يبدو لي إننا في واقع الممارسة نتجه نحو تعدد الأنظمة الموسيقية.. وفي هذا السياق تحضنا الموسيقى الغربية التي تنتمي إلى أعظم القوى الناعمة وغير الناعمة في عصرنا، بتأثير واضح، وانسحب ذلك على اللغة المحكية، فلو جلست اليوم مع عدد من الموسيقيين العرب ستسمع القليل من المصطلحات الموسيقية العربية، والكثير منها غير العربية. وبشكل عام الموسيقى العربية مثقلة بالمصطلحات غير العربية من الشرق والغرب.

فإذا ما استثنينا «البعد المتوسط» في الموسيقى العربية والمقامات ذات الصلة بهذا البعد سنجد أنفسنا واقعياً نشتغل على النظام الموسيقي المعدل، والاعتراف بهذا الواقع تحصيل حاصل إذا ما نظرنا إلى إننا ندوزن آلاتنا الموسيقية وفق هذا النظام الغربي، ونستعمل عدد من الآلات الموسيقية ذابته الدوزان كالبيانو وغيرها، وبسبب هذه الممارسة سنجد في المقابل إن بعض المقامات العربية في هذه الحالة تتطابق أبعادها مع النظام المعدل تماما مثل مقامي العجم والنهاوند وغيرها.

لهذا يجب على هذه الأمة أن تختار أما أن تعالج نظامها الموسيقي الخاص بها انطلاقا من تراثها النظري والعملي، أو تستسلم للأمر الواقع والعجز النظري والتطبيقي، ولا شك إن الكثير من الكلام قد قيل في هذا السياق، وليس في هذه المسألة من جديد لم يناقش من قبل، ولعلها واحدة من المستعصيات النظرية والتطبيقية لم يتفق المختصون العرب بشأن حلها.

وفي جميع الأحول لا تزال الألحان العربية عصية عن استعمال تطبيقات تعدد الأصوات ( الهارمونية والبيلوفينة ) الشائع في الموسيقى الغربية وأسباب ذلك عديدة لعل أبرزها اللغة العربية نفسها والنظام المقامي، وربما التعدد الصوتي متاحا أكثر في التأليف للآلات الموسيقية.

ولكن، ماذا عن موسيقانا نحن في هذه البلاد العزيزة الثرية في الضروب الإيقاعية ؟ هل هي كذلك ثرية في المقامات ؟ هذا سؤال مهم، ولكن للأسف لا يمكنني الإجابة عليه في هذا المقال إجابة قاطعة والسبب إنه لا توجد دراسة حصرت درجات السلم الموسيقي وأبعاده من جهة، ولا أنواع الأجناس والمقامات المستعملة في مختلف ألحان الغناء التقليدي والعودي في عُمان من جهة أخرى. ولكن من واقع الممارسة والمتابعة، استطيع القول إن نظرية استنباط المقامات المعروفة في الموسيقى العربية والشائعة في مصر وبلاد الشام والعراق والمغرب العربي، غير معروفة في تراثنا الموسيقي، ومعظم الألحان التقليدية لا تتعدى الدرجة الرابعة، وقليل منها التي تلامس جنس الفرع للمقامات المعروفة، ولكن في الغناء العودي قد تصل بعض الألحان إلى ديوان كامل. وعلى كل حال لا توجد في تراثنا العُماني أسماء للدرجات النغمية أو تقاليد تحدد التعامل مع السلالم المقامية، ولم نعرف هذا إلا حديثا مع الموسيقيين العرب الذين اشتغلوا ودرسّوا الموسيقى في بلادنا.

والصلات مع الموسيقات الثرية في منطقة المحيط الهندي وغرب آسيا ظلت محدودة ومحصورة في بعض الممارسات الموسيقية حيث برز مثلا التأثير الأفريقي في الضروب الإيقاعية السريعة ذات الصلة بالنشاط البحري، وفي الغناء العودي أخذنا (عُمان والجزيرة العربية) عن الهنود بعض الإيقاعات عن طريق الحضارم مثل: إيقاع الختم والضرب الإيقاعي المعروف بالشحري (نسبة إلى مدينة الشحر) وهو الرومبا كما يسمونه في بلدان الخليج.

وفي هذه المناسبة تجدر الإشارة إلى إنني قد تناولت بعض من تلك الصلات في بحث سابق بعنوان: الصلات الموسيقية بين عُمان والهند، وقدمت البحث في الندوة التي نظمها مركز الدراسات العُمانية بجامعة السلطان قابوس: ( عُمان والهند.. آفاق وحضارة من 27 فبراير وحتى 1 مارس 2011).

وفي سياق الحديث عن التأثيرات الخارجية لا يجد كاتب المقال أثرا للموسيقى الفارسية في الغناء العودي العُماني، ولكن يُعتقد أن بعض ممارسات الغناء التقليدي مثل الغناء الدرامي "الباكت " في مدينة صحار الذي انقرض على ما اعتقد، ذات صلة بالثقافة الموسيقية الفارسية.... للمقال بقية.