في الأول من مايو 1986م ذهبت إلى سلطنة عُمان أستاذًا مساعدًا للتاريخ الحديث والمعاصر بجامعة السلطان قابوس، كنت في منتصف الثلاثينيات من عمري، لم أكن أعرف كثيرًا عن هذا البلد العربي العريق إلا ما درستُه كطالب في الجامعة وما دَرَسته لطلابي بعد ذلك عن دور العمانيين في مقاومة الغزو البرتغالي، أو ما قرأته من كتابات جمال زكريا قاسم، ومذكرات أميرة عربية للسيدة سالمة بنت سعيد المترجم من اللغة الألمانية، وكانت الاستعدادات قائمة على قدم وساق استعدادًا لافتتاح جامعة السلطان قابوس لأول مرة في العام الدراسي 1986/1987م .

كان قد سبقني إلى الجامعة مجموعة من الأساتذة الكبار من بينهم الدكاترة: حمدي السكوت أستاذ الأدب العربي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفؤاد أبو حطب أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، ومحمد الفيومي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر، وغيرهم من الأساتذة الذين اختارتهم الجامعة من كبرى جامعات العالم في مختلف التخصصات.

وجدت نفسي لأول مرة وسط هذه الكوكبة من الأساتذة الكبار، نتحلق كل يوم حول طاولة كبيرة نراجع المناهج، ونقترح تزويد المكتبة بأهم الإصدارات في مختلف المعارف الإنسانية، ونحدد عدد الساعات الدراسية لكل مقرر وفق ما يسمى بنظام الساعات المعتمدة، كما نتدارس القضايا الجوهرية حول جدوى تدريس بعض المقررات كالفلسفة، واللغة اللاتينية، والتاريخ، واللغة العربية، واللغة الإنجليزية، والحضارة الإسلامية، لكي تكون مقررات أساسية على كل طلاب الجامعة بما فيهم طلاب الكليات العملية، وقد تم تدريس هذه المقررات بالفعل على جميع طلاب الجامعة.

أتذكر هذه الفترة من حياتي التي امتلأت بالطاقة والحماس، فقد كنا جميعًا نشعر وبمحبة شديدة أننا أمام مهمة قومية. يستمر الاجتماع من الصباح وحتى الساعة السادسة من مساء كل يوم بلا انقطاع ماعدا يوم الجمعة، كنا نشعر بالفخار وبحجم المسئولية، وخصوصًا أن إدارة الجامعة (الناشئة وقتئذ) قد قدمت لنا كل الإمكانيات من خلال رئيس الجامعة الشيخ عامر بن عُمير المرهوبي الذي أمضى معظم حياته في زنجبار وأكمل دراسته الجامعية في بريطانيا، وكان شخصية استثنائية في محبته وثقافته وما قدمه لنا من ثقة أشعرتنا أننا في بلدنا، لذا كنا جميعًا على قدر مستوى هذه التجربة الكبيرة.

كثيرًا ما كان يتحدث معنا الشيخ عامر عن خصوصية الشعب العُماني والتجربة الجديدة التي سوف تجمع البنين والبنات في مكان واحد وهو ما كان يتخوف منه المجتمع، إلا أن الإرادة السياسية للدولة العُمانية كانت عازمة على خوض التجربة التي ستنقل عُمان إلى عالم آخر من المعرفة، وكان الرهان الأكبر على دور أعضاء هيئة التدريس، وكان الرهان صائبًا، فقد بدأ العام الدراسي في الأول من سبتمبر عام 1986م، وكانت قلوبنا جميعًا تخفق، فقد خُصصت ممرات للفتيات، وأخرى للشباب، كما خُصصت المقاعد الخلفية داخل قاعات الدراسة للبنات، بينما خُصصت المقاعد الأمامية للشباب.

وفي اليوم الدراسي الأول عزم التلفزيون العُماني على تصوير هذا المشهد التاريخي، وكنت من بين من أختارتهم الجامعة لكي تفاجئني بكاميرا التلفزيون داخل قاعة المحاضرة في اليوم الأول وفي المحاضرة الأولى رغم أنني كنت أصغر أعضاء هيئة التدريس سنًا.

أعتقد أن تجربة العمل في جامعة السلطان قابوس كانت من أهم تجارب حياتي؛ فقد أمضيت فيها خمس سنوات وكأنني في عالم اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)، فالطلاب والطالبات غاية في الرقي والأدب والالتزام، وكانت المشكلة في الأسابيع الأولى من العام الدراسي هي عزوفهم عن المشاركة والمناقشة، فيما يُطرح عليهم من قضايا تاريخية، وكنت أتفهم ذلك، فجمعيهم كانوا يشعرون بالخجل إلا أنه لم يمض أكثر من عدة أسابيع إلا والطلاب والطالبات قد تخلصوا من خجلهم وراحوا جميعًا يتسابقون في الحوار والمناقشات، ومضت التجربة غاية في الهدوء والتفاعل، لعل ما كنت ألاحظه أن الفتيات كنّ أكثر من الشباب إقدامًا على المذاكرة والحصول على أعلى التقديرات، لكن لم أشعر من الشباب بأي قدر من الحساسية أو التبرم من ذلك.

