يمثل عدم استجابة الرياض للضغوطات الأمريكية بعدم خفض إنتاج منظمة أوبك قمة البرغماتية التي تنتصر لمصالحها الوطنية الخالصة، وقراءة محسوبة لمستقبل المتغيرات الدولية وتأثيراتها الإقليمية، ويشكل أفضل نموذج للممارسة السيادية المعاصرة.. نستلهم هذه الأحكام من تصريحات كبار المسؤولين السعوديين من بينهم وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان آل سعود، وذلك عندما أصروا على أن الرياض يجب أن تضع مصالحها الاقتصادية قبل الاعتبارات السياسية المتعلقة بالسياسة الداخلية الأمريكية، وهذه رسالة يبدو أنها لم تصل كما يجب لواشنطن، حيث لا يزال المشرعون في كلا المجلسين «الشيوخ والنواب» لم يستوعبوا التطورات التي تحدث في الرياض.
ويعملون الآن بتوافق بين المجلسين على استصدار تشريع لوقف تصدير الأسلحة للرياض ومراجعة العلاقات الأمريكية معها، وقبلها لوّح البعض بسحب الجيش الأمريكي.. ومع الأسف لم يتعبوا فكرهم في قراءة الخيارات الكثيرة المتاحة الآن للرياض خاصة والخليج عامة، ومن ثم معرفة حجم الضرر الجديد الذي سيصيب المكانة الجيوسياسية ومصالح واشنطن في المنطقة، فموسكو وبكين جاهزتان لشغل الفراغ الأمريكي الجيوسياسي فورا، فهل تقدم لهم واشنطن مجانا؟
ولن يحدث ذلك تأثيرا آنيا على الرياض ولا على الخليج كما تروج له الاستخبارات الأمريكية، لدواعي التخويف من قضية وقف تصدير الأسلحة للرياض، فبمجرد تحويل الرياض بوصلتها نحو موسكو سيكون ذلك كفيلا بنزع فتيل الأزمات في المنطقة، أو على الأقل تهدئتها ونقل العلاقات الإقليمية إلى مستوى التعايش في ظل تجميد الخلافات، وذلك بحكم العلاقات القوية بين روسيا وبكين وإيران.
فالتلويح الأمريكي بتصعيد التوترات والأزمات الإقليمية، يدلل على استمرار حالة الغباء السياسي الأمريكي، لذلك سيفوتون على بلادهم فرصا استراتيجية أخرى، كما فوتت واشنطن الكثير منها عندما سحبت بعض جنودها ومضاداتها الدفاعية من الخليج بحجة التفرغ لمواجهة بكين في بحر الصين الجنوبي وتايوان، فالنخب البرلمانية الأمريكية تقود الآن حالة غباء جديدة، وعلينا قياس الأضرار الأمريكية الجديدة بالمقارنة بخسائرها الناجمة عن قرار نخبها السياسية والعسكرية في تقليل الوجود الأمريكي في المنطقة، ولا تزال تدفع ثمنه واشنطن، في المقابل يشكل ذلك الآن أرضية لانطلاقة قوية للعلاقات الروسية الصينية مع الدول الخليجية.
فمثلا، فتح ذلك علاقات الخليج مع موسكو وبكين، وبالذات علاقات الرياض من كل النواحي بما فيها العسكرية والاقتصادية، وبين الرياض وموسكو منذ عام 2011 اتفاقيات عسكرية طموحة جدا، إضافة إلى اتفاقيات تعاون مشتركة حساسة في التكنولوجيات والذكاء الاصطناعي والفضاء.. وهذا كان من نتائج غباء القادة السياسيين والعسكريين، من هنا علينا التساؤل عن نتائج غباء فكر مشرعيها حتى لو كانت تصريحاتهم مجرد ضغوطات.
فهذا التلويح يعزز قناعة خليجية حديثة، وهي عدم الثقة في الأمريكان والغرب عامة، لأنهم لا يرغبون في تطوير علاقاتهم مع حلفائهم التاريخيين، يريدون العلاقة نفسها التي تأسست منذ عدة عقود، وربما على الأمريكان الاتعاظ بفرنسا التي خسرت حلفاءها التاريخيين في أفريقيا، وفقدت مصالح استراتيجية لصالح موسكو وبكين اللتين تعززان وجودهما فيها بصورة مثالية وبالذات بكين التي تظهر وكأنها تستهدف الإحلال مكان باريس في أفريقيا، لكن بلعبتها التنموية الذكية التي تجذب الأنظمة والشعوب الأفريقية. ولو استخدمنا التحليل المقارن، فسنجد أن واشنطن لم تستفد من التجربة الفرنسية في أفريقيا، وتظهر أنها تنسخها في الخليج، ولو عملت فكرها السياسي، سترى أن وقف الأسلحة وسحب جيشها من الخليج لن يخدم مصالحها الاقتصادية وخريطة جيوستراتيجيتها العالمية، فمنطقة الخليج ليست نفطا وغازا فقط، وإنما كذلك منطقة جيوستراتيجية – وجيوسياسية وأيديولوجية ستؤثر في مصالح الغرب الأمريكي، سنقف هنا على استدلال واحد فقط، وكفى به، وهو أن الموقع الخليجي يشكل خلفية الوجود الأمريكي في المحيطين الهندي والهادي وحتى بحر الصين.. فلن تترك واشنطن ظهرها مكشوفا أو دون دعم لوجستي مضمون، ولن تترك الصين تتمدد جيوستراتيجيا على حسابها، فهذا يقلل من قوتها العالمية المعاصرة.
كما أن للموقف السيادي السعودي ببرغماتيته الاقتصادية رسائل أخرى مهمة لموسكو وبكين، أهمها رسالة البرغماتية وحاكميتها في العلاقات السعودية الدولية، تجاوزا لكل المفاهيم السابقة، بحيث يمكن أن تجد من خلالها الفرص المتاحة لصناعة علاقات عميقة في ضوء الاتفاقيات المتعددة التي تم توقيعها بين البلدين خلال السنوات الماضية، والتي لاقت معارضة أمريكية، فبكين وموسكو تنظران للعلاقات الخليجية الأمريكية من منظور التبعية، والآن تقدم الرياض أكبر الاستدلالات على تغليبها مبدأ البرغماتية الاقتصادية في علاقاتها الدولية.
وهذا ما تتطلع إليه بشغف موسكو وبكين، فهذه البرغماتية ستجنح بالخليج العربي نحو الشرق أكثر من الغرب، طبعا دون معاداة هذا الأخير الذي لن يقبل هذا التحول الخليجي بسهولة، ونكرر القول إنه لو احتكم الغرب عامة وواشنطن خاصة للعقل السياسي، فسترى أن ديمومة مصالحها الاستراتيجية في الخليج تتوقف الآن على التسليم بالبرغماتية الخليجية الجديدة التي تعبر عنها الرياض فعلا وقولا من خلال موقفها النفطي وكذلك حيادها في الحرب الروسية على أوكرانيا، وسيقودها كذلك لرؤية أن علاقاتها التاريخية مع الدول الخليجية تمر بتحولات كبيرة مدفوعة بوجود قادة جدد لهم طموحات وطنية بهاجس العالمية، ويفككون بوسائل ناعمة وهادئة وعميقة أسس العلاقات المختلة مع حلفاء بلدانهم التاريخيين لصالح صناعة مستقبل بلدانهم، وكل محاولة غربية لفرض استمرار العلاقة القديمة مع الخليج العربي، ستبعد الغرب كثيرا، وتقرب الشرق الروسي الصيني بقدر مسافات الابتعاد الغربي.
لذلك، فلا نتوقع أن يذهب غباء المشرعين الأمريكيين بعيدا، وكل ما يمكن أن تفعله واشنطن هو تفعيل وسائل وأدوات ضغوطاتها الابتزازية على الدول الخليجية، لأنه ليس من مصلحة صناعاتها العسكرية وقف تصدير الأسلحة للرياض، كما أن هذا سيدفع بالرياض إلى شرائه من أسواق تفتح لها أبوابها بصورة مغرية، فأمام إدارة بايدن الديمقراطية اللجوء إلى الوسائل الناعمة لنجاح ضغوطاتها في استمرارية لنهج الديمقراطيين عندما يستلمون السلطة في أمريكا، وستستغل الإدارة الأمريكية قضايا مثل حقوق الإنسان وحرياته كأداة ضغط على الأنظمة في الخليج لتحقيق مصالحها، وطبيعة مصالحها قد أصبحت متعددة ومتنوعة، أمنية واقتصادية وفكرية.. الخ.
وما إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن تخصيص برنامج المساعدات لدعم شبكات الإلحاد في المنطقة -وقد تناولناه في مقال سابق قبل أقل من شهر- سوى نموذج لما ستقدم عليه إدارة بايدن في ضغط مضاعف على الخليج، سترتفع وتيرته كلما تتطلع لتحقيق مصالح جديدة، وستخف عند تحقيقها، لكنه في حقيقة الأمر يعد ذلك من الأجندات الأمريكية الاستراتيجية التي تعتقد الإدارة الأمريكية أن طبيعة المرحلة في الخليج مواتية لتحقيقها بسبب الانفتاح والتحولات المالية والاقتصادية، التي تمس جوهر العلاقة السياسية بين المجتمعات الخليجية وأنظمتها.. وهذا سلاح ذو حدين وحادين جدا، ونتوقع أن تشهد المنطقة الخليجية موجة جديدة من شبكات المدافعين عن الأفكار الدخيلة عن المجتمعات الخليجية بحجة التسليم بالتنوع الفكري والأيديولوجي، من هنا ينبغي على الدول الخليجية أن تعمل فكرها السياسي داخل هذه المنطقة للحد من التأثير الأمريكي، وحتى تحصن مسيرتها السيادية الجديدة.
