كرجلٍ ضعيفِ النظرِ جارحِ النظرات، يعتمد على نظَّارته ليدخل في عينيك ويبقيك متسولاً خارج عينيه، يمسح عن زجاجها الغيم والغبار، ثم يضعها على مسافة واضحة من مستوى النظر في وضعية التسديد المثالية للقراءة. وبهيئته تلك، كصانع ساعات حاذق، أو أستاذ جغرافيا ينقِّب في الخريطة عن دولة ضائعة بعد الزلزال، يمعن سليمان النظر في أوراقه التي تلمع فيها سطور مظللة بأقلام التحديد، ثم يفتتح برنامجه الإذاعي بقراءة فقرة للشاعر أمجد ناصر عن رواية الياس خوري "باب الشمس" التي اخترتُها لتكون موضوعاً لحلقتنا تلك من "كتاب أعجبني". لكن عينينه سرعان ما تختصمان على سطر مارق بين فاصلتين فيشرد منه السياق. يقطع التسجيل بكلمة "Sorry" قائلاً: "تزعجني هذه الجُمل الاعتراضية كثيراً!" ثم يستأنف التسجيل من جديد ويعيد القراءة. لا تروق له الجمل الاعتراضية إذن! سأحمل عنه تصريحه هذا على محمل الجد منذ ذاك اليوم، وسأستحضره دائماً وأنا أقرأ عموده الأسبوعي كل أحد على جريدة عُمان: جملٌ مكبوحة الاستطالة، تمشي واثقةً لتسدد هدفاً أكيداً مع آخر كلمة، ولا تكاد تُطنب حتى تكبحها نقطة حازمة في نهاية السطر. هكذا يحمي سليمان لغته من إغراء الإسهاب المفضي إلى الساحات الخالية حيث يفقد المعنى توزانه فيُغشى على القارئ من فرط التشظي بين جهات أربع في فضاء النَّص.

لم أنسَ أنه كان أول من يتهمني بـ"الدرويشية" في أول لقاء شخصي وإذاعي معه قبل ست سنوات، عندما ذهبت إليه حاملاً كتاب الناقد المصري صلاح فضل "محمود درويش، حالة شعرية". لم أقل له من قبل إنني ترددت لحظتها في أن أبادله إطلاق النيران خشيةً على هشاشتي، عندما تذكرت أنني على أرضه وبين جمهوره في مقر الإذاعة.

كم حسدته، حسداً لا غبطة فيه هذه المرة، لأنه ارتكب الشجاعة الضرورية في تحديد مصيره العلمي بجامعة السلطان قابوس عندما غادر الهندسة من أوسع أبوابها داخلاً إلى الأدب من أضيق أبوابه عبر قسم هامشي للفنون المسرحية بكلية الآداب، تلك الجرأة التي كانت تنقص فتىً مثلي في سنته الجامعية الأولى بكلية الهندسة. لكن سليمان الباحث عن الحياة من ثغرة ضوء في جدار، ترك الأبواب للحراس وقفز من النافذة إلى سماء شاغرة للكتابة عن المكان وشجونه ومنسييه، فوق بياض دكان من الكتابة العمانية، لم يسفك عليه ما يكفي من الحبر.

في صوته الإذاعي فُصحى مكتوبة كتلك التي نسمعها بصوت صالح العامري، وفي فُصحاه المكتوبة ذبذبات خفية لموجات الراديو. يكتب كواحد من أولئك الوارثين الأوفياء للمدرسة المصرية في الكتابة الصحفية، كأنه قادم إلى الكار من صفحات الأهرام والكواكب وروز اليوسف. كأنه واحد من أولئك الذين كان عليهم أن يموتوا بعد انهيار الصحافة الورقية واجتياح مواقع التواصل الاجتماعي لهامش الكتابة عن اليومي والتقاط السخرية السوداء من أخبار عالم الفن والسياسة. لكن سليمان الذي وُلدَ معاصراً (أكثر مني أحياناً، أنا المتأخر عنه بثلاث وعشرين سنة على الأقل!) عرف باكراً كيف يحيا ككاتب معاصر بين الجريدة والكتاب، وعرف أيضاً كيف يكون الكاتب كاتباً في فيسبوك وتويتر، بلا فصام أو انفصال بين الشخصية الورقية والرقمية، ودون أن يتنازل عن لغته التي ربَّاها الأدبُ ومرَّنها الإعلام على مهارات وحيل فنية لا يتقنها سوى محرر أخبار سابق، كتحويل خبر رياضي أو معلومة عابرة في نشرات الطقس إلى مادة للكتابة الأدبية، أو لسخرية قاتلة على الأقل.

وفي هذا العقد الحرج من تاريخ الإذاعة والتلفزيون حيث يحتضر الإعلام التقليدي تاركاً منابره لمزامير النشاز وأبواق الصدى المموسق بمختلف الألحان، وفي الوقت الذي ما زال فيه الخطاب الإعلامي في عالمنا العربي معادلاً إما للخطاب السياسي الموجه أو للترفيه التجاري الكئيب؛ فإن سليمان المعمري وفريقه في القسم الثقافي بالإذاعة العامة قد أعادوا لنا حقنا كقراء في انتظار مادة مسموعة تجعل من الأثير "هواءً للكتابة" وترفع المكتوب في المسموع إلى خفة الموسيقى، كما تحفظ للأجيال القادمة أصواتَ المثقفين العرب في جرار مؤرشفة تحمي أصواتهم من التبخر، في هذه الظهيرة الحالكة التي يذهبون فيها تباعاً للموت والنسيان والتلاشي.

هي لحظة استدراك وإدراك، بعد ست سنوات منذ لقائنا الأول في مبنى الإذاعة، تعلمني الآن درساً في فداحة تأجيل كتابة اليوم إلى الغد عن اللحظات الواقفة في مكانها، وعن مشهد لا تكرره نوافذ السيارة حين تخسره العين لصالح مشهد آخر في شريط من الصور غير المحمضة. لقد أوصلني تأجيل الكتابة عن سليمان المعمري طوال السنوات الماضية إلى هذه اللحظة المحرجة التي تضعني فيها الصدفة المقدرة وجهاً لوجه معه، حيث تفصل صفحة شفافة فقط بين مقالي ومقاله على عدد الأحد من كل أسبوع في جريدة عُمان! لكنني لست بوارد التراجع عن لحظة الكتابة كي تموت في سري إذا ما تلكأتْ قليلاً ولم تعلن عن نفسها في توقيتها الحاسم هذه المرة. لن أخذل مواعيدي لصالح مقولة سائرة أدمنَّا الامتثال لها بلا وعي، والتي تقول بأن "المدح في الوجه مذمة". فإلى متى سيظل الحيَّ أقل جرأة في وضع عينيه بعيني حي آخر قبل أن يجهش باعتراف ضروري؟ وإلى متى سنؤجل ديوننا العاطفية وندَّخر الكتابة عن الأحياء لتدبيج المراثي وخطب التأبين التي لن تأتي إلا كاعتذارات منتهية الصلاحية؟ ولكن لا خشية على سليمان