الأمريكي خاصة، والأوروبي عامة، لا تقبل تمرير نشوب الخلاف بين ترامب ومستشاره بانون والذي كان سببا في تركه منصبه، والانتقال إلى بروكسل لضمان وصول الأحزاب اليمينية والشعوبية للسلطة في البرلمان الأوروبي، وكذلك السلطة الداخلية في كل دولة أوروبية، فقد يكون ذلك تكتيكا لصناعة مرحلة مستقبلية يكون فيها ترامب – لو فاز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة – زعيما غربيا لليمين المتطرف وللجماعات الشعوبية، وطموح ترامب لا يزال قائما حتى بعد فشله في الانتخابات، إذ يجهز نفسه للانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.
الأهم هنا، معرفة الخليج العربي ما يجري من تحولات راديكالية ناعمة وعميقة في أوروبا تستغل السيكولوجيات الاجتماعية الغاضبة من أوضاعها المعيشية، وعجز حكوماتها ضمانة أساسياتها، وتتقاطع مع متغيرات عالمية غير مسبوقة، وهنا أهم الدروس للدول الخليجية التي تسير حكوماتها في نهج الغرب بتبنيها سياسات مالية واقتصادية مؤلمة اجتماعيا، وتحولاتها نحو النيوليبيرالية التي هي الوجه القبيح لليبيرالية - وفق الوصف المتداول - وتجعل من استدامة موازناتها المالية معيارا لنجاح حكوماتها في الوقت الذي لا تقدم فيه الحكومات رؤية شاملة وبنيوية لحل يساعد مجتمعاتها على تحمل تكاليف المعيشة، بل العكس تثقله بأعباء مالية لا نهاية لها، وتقلقه بمزيد من الأخبار المتشائمة، وبسلسلة تعقيدات محبطة لحقوق مكتسبة.
فهل تساءلنا عن انعكاساتها السياسية على مجتمعاتها أسوة بتجربة صعود اليمين المتطرف في أوروبا ؟ وهذه الفقرة توضح بجلاء ماهية السيناريوهات المحتملة في الخليج، ولن نستبعد أن تكون هذه السياسات قد انتجت أفعالا في طور تشكيل ألوان سياسية جديدة، أو أنها تظهر مجددا الألوان السياسية القديمة التي تصطبغ بألوان فكرية وأيديولوجية والتي اختفت من فوق السطح، وقد تظهر قياسا بتجربة صعود اليمين المتطرف في أوروبا الذي برز من حالة التهميش المطلق إلى البروز المطلق، كما سنوضح ذلك لاحقًا.
كما أن التطرف ومؤسساته أو أدواته منتشرة في بعض الدول الخليجية، والأخرى بين إما أنها نائمة أو خالية، وحتى هذه الأخيرة لا تتوفر فيها ضمانات الديمومة بسبب السياسات المالية الجديدة التي تنتج سيكولوجيات محتقنة تكون قابلة للجذب الممنهج للتطرف أو للعنف الذي قد ينفجر بعدة عوامل من بينها جيوسياسية، وسياسية خالصة، والإشكالية الكبرى في الخليج أن هذا التأثير يمس الجيلين «القديم والجديد» والأخطر فيه تزامنه مع انفتاح الدول الخليجية على ديموغرافيات أجنبية ذات أجندات فكرية وأيديولوجية تهدف إلى الاستيطان في الخليج والانتشار فيه، لدواعٍ سياسية، وتملك قوة المال وقوة الاقتصاد وقوة النفوذ ما يجعلها يقينا تنجح في تحقيق أهدافها.
وقلقنا هنا يكمن حول عدم الاهتمام السياسي الخليجي بهذه الملفات بسبب انشغال الحكومات بالتحولات المالية والاقتصادية، والإغراق في هواجسها القديمة / الجديدة من المتغيرات السياسية الدولية التي قد تغير موازين القوى العالمية، من هنا تأتي أهمية فتح هذا الملف للفت انتباه الفكر السياسي الخليجي بطبيعة التحولات الهادئة والعميقة في البنيتين السياسية والاجتماعية الأوروبية، خاصة الدول التي لها علاقة تاريخية مستدامة معها، فمستقبل هذه العلاقة إذا ما استلم الفاشيون الجدد السلطة فيها؟.