لا أتذكر أنني واجهت مشكلة من أي نوع لا في الشارع ولا في الجامعة، فقد مضت الحياة هادئة مفعمة بالمحبة والعزيمة، والطاقة المتدفقة في كل مناحي الحياة،حتى أن الجامعة قد يسرت على أعضاء هيئة التدريس أمر المعيشة فابتنت لهم "فيلات" فاخرة وسط الجامعة، وهذا ما شجعني للتريض داخل الجامعة التي كانت شوارعها هادئة والخضرة تكسو كل مكان في جنباتها، ولعل من المصادفات الجميلة التي لا أنساها أبدًا أنه بينما كنت أتريض كعادتي كل يوم في المساء، وبينما أمشي الهوينا، إذ بسيارة مرسيدس سوداء اللون تقف بجانبي، وقد فتح قائدها الزجاج وألقى عليّ السلام، وفتح باب السيارة لأفاجأ بأنه السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، وجهًا لوجه بلا حراسة وبلا إجراءات أمنية، وقد رحب بي بحرارة شديدة وسألني: الأستاذ مصري؟ أجبته: نعم، ثم سألني عن تخصصي، فأجبته، ثم راح يسألني عن انطباعي عن الجامعة واستكمال التجهيزات، وهل ثمة قصور في أي جانب؟ أجبته بالنفي، إلا أنه قد أعطى وقتًا طويلاً في الحوار عن مكتبة الجامعة وما تتطلبه من تجهيزات ومصادر في مختلف الثقافات العربية والأجنبية، وبرقة شديدة راح يشيد بالمعلم المصري الذي شارك العمانيين في تعليم أبنائهم منذ بداية النهضة (1970م) في المساجد وتحت الأشجار، هكذا قالها جلالته بكل صدق وثناء.

بعد مضي ثلاثين عامًا على هذه التجربة، وفي عام 2017م عدت أستاذًا زائرًا في جامعة السلطان قابوس في الفصل الدراسي الأول، وكانت سعادتي غامرة، فقد اتسعت الجامعة وأنشئت بنايات جديدة، وأُضيفت برامج دراسية لم تكن موجودة، من بينها الموسيقى، والوثائق والمكتبات، وتخصصات تكنولوجية متعددة في الكليات العملية، وتضاعفت سعادتي بعد أن وجدت أن طلابي الذين درست لهم في تجربتي الأولى قد أصبح من بينهم الوزراء، والسفراء، ورؤساء الهيئات، وكان وفاؤهم وترحيبهم بي يفوق أي وصف، ومما زاد من سعادتي أن النابهين من شباب العمانيين قد شغلوا معظم الوظائف الأكاديمية في الجامعة بعد أن أكملوا دراساتهم العليا في أرقى الجامعات الأوروبية.

يعد إنشاء جامعة السلطان قابوس بداية جديدة لمرحلة من التنمية الشاملة حينما أمدت الجامعة كافة مؤسسات الدولة بالكوادر البشرية، ومن المؤكد أن السلطان قابوس كان على ثقة بأن التعليم هو الطريق الحقيقي للتنمية، فقد ازدهرت الجامعة، وكانت بمثابة القاطرة التي دفعت بالمجتمع نحو التقدم والازدهار، وهي تجربة كان التعليم عمادها، رحم الله السلطان قابوس، فقد أسس لدولة حديثة شملت كل مناحي الحياة، ومن حسن حظ العمانيين أن الله قد أنعم عليهم بقائد هو خير خلف لخير سلف صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم الذي يصر على إكمال ما بدأه السلطان قابوس بكل إخلاص وهدوء وروية، لكي تواصل عُمان مسيرتها وسط عواصف إقليمية ودولية، لكن التجربة تكبر كل يوم، فقد امتدت الجامعات والكليات "الحكومية والخاصة" إلى كل ربوع السلطنة.

الخلاصة، أنه في كل التجارب الناجحة في العالم من الصين شرقًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية غربًا نجد أن التعليم كان هو البنية الأساسية التي طورت الحياة علمًا، وثقافة، ومحبة، تحية لعمان بمناسبة مرور ما يقرب من أربعين عامًا على إنشاء الجامعة، وهنيئًا للشعب العماني على تجربته الناجحة التي غيرت وجه الحياة في هذا البلد العريق، وأرجو لهم دوام التقدم والمزيد من الازدهار.

• د.محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية.