أكتب هذه الليلة على هدى موسيقى ياسر عبدالرحمن التي افتتح بها المخرج المصري محمد فاضل فيلمه السينمائي «ناصر 56». لم أكن هناك لأعتمد على ذاكرتي الآن في الكتابة، بل أنا هنا والآن، أكتب معتمدًا على قدرة الموسيقى في تفتيح المناطق الغامضة من اللغة وتصعيد الكتابة إلى ذروتها لتطوير موهبتها في رسم ملامح الغُيَّاب... موسيقى ليلحق المتأخرون بالمتقدمين، موسيقى لهدنة صغيرة بين الأحياء والأموات ولوصل ما انقطع من زمان ومكان. هي عادة لازمتني مع الكتابة، وطقس ضروري من طقوس الاستحضار حتى للتفاصيل التي لم تدخل حيز الذاكرة من قبل، فللموسيقى بصيرتها التي تخترق ظلام البصر القصير والمحاصر ببلادة الواقع، وللموسيقى قدرتها على توجيه تيار الزمن نحو جهة نائية في أدغال الماضي، تحملني لأعثر على توازني بين الحاضر والماضي، ولأعيد تموضعي النفسي بين الشخصي والعام في خضم هذه اللحظة العربية المؤرقة في شريط الزمن المتوتر، والموزعة بين تراث الأمس وذخيرة الغد القابل للاشتعال.

يخلعُ جمال عبد الناصر ملامحه ليعيرها مؤقتًا لأحمد زكي فيصبح التاريخ فرجة مفتوحة. تخرج البطولةُ عن سياقها التاريخي الذي يشغل بال المؤرخين لتعتمد كل الاعتماد الآن على موهبة الفنان وحده، الذي يتقدم إلى المشهد بطلًا يحاول أن يخفي في أدائه تعرجات فنية واضحة.

ولكن إلى أي مدى ما زالت الأسطورة أسطورية؟ وإلى كم ستعيش؟ هل من أحد ما زال يسأل اليوم في مصر عن حياة الأسطورة الناصرية في ذاكرة المكان والناس أو موتها؟ الكثير من أسئلتنا العربية تبدأ حقًا من مصر، وكثير من السؤال العربي عن مصر يبدأ من التنقيب في هويتها الناصرية التي جسَّدها الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر في شخصه ولغته التي تركت ظلالها العميقة في آمال وتعسفات الحياة السياسية بالعالم العربي، ورمت في الترعة الخصبة أولى بذور استبداد الدولة الحديثة وعبادة الفرد.

الحنين إلى زمن الأسطورة يغذي حياتها ويمدها بشرعية شعبية. لكننا في مرحلة عربية تستدعي القليل من الخصومة مع الحنين، وأنا أعرف شاعرًا عراقيًا خاصم الحنين إلى الأمكنة كي لا يتمزق بينها. لكن الذاكرة القومية والوطنية مسؤولة عن الحنين الذي يمزقها بين الأزمنة في ثلاث جهات على الأقل، بين الماضي والحاضر والمستقبل. وبالشفاء من هذا الحنين الناجم عن العجز التاريخي والسياسي سيكون بوسعنا ربما أن نطور السؤال عن جمال عبدالناصر ليكون سؤالاً قادماً من الغد، من المستقبل المؤجل، وليس توسلاً وتسولاً على أبواب الماضي الموصدة على أحلام مهجورة بالوحدة والقومية العربية، أو مجرد وقوف على أطلال حقبة متوترة وجامحة من التاريخ العربي المعاصر التي نقف أمام مآثرها وآثارها بالكثير من الشك والقليل من اليقين، أملاً بوضع حد معقول لاستمرار الماضي في الحاضر الرهين لتلك الأحداث التي توالت منذ الـ23 من يوليو 1952، ثورةً وانقلاباً في آن معًا، حتى آخر يوم في حياة زعيم رحل مع نهاية اليوم الـ28 من سبتمبر 1970، بعد ساعات فقط من انتهاء قمة الطوارئ العربية في القاهرة.

ثمة رجال ونساء يبرزون في تجربة أي أمة كفَواصل القراءة التي نضعها بين ثنايا الكتب، أو كالإشارات المرجعية على طريق المسافر، تنبغي العودة إلى أرشيفهم لسؤالهم ومساءلتهم عن بصمات أصابعهم في أيامنا الجديدة. من هنا يبدو الحديث عن جمال عبدالناصر نقاش أجيال غير محتَكر، ليس بوصفه شخصًا في المقام الأول، بل بوصفه شخصًا في مرحلة، ومرحلة كاملة في شخص لقَّنه الدهر أقسى عبره ودروسه ولم يمنحه الوقت ليردَّ ويثأر من عدوَّيه اللدودين: التاريخ والجغرافيا!

ربما كان محمد حسنين هيكل، أبرز أقلام ثورة يوليو، أول من ينتبه لخطر «التمثيل» و«الأسطرة» على مستقبل عبد الناصر بعد الموت، عندما كتب في نوفمبر من عام 1970، أي بعد مرور شهر على الرحيل المباغت للزعيم العربي، قائلاً إن «عبدالناصر ليس أسطورة»! المقال الذي تباينت ردات الفعل حول مضمونه الداعي لإنقاذ جمال عبد الناصر من بخور الخرافة وغيب الغيبيات التي تجفف الطين البشري من دمه وتُحجِّره في معبد الماضي. وبلغة أكثر عفوية تشعَّب هيكل لذات الفكرة في إحدى أماسيه على قناة الجزيرة بعد أكثر من ثلاثين سنة على وفاة عبد الناصر.

لم ينضح مقال هيكل المذكور بأي نقد لسيرة عبد الناصر ومسيرته عكس ما يشي به العنوان (عبدالناصر ليس أسطورة!) بل كُتب بلغة رثائية، ربما لأن الشارع المفجوع (وليس في هذا الوصف أي مبالغة كما يحلو للبعض أن يتهكم) لم يكن بعد مستعداً لاستقبال أي مراجعة نقدية جارحة لتاريخ رمز لم يكن جسده الضخم قد تحلل نهائياً في تراب مصر. ومع ذلك، فقد مثَّل مقال هيكل دعوة استباقية للتخفيف من أعباء القداسة والتبجيل لصورة عبد الناصر التي دأبت الدعاية الناصرية على ضخها لقرابة عقدين من الزمان.

ما يلفت الانتباه في ما كتبه هيكل هو تأكيده على أن جمال عبد الناصر نفسه قد «أغلق أمامنا جميعاً باب الاجتهاد» بعد رحيله، تاركاً رؤيته ومنهجه في آلاف من الخطب المنشورة في الصحافة وفي آلاف الساعات المسجلة بالإذاعة والتلفزيون، كأنما يقول لمن أراد أن يقترب منه بالنقد أو الحب أن يذهب إليه مباشرة، إلى تراثه المعلن بصراحة تمزج الشجاعة بالتهور، وتجاهر بفجور الخصومة السياسية التي تبلغ حد الشتيمة أحيانًا.