وينبغي ترجيح الاحتمال الأخير، والأخذ به ضمن الحسابات الاستراتيجية الخليجية، فالاحتمالات كلها واردة قياسا بتجارب تاريخية، وآخرها التجربة التي نفتحها في هذا المقال، فمن خلال عملية بحث عن واقع اليمين المتطرف في بعض الدول الأوروبية الأساسية، وجدناه واقعا يدق ناقوس الخطر، فهذه صحيفة التايمز التي وصفت اليمين المتطرف الجديد في بريطانيا «بأجندة الكراهية» وقالت إنه أخطر على المجتمع بالرغم من دهائه الإعلامي، وأوضحت كذلك - وهنا الأهم - أن اليمين المتطرف في السياسة البريطانية كان لسنوات عديدة مجموعة هامشية من غير الأسوياء اجتماعيا والمخدوعين - على حد وصفها - الذين أعجبوا بهتلر، لكن الأمور تبدو مختلفة اليوم، والقول للصحيفة – التي ترى أنه – أي اليمين – قد عاد منظما من خريجي الجامعات وذوي الدهاء الإعلامي والذكاء في البقاء داخل إطار القانون، وتوسيع جاذبيته بمكر. ومن جانبها تقول صحيفة لوفيجارو الفرنسية إن باريس تشهد تحولا سياسيا واجتماعيا، حيث تتجه أكثر فأكثر نحو اليمين المتطرف على صعيدي السلطة والشعب، فهذا الأخير أصبح يتبنى الأفكار والقيم اليمينية، فيما تظهر استطلاعات أوروبية التصاعد في الراديكالية في الغضب وفي عدد الناس الذين يريدون التغيير لعدم ثقتهم في الأحزاب التقليدية، ومن الطبيعي أن لا تسلم ألمانيا من هذه الظاهرة، وقد دعا وزير خارجيتها لتكثيف التعاون الدولي بين المؤسسات الأمنية في مكافحة التطرف اليميني، بالتزامن مع صدور دراسة تؤكد ظهور تيار يميني متطرف ينحو للعنف وينذر بخطر عالمي.
والقضية هنا لم تعد بظاهرة التطرف اليميني المنفلت، وإنما القضية هنا نجاح اليمين المتطرف في اللعبة السياسية الدستورية، واستلامه السلطة، وسيمارس تحقيق أجندته عن طريق التشريعات والقوانين، وهذه ستكون نقلة تاريخية لها تأثيراتها العالمية والإقليمية، مما قد تدفع بعودة أو بروز التطرف الإقليمي مجددا، لأن اليمين المتطرف في أوروبا سيشكل زخما للمنظمات المتطرفة في المنطقة، وتشجيعا لتأسيس أخرى، إما بسبب تداعيات السياسة المالية الخليجية، أو بعامل تمكين الأفكار والأيديولوجيات الأجنبية في الخليج، أو بسبب معاداة اليمين المتطرف في أوروبا للمهاجرين والمسلمين.. الخ.
ولن نستبعد في حالة وصوله للسلطة في أوروبا من تبني سياسة تأميم المصالح الاقتصادية؛ لأنه ضد العولمة والليبيرالية ومع المفهوم الوطني في تغليب عنصريته الإقصائية، فما مستقبل الأموال والاستثمارات الخليجية مثلا في عهد الفاشية الجديدة في أوروبا؟ تساؤل تطرحه السياقات التحليلية التلقائية، وهنا مقترحان: الأول، أن تقوم كل دولة خليجية بفتح هذا الملف ومتابعة تطوراته أولا بأول، ودراسة أسباب وعوامل ظاهرة النيوفاشية الأوروبية بغية العمل على تجنبها خليجيا، الثاني، إنشاء لجنة دائمة في الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي متخصصة بملف النيوفاشية والشعبوية اليمينية في أوروبا لرصدها وتقديم التقارير والحلول لصنّاع القرار الخليجي.
وتتجلى هذه التحولات المقلقة في أوروبا في وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة «النيوفاشية الجديدة» إلى السلطة في عدد متصاعد من العواصم الأوروبية، وحتى قبل الحرب على أوكرانيا كانت حظوظ النيوفاشية كبيرة، لكن بعد الحرب قد أصبحت الشعوب الأوروبية تراهن عليها كخيار سياسي بديل للخيار السياسي الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية، ليس حبا في أفكاره أو آيديولوجيته، وإنما أي بديل يسقط من أوقعها في الفقر والقلق المتصاعد على أساسيات حياتها رغم أنها تدفع الضرائب، والبديل أمامها الأحزاب اليمينية المتطرفة الأكثر تنظيما وتأهيلا للإحلال، وربما وبسهولة.