ويعملون الآن بتوافق بين المجلسين على استصدار تشريع لوقف تصدير الأسلحة للرياض ومراجعة العلاقات الأمريكية معها، وقبلها لوّح البعض بسحب الجيش الأمريكي.. ومع الأسف لم يتعبوا فكرهم في قراءة الخيارات الكثيرة المتاحة الآن للرياض خاصة والخليج عامة، ومن ثم معرفة حجم الضرر الجديد الذي سيصيب المكانة الجيوسياسية ومصالح واشنطن في المنطقة، فموسكو وبكين جاهزتان لشغل الفراغ الأمريكي الجيوسياسي فورا، فهل تقدم لهم واشنطن مجانا؟
ولن يحدث ذلك تأثيرا آنيا على الرياض ولا على الخليج كما تروج له الاستخبارات الأمريكية، لدواعي التخويف من قضية وقف تصدير الأسلحة للرياض، فبمجرد تحويل الرياض بوصلتها نحو موسكو سيكون ذلك كفيلا بنزع فتيل الأزمات في المنطقة، أو على الأقل تهدئتها ونقل العلاقات الإقليمية إلى مستوى التعايش في ظل تجميد الخلافات، وذلك بحكم العلاقات القوية بين روسيا وبكين وإيران.
فالتلويح الأمريكي بتصعيد التوترات والأزمات الإقليمية، يدلل على استمرار حالة الغباء السياسي الأمريكي، لذلك سيفوتون على بلادهم فرصا استراتيجية أخرى، كما فوتت واشنطن الكثير منها عندما سحبت بعض جنودها ومضاداتها الدفاعية من الخليج بحجة التفرغ لمواجهة بكين في بحر الصين الجنوبي وتايوان، فالنخب البرلمانية الأمريكية تقود الآن حالة غباء جديدة، وعلينا قياس الأضرار الأمريكية الجديدة بالمقارنة بخسائرها الناجمة عن قرار نخبها السياسية والعسكرية في تقليل الوجود الأمريكي في المنطقة، ولا تزال تدفع ثمنه واشنطن، في المقابل يشكل ذلك الآن أرضية لانطلاقة قوية للعلاقات الروسية الصينية مع الدول الخليجية.
فمثلا، فتح ذلك علاقات الخليج مع موسكو وبكين، وبالذات علاقات الرياض من كل النواحي بما فيها العسكرية والاقتصادية، وبين الرياض وموسكو منذ عام 2011 اتفاقيات عسكرية طموحة جدا، إضافة إلى اتفاقيات تعاون مشتركة حساسة في التكنولوجيات والذكاء الاصطناعي والفضاء.. وهذا كان من نتائج غباء القادة السياسيين والعسكريين، من هنا علينا التساؤل عن نتائج غباء فكر مشرعيها حتى لو كانت تصريحاتهم مجرد ضغوطات.
فهذا التلويح يعزز قناعة خليجية حديثة، وهي عدم الثقة في الأمريكان والغرب عامة، لأنهم لا يرغبون في تطوير علاقاتهم مع حلفائهم التاريخيين، يريدون العلاقة نفسها التي تأسست منذ عدة عقود، وربما على الأمريكان الاتعاظ بفرنسا التي خسرت حلفاءها التاريخيين في أفريقيا، وفقدت مصالح استراتيجية لصالح موسكو وبكين اللتين تعززان وجودهما فيها بصورة مثالية وبالذات بكين التي تظهر وكأنها تستهدف الإحلال مكان باريس في أفريقيا، لكن بلعبتها التنموية الذكية التي تجذب الأنظمة والشعوب الأفريقية. ولو استخدمنا التحليل المقارن، فسنجد أن واشنطن لم تستفد من التجربة الفرنسية في أفريقيا، وتظهر أنها تنسخها في الخليج، ولو عملت فكرها السياسي، سترى أن وقف الأسلحة وسحب جيشها من الخليج لن يخدم مصالحها الاقتصادية وخريطة جيوستراتيجيتها العالمية، فمنطقة الخليج ليست نفطا وغازا فقط، وإنما كذلك منطقة جيوستراتيجية – وجيوسياسية وأيديولوجية ستؤثر في مصالح الغرب الأمريكي، سنقف هنا على استدلال واحد فقط، وكفى به، وهو أن الموقع الخليجي يشكل خلفية الوجود الأمريكي في المحيطين الهندي والهادي وحتى بحر الصين.. فلن تترك واشنطن ظهرها مكشوفا أو دون دعم لوجستي مضمون، ولن تترك الصين تتمدد جيوستراتيجيا على حسابها، فهذا يقلل من قوتها العالمية المعاصرة.
كما أن للموقف السيادي السعودي ببرغماتيته الاقتصادية رسائل أخرى مهمة لموسكو وبكين، أهمها رسالة البرغماتية وحاكميتها في العلاقات السعودية الدولية، تجاوزا لكل المفاهيم السابقة، بحيث يمكن أن تجد من خلالها الفرص المتاحة لصناعة علاقات عميقة في ضوء الاتفاقيات المتعددة التي تم توقيعها بين البلدين خلال السنوات الماضية، والتي لاقت معارضة أمريكية، فبكين وموسكو تنظران للعلاقات الخليجية الأمريكية من منظور التبعية، والآن تقدم الرياض أكبر الاستدلالات على تغليبها مبدأ البرغماتية الاقتصادية في علاقاتها الدولية.
وهذا ما تتطلع إليه بشغف موسكو وبكين، فهذه البرغماتية ستجنح بالخليج العربي نحو الشرق أكثر من الغرب، طبعا دون معاداة هذا الأخير الذي لن يقبل هذا التحول الخليجي بسهولة، ونكرر القول إنه لو احتكم الغرب عامة وواشنطن خاصة للعقل السياسي، فسترى أن ديمومة مصالحها الاستراتيجية في الخليج تتوقف الآن على التسليم بالبرغماتية الخليجية الجديدة التي تعبر عنها الرياض فعلا وقولا من خلال موقفها النفطي وكذلك حيادها في الحرب الروسية على أوكرانيا، وسيقودها كذلك لرؤية أن علاقاتها التاريخية مع الدول الخليجية تمر بتحولات كبيرة مدفوعة بوجود قادة جدد لهم طموحات وطنية بهاجس العالمية، ويفككون بوسائل ناعمة وهادئة وعميقة أسس العلاقات المختلة مع حلفاء بلدانهم التاريخيين لصالح صناعة مستقبل بلدانهم، وكل محاولة غربية لفرض استمرار العلاقة القديمة مع الخليج العربي، ستبعد الغرب كثيرا، وتقرب الشرق الروسي الصيني بقدر مسافات الابتعاد الغربي.
لذلك، فلا نتوقع أن يذهب غباء المشرعين الأمريكيين بعيدا، وكل ما يمكن أن تفعله واشنطن هو تفعيل وسائل وأدوات ضغوطاتها الابتزازية على الدول الخليجية، لأنه ليس من مصلحة صناعاتها العسكرية وقف تصدير الأسلحة للرياض، كما أن هذا سيدفع بالرياض إلى شرائه من أسواق تفتح لها أبوابها بصورة مغرية، فأمام إدارة بايدن الديمقراطية اللجوء إلى الوسائل الناعمة لنجاح ضغوطاتها في استمرارية لنهج الديمقراطيين عندما يستلمون السلطة في أمريكا، وستستغل الإدارة الأمريكية قضايا مثل حقوق الإنسان وحرياته كأداة ضغط على الأنظمة في الخليج لتحقيق مصالحها، وطبيعة مصالحها قد أصبحت متعددة ومتنوعة، أمنية واقتصادية وفكرية.. الخ.
وما إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن تخصيص برنامج المساعدات لدعم شبكات الإلحاد في المنطقة -وقد تناولناه في مقال سابق قبل أقل من شهر- سوى نموذج لما ستقدم عليه إدارة بايدن في ضغط مضاعف على الخليج، سترتفع وتيرته كلما تتطلع لتحقيق مصالح جديدة، وستخف عند تحقيقها، لكنه في حقيقة الأمر يعد ذلك من الأجندات الأمريكية الاستراتيجية التي تعتقد الإدارة الأمريكية أن طبيعة المرحلة في الخليج مواتية لتحقيقها بسبب الانفتاح والتحولات المالية والاقتصادية، التي تمس جوهر العلاقة السياسية بين المجتمعات الخليجية وأنظمتها.. وهذا سلاح ذو حدين وحادين جدا، ونتوقع أن تشهد المنطقة الخليجية موجة جديدة من شبكات المدافعين عن الأفكار الدخيلة عن المجتمعات الخليجية بحجة التسليم بالتنوع الفكري والأيديولوجي، من هنا ينبغي على الدول الخليجية أن تعمل فكرها السياسي داخل هذه المنطقة للحد من التأثير الأمريكي، وحتى تحصن مسيرتها السيادية الجديدة.