من الصعب تحديد تعريف دقيق لمفهوم الثقافة ومعناها، فقد وضعت تعريفات مختلفة منذ نهايات القرن التاسع عشر، حينما عرفها البعض بأنها تعني استيعاب كل منجزات العصر، والبعض الآخر حصرها في الفنون والآداب، ولعل أدق تعريف لهذا المصطلح: أن الثقافة هي نمط حياة، بل هي الحياة كلها، فلا يمكن أن تنهض أمة من الأمم إلا إذا كانت الثقافة بهذا المعنى الشامل في مقدمة برامجها وسياساتها التنموية، وخصوصًا العلاقة الوثيقة بين التعليم والثقافة.
فإذا كان الهدف من التعليم هو تنمية القدرات الإبداعية عند الشباب، فإن من الصعب تحقيق أية نجاحات في غيبة الثقافة بهذا المعنى الشامل في كل مجالات الفنون والآداب، ولعل ما يحدث في عالمنا العربي من سياسات تعليمية أصبح عنوانها الأهم في السنوات الأخيرة سواء في التعليم الجامعي أو ما قبل الجامعي هو التكنولوجيا بكل مجالاتها الرياضية والفنية وكافة العلوم التطبيقية، ولم يلتفت القائمون على السياسات التعليمية إلى جعل الثقافة بكل مفرداتها الفلسفية والاجتماعية والفنية على قدم وساق مع العلوم التطبيقية والتجريبية.
في غيبة الثقافة بمعناها الشامل نكون قد ذهبنا إلى بناء عقول من الجائز أن تحقق نجاحات في المجال الاقتصادي والعلمي، لكنها تبقى منقطعة الصلة مع الفكر والفلسفة والتاريخ الفن، وهي المقومات الأساسية التي تؤسس لثقافة الوجدان "الضمير والأخلاق والقيم"، وفي غيبة هذه المعاني نكون قد ذهبنا إلى بناء عقول لم تمسها ثقافة الاختلاف والوعي والتذوق الفني والموسيقى والأدبي، وهي معارف تستهدف القلوب قبل العقول.
كل النهضات الكبرى في العالم تأسست على قيم فلسفية واجتماعية وفنية، حدث ذلك في أوروبا منذ فجر التاريخ الحديث مع بداية القرن السادس عشر، فقد سبقت المعارف الإنسانية المعارف التجريبية، وكانت الأعمال الأدبية والفنية والفلسفية هي الملهمة لكل نهضات أوروبا، إلا أن ما نلاحظه في مدارسنا وجامعاتنا هو تراجع العناية بهذه المجالات، وخصوصًا في جامعاتنا العربية، التي كادت أن تنقطع صلتها بهذه المعارف.
لم يلتفت القائمون على شؤون جامعاتنا إلى هذه المعارف التي اعتقد أنها كانت في مقدمة أسباب تخلفنا عن ركب الحضارة المعاصرة، ولا أريد الذهاب إلى نظرية المؤامرة التي قال بها البعض بحكم أن المعارف الفلسفية والفنية والتاريخية والاجتماعية هي المقوم الأهم لبناء مواطن قادر على الحوار والمشاركة والتحلق في عوالم ملهمة للفكر، إلا أنني أعتقد أن معظم القائمين على سياساتنا التعليمية لا يمكن أن يذهب ذكاؤهم إلى هذه المعاني بحكم أن معظمهم يفتقدون إلى الثقافة بمعناها الشامل.
لا أكون مبالغا إذا قلت إن الكثيرين منهم لم يقرأوا شيئا لدانتي أو جان جاك روسو أو فيكور هيجو أو مؤلفات تولستوي وبوشكين وتشيكوف، ولم يتذوقوا موسيقى بيتهوڤن ولا أدب شكسبير، ولم يلتفت أحد إلى أهمية العلوم الإنسانية في التاريخ والفلسفة والفن، وخصوصًا فيمن يتولون مسؤولية التعليم، سواء التعليم الجامعي أو ما قبل الجامعي. حتى في مجال تراثنا الحضاري، لم يدرس طلابنا منجزات ابن خلدون وابن عربي والفارابي وابن رشد، ولعلهم لم يسمعوا عن أرسطو وبيكاسو وفرويد ودارون.
لقد نظرنا إلى المعارف الاجتماعية والإنسانية والفنية بمختلف صنوفها على أنها مجرد حكايات العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف لمن لا يعرف هذه المعارف أن يكون إنسانًا متسامحا متفاعلا مع الحياة منخرطا في مجتمعه؟ كيف يمكن تكوين شاب علميًا في غياب ثقافة الوجدان؟ وهي الثقافة التي تؤهله لكي يكون ناجحًا في الإدارة والقيادة، وكافة شؤون الحياة.
في غيبة هذه الخبرات الإنسانية الملهمة هل بإمكاننا مجاراة ثقافة العصر؟
هل يمكن بناء حضارة حديثة اعتمادًا على المعارف الفزيائية والرياضية والهندسية فقط، في غيبة الفلسفة والمعارف الاجتماعية والفنية؟ فضلا عن المعارف الدينية، التي هي أحوج ما تكون إلى تحقيق مصادرها ومعرفة سياقاتها وتنقيتها مما لحق بها من تراث عبء، حال دون إعمال عقولنا، لدرجة أننا أصبحنا مثار تندر من معظم شعوب العالم! رغم أن كثيرًا من شبابنا قد أجادوا علوم الحاسوب واللغات الأجنبية، لكن هل استفدنا من تراث غيرنا لكي نبني عليه ونطور حضارتنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا؟
لقد راح الكثير من أبنائنا يتباهون بمعرفتهم باللغات الأجنبية، لكننا لم نتخذها وسيلة للمعرفة، حتى لمن درسوا في الجامعات الأجنبية، فقد استنسخ بعضهم دراسات لم يبدعوها، وحصلوا على شهادات، لكن تأثيرهم في حياة مجتمعاتهم كان محدودا. ما هي رؤيتهم للحياة والفكر والفن وكافة المعارف الملهمة للروح والقلب؟
لقد اكتفى الكثيرون على مجرد النقل والاستنساخ من تجارب الآخرين، ولم يدركوا أن مجتمعاتنا في حاجة إلى بناء العقول قبل تشييد المعامل، وبناء الوجدان قبل تعلم اللغات الأجنبية. من حق أبنائنا علينا أن نفتح أمامهم العوالم الفسيحة التي تزيل ما استقر في عقولهم من أوهام وخرافات، وأن نؤسس لبرامج ومناهج جديدة، قوامها العقل والحوار والوجدان، وهي أمور لا يمكن أن تتحقق في غيبة المعارف الإنسانية والفنية.
* د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
فإذا كان الهدف من التعليم هو تنمية القدرات الإبداعية عند الشباب، فإن من الصعب تحقيق أية نجاحات في غيبة الثقافة بهذا المعنى الشامل في كل مجالات الفنون والآداب، ولعل ما يحدث في عالمنا العربي من سياسات تعليمية أصبح عنوانها الأهم في السنوات الأخيرة سواء في التعليم الجامعي أو ما قبل الجامعي هو التكنولوجيا بكل مجالاتها الرياضية والفنية وكافة العلوم التطبيقية، ولم يلتفت القائمون على السياسات التعليمية إلى جعل الثقافة بكل مفرداتها الفلسفية والاجتماعية والفنية على قدم وساق مع العلوم التطبيقية والتجريبية.
في غيبة الثقافة بمعناها الشامل نكون قد ذهبنا إلى بناء عقول من الجائز أن تحقق نجاحات في المجال الاقتصادي والعلمي، لكنها تبقى منقطعة الصلة مع الفكر والفلسفة والتاريخ الفن، وهي المقومات الأساسية التي تؤسس لثقافة الوجدان "الضمير والأخلاق والقيم"، وفي غيبة هذه المعاني نكون قد ذهبنا إلى بناء عقول لم تمسها ثقافة الاختلاف والوعي والتذوق الفني والموسيقى والأدبي، وهي معارف تستهدف القلوب قبل العقول.
كل النهضات الكبرى في العالم تأسست على قيم فلسفية واجتماعية وفنية، حدث ذلك في أوروبا منذ فجر التاريخ الحديث مع بداية القرن السادس عشر، فقد سبقت المعارف الإنسانية المعارف التجريبية، وكانت الأعمال الأدبية والفنية والفلسفية هي الملهمة لكل نهضات أوروبا، إلا أن ما نلاحظه في مدارسنا وجامعاتنا هو تراجع العناية بهذه المجالات، وخصوصًا في جامعاتنا العربية، التي كادت أن تنقطع صلتها بهذه المعارف.