وهنا ينبغي طرح تساؤلات دقيقة لدواعي المنهجية التي نعتمدها في تحليلاتنا للكشف عن الأسباب والمسببات ونتائجها ومن ثم انعكاساتها العابرة للحدود، وذلك بهدف جعل القارئ يقف بوضوح على المدى الزمني والمكاني للانعكاسات:
- كيف وصلت الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة في عواصم أوروبية؟
- كيف أصبحت الأخرى في بقية أوروبا الآن أقرب للسلطة؟
- كيف تقف الشعوب الأوروبية مع هذه الأحزاب التي عقيدتها فاشية، لكن بنسخة معاصرة ملونة لدواعي الوصول للسلطة؟
ولو تحدثنا عن الدول الأوروبية التي تمكنت النيوفاشية من اختراق بنياتها الاجتماعية التي أوصلتها للسلطة، فسنجدها كثيرة، وتأتي على رأسها إيطاليا أحد المؤسسين للاتحاد الأوروبي، فقد فاز فيها تحالف الأحزاب اليمينية المتطرفة الثلاثة، وهي: إخوة إيطاليا، والرابطة، ويوزرا إيطاليا، وحصلت على 44 % من الانتخابات التشريعية مما يؤهلها لتشكيل حكومة.. ولو وسعنا النطاق أوروبيا، سنجد صعود هذا اليمين كذلك في المجر وبولندا والسويد وفرنسا وبلجيكا وهولندا والنمسا وألمانيا.. والقاسم المشترك في نجاحها، وجدناه فيما تنتجه سياقاتها الداخلية من تحولات جوهرية تمس أساسيات شعوبها بعد الفشل الذريع للأحزاب الحاكمة في أوروبا في تأمين أبسط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشعوب.
فكل النخب التقليدية الحاكمة في أوروبا من يمينية محافظة أو يسارية معتدلة، فشلت في إيجاد الحلول للأزمات التي تعصف بأوروبا، وآخرها انهيار الأوضاع المعيشية بسبب كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، ولنا في ما تشهده فرنسا من احتجاجات شعبية، وفي تآكل القيمة الحقيقية لدخل البريطانيين نتيجة ارتفاع الأسعار نموذجان ندلل بهما على حالة عجز الأحزاب التقليدية في أوروبا على حل مشاكل مجتمعاتها، وقبلها كانت تعاني المجتمعات الأوروبية من مجموعة سياسات مالية واقتصادية لا تخدم أهدافها الوطنية، وإنما تصب في صالح الرأسمالية والنيوليبيرالية العالمية مع تفاقم مشكلة المهاجرين رغم موجة الضرائب التي يدفعونها.
ومن رحم تلكم المآلات، تعيد الفاشية ولادة ذاتها من جديد بخطابات سياسية وإعلامية ذكية -وفق مصادر- ومنها - أي تلكم الأوضاع - تكسب النيوفاشية شرعيتها السياسية والاجتماعية، وبها تصل الآن إلى السلطة في أوروبا ككرة ثلج تتدحرج –وفق التعبير الشهير– إلى كل أنحاء أوروبا، وشأنها شأن الشعبوية التي تلتقي معها في الكثير من أهدافها وغاياتها، ولن نستبعد أن تلتقي النيوفاشية والشعبوية في مرحلة سياسية لاحقة وقريبة، لأن البنيات الاجتماعية في القارة العجوز مهيأة لصناعة مغامرات جديدة ومن الوزن التاريخي الثقيل، فكيف إذا ما التقت الشعبوية الأمريكية الترامبية مع اليمينية المتطرفة الأوروبية سواء عاد ترامب للحكم مجددا أو ظل خارجه، فهنا مرحلة تؤسس منذ عام 2017 بخطة ممنهجة لمستشار ترامب السابق ستيف بانون الذي استقال من منصبه في ذلك العام، وانتقل إلى بروكسل، وقام بإنشاء حركة يمينية شعبوية في أوروبا لكي تمثل ثقلا في مواجهة المستثمر جورج سوروس الذي يدعم مجموعات ليبرالية. هدف بانون من إنشاء هذه المؤسسة إلى إطلاق ثورة شعبوية يمينية في القارة الأوروبية، وفق وصف المصادر التي تطلق عليه برائد اليمين الشعبوي، وقد اعتبر الانتخابات الأوروبية في 2019 أول استحقاقات مؤسسته، والقول هنا للمصادر من بينها موقع «ديلي بيست الأمريكي» وقد تناولناه في مقال سابق.
هل وراء بانون ترامب على اعتبار أنه كان مستشاره، وعلى اعتبار دور ترامب في إحياء الشعبوية اليمينية في أمريكا؟ النتائج على الواقع الأمريكي خاصة، والأوروبي عامة، لا تقبل تمرير نشوب الخلاف بين ترامب ومستشاره بانون والذي كان سببا في تركه منصبه، والانتقال إلى بروكسل لضمان وصول الأحزاب اليمينية والشعوبية للسلطة في البرلمان الأوروبي، وكذلك السلطة الداخلية في كل دولة أوروبية، فقد يكون ذلك تكتيكا لصناعة مرحلة مستقبلية يكون فيها ترامب – لو فاز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة – زعيما غربيا لليمين المتطرف وللجماعات الشعوبية، وطموح ترامب لا يزال قائما حتى بعد فشله في الانتخابات، إذ يجهز نفسه للانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.
الأهم هنا، معرفة الخليج العربي ما يجري من تحولات راديكالية ناعمة وعميقة في أوروبا تستغل السيكولوجيات الاجتماعية الغاضبة من أوضاعها المعيشية، وعجز حكوماتها ضمانة أساسياتها، وتتقاطع مع متغيرات عالمية غير مسبوقة، وهنا أهم الدروس للدول الخليجية التي تسير حكوماتها في نهج الغرب بتبنيها سياسات مالية واقتصادية مؤلمة اجتماعيا، وتحولاتها نحو النيوليبيرالية التي هي الوجه القبيح لليبيرالية - وفق الوصف المتداول - وتجعل من استدامة موازناتها المالية معيارا لنجاح حكوماتها في الوقت الذي لا تقدم فيه الحكومات رؤية شاملة وبنيوية لحل يساعد مجتمعاتها على تحمل تكاليف المعيشة، بل العكس تثقله بأعباء مالية لا نهاية لها، وتقلقه بمزيد من الأخبار المتشائمة، وبسلسلة تعقيدات محبطة لحقوق مكتسبة.
فهل تساءلنا عن انعكاساتها السياسية على مجتمعاتها أسوة بتجربة صعود اليمين المتطرف في أوروبا ؟ وهذه الفقرة توضح بجلاء ماهية السيناريوهات المحتملة في الخليج، ولن نستبعد أن تكون هذه السياسات قد انتجت أفعالا في طور تشكيل ألوان سياسية جديدة، أو أنها تظهر مجددا الألوان السياسية القديمة التي تصطبغ بألوان فكرية وأيديولوجية والتي اختفت من فوق السطح، وقد تظهر قياسا بتجربة صعود اليمين المتطرف في أوروبا الذي برز من حالة التهميش المطلق إلى البروز المطلق، كما سنوضح ذلك لاحقًا.
كما أن التطرف ومؤسساته أو أدواته منتشرة في بعض الدول الخليجية، والأخرى بين إما أنها نائمة أو خالية، وحتى هذه الأخيرة لا تتوفر فيها ضمانات الديمومة بسبب السياسات المالية الجديدة التي تنتج سيكولوجيات محتقنة تكون قابلة للجذب الممنهج للتطرف أو للعنف الذي قد ينفجر بعدة عوامل من بينها جيوسياسية، وسياسية خالصة، والإشكالية الكبرى في الخليج أن هذا التأثير يمس الجيلين «القديم والجديد» والأخطر فيه تزامنه مع انفتاح الدول الخليجية على ديموغرافيات أجنبية ذات أجندات فكرية وأيديولوجية تهدف إلى الاستيطان في الخليج والانتشار فيه، لدواعٍ سياسية، وتملك قوة المال وقوة الاقتصاد وقوة النفوذ ما يجعلها يقينا تنجح في تحقيق أهدافها.
وقلقنا هنا يكمن حول عدم الاهتمام السياسي الخليجي بهذه الملفات بسبب انشغال الحكومات بالتحولات المالية والاقتصادية، والإغراق في هواجسها القديمة / الجديدة من المتغيرات السياسية الدولية التي قد تغير موازين القوى العالمية، من هنا تأتي أهمية فتح هذا الملف للفت انتباه الفكر السياسي الخليجي بطبيعة التحولات الهادئة والعميقة في البنيتين السياسية والاجتماعية الأوروبية، خاصة الدول التي لها علاقة تاريخية مستدامة معها، فمستقبل هذه العلاقة إذا ما استلم الفاشيون الجدد السلطة فيها؟.
وينبغي ترجيح الاحتمال الأخير، والأخذ به ضمن الحسابات الاستراتيجية الخليجية، فالاحتمالات كلها واردة قياسا بتجارب تاريخية، وآخرها التجربة التي نفتحها في هذا المقال، فمن خلال عملية بحث عن واقع اليمين المتطرف في بعض الدول الأوروبية الأساسية، وجدناه واقعا يدق ناقوس الخطر، فهذه صحيفة التايمز التي وصفت اليمين المتطرف الجديد في بريطانيا «بأجندة الكراهية» وقالت إنه أخطر على المجتمع بالرغم من دهائه الإعلامي، وأوضحت كذلك - وهنا الأهم - أن اليمين المتطرف في السياسة البريطانية كان لسنوات عديدة مجموعة هامشية من غير الأسوياء اجتماعيا والمخدوعين - على حد وصفها - الذين أعجبوا بهتلر، لكن الأمور تبدو مختلفة اليوم، والقول للصحيفة – التي ترى أنه – أي اليمين – قد عاد منظما من خريجي الجامعات وذوي الدهاء الإعلامي والذكاء في البقاء داخل إطار القانون، وتوسيع جاذبيته بمكر. ومن جانبها تقول صحيفة لوفيجارو الفرنسية إن باريس تشهد تحولا سياسيا واجتماعيا، حيث تتجه أكثر فأكثر نحو اليمين المتطرف على صعيدي السلطة والشعب، فهذا الأخير أصبح يتبنى الأفكار والقيم اليمينية، فيما تظهر استطلاعات أوروبية التصاعد في الراديكالية في الغضب وفي عدد الناس الذين يريدون التغيير لعدم ثقتهم في الأحزاب التقليدية، ومن الطبيعي أن لا تسلم ألمانيا من هذه الظاهرة، وقد دعا وزير خارجيتها لتكثيف التعاون الدولي بين المؤسسات الأمنية في مكافحة التطرف اليميني، بالتزامن مع صدور دراسة تؤكد ظهور تيار يميني متطرف ينحو للعنف وينذر بخطر عالمي.
والقضية هنا لم تعد بظاهرة التطرف اليميني المنفلت، وإنما القضية هنا نجاح اليمين المتطرف في اللعبة السياسية الدستورية، واستلامه السلطة، وسيمارس تحقيق أجندته عن طريق التشريعات والقوانين، وهذه ستكون نقلة تاريخية لها تأثيراتها العالمية والإقليمية، مما قد تدفع بعودة أو بروز التطرف الإقليمي مجددا، لأن اليمين المتطرف في أوروبا سيشكل زخما للمنظمات المتطرفة في المنطقة، وتشجيعا لتأسيس أخرى، إما بسبب تداعيات السياسة المالية الخليجية، أو بعامل تمكين الأفكار والأيديولوجيات الأجنبية في الخليج، أو بسبب معاداة اليمين المتطرف في أوروبا للمهاجرين والمسلمين.. الخ.
ولن نستبعد في حالة وصوله للسلطة في أوروبا من تبني سياسة تأميم المصالح الاقتصادية؛ لأنه ضد العولمة والليبيرالية ومع المفهوم الوطني في تغليب عنصريته الإقصائية، فما مستقبل الأموال والاستثمارات الخليجية مثلا في عهد الفاشية الجديدة في أوروبا؟ تساؤل تطرحه السياقات التحليلية التلقائية، وهنا مقترحان: الأول، أن تقوم كل دولة خليجية بفتح هذا الملف ومتابعة تطوراته أولا بأول، ودراسة أسباب وعوامل ظاهرة النيوفاشية الأوروبية بغية العمل على تجنبها خليجيا، الثاني، إنشاء لجنة دائمة في الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي متخصصة بملف النيوفاشية والشعبوية اليمينية في أوروبا لرصدها وتقديم التقارير والحلول لصنّاع القرار الخليجي.