لم يلتفت القائمون على شؤون جامعاتنا إلى هذه المعارف التي اعتقد أنها كانت في مقدمة أسباب تخلفنا عن ركب الحضارة المعاصرة، ولا أريد الذهاب إلى نظرية المؤامرة التي قال بها البعض بحكم أن المعارف الفلسفية والفنية والتاريخية والاجتماعية هي المقوم الأهم لبناء مواطن قادر على الحوار والمشاركة والتحلق في عوالم ملهمة للفكر، إلا أنني أعتقد أن معظم القائمين على سياساتنا التعليمية لا يمكن أن يذهب ذكاؤهم إلى هذه المعاني بحكم أن معظمهم يفتقدون إلى الثقافة بمعناها الشامل.
لا أكون مبالغا إذا قلت إن الكثيرين منهم لم يقرأوا شيئا لدانتي أو جان جاك روسو أو فيكور هيجو أو مؤلفات تولستوي وبوشكين وتشيكوف، ولم يتذوقوا موسيقى بيتهوڤن ولا أدب شكسبير، ولم يلتفت أحد إلى أهمية العلوم الإنسانية في التاريخ والفلسفة والفن، وخصوصًا فيمن يتولون مسؤولية التعليم، سواء التعليم الجامعي أو ما قبل الجامعي. حتى في مجال تراثنا الحضاري، لم يدرس طلابنا منجزات ابن خلدون وابن عربي والفارابي وابن رشد، ولعلهم لم يسمعوا عن أرسطو وبيكاسو وفرويد ودارون.
لقد نظرنا إلى المعارف الاجتماعية والإنسانية والفنية بمختلف صنوفها على أنها مجرد حكايات العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف لمن لا يعرف هذه المعارف أن يكون إنسانًا متسامحا متفاعلا مع الحياة منخرطا في مجتمعه؟ كيف يمكن تكوين شاب علميًا في غياب ثقافة الوجدان؟ وهي الثقافة التي تؤهله لكي يكون ناجحًا في الإدارة والقيادة، وكافة شؤون الحياة.
في غيبة هذه الخبرات الإنسانية الملهمة هل بإمكاننا مجاراة ثقافة العصر؟
هل يمكن بناء حضارة حديثة اعتمادًا على المعارف الفزيائية والرياضية والهندسية فقط، في غيبة الفلسفة والمعارف الاجتماعية والفنية؟ فضلا عن المعارف الدينية، التي هي أحوج ما تكون إلى تحقيق مصادرها ومعرفة سياقاتها وتنقيتها مما لحق بها من تراث عبء، حال دون إعمال عقولنا، لدرجة أننا أصبحنا مثار تندر من معظم شعوب العالم! رغم أن كثيرًا من شبابنا قد أجادوا علوم الحاسوب واللغات الأجنبية، لكن هل استفدنا من تراث غيرنا لكي نبني عليه ونطور حضارتنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا؟
لقد راح الكثير من أبنائنا يتباهون بمعرفتهم باللغات الأجنبية، لكننا لم نتخذها وسيلة للمعرفة، حتى لمن درسوا في الجامعات الأجنبية، فقد استنسخ بعضهم دراسات لم يبدعوها، وحصلوا على شهادات، لكن تأثيرهم في حياة مجتمعاتهم كان محدودا. ما هي رؤيتهم للحياة والفكر والفن وكافة المعارف الملهمة للروح والقلب؟
لقد اكتفى الكثيرون على مجرد النقل والاستنساخ من تجارب الآخرين، ولم يدركوا أن مجتمعاتنا في حاجة إلى بناء العقول قبل تشييد المعامل، وبناء الوجدان قبل تعلم اللغات الأجنبية. من حق أبنائنا علينا أن نفتح أمامهم العوالم الفسيحة التي تزيل ما استقر في عقولهم من أوهام وخرافات، وأن نؤسس لبرامج ومناهج جديدة، قوامها العقل والحوار والوجدان، وهي أمور لا يمكن أن تتحقق في غيبة المعارف الإنسانية والفنية.
* د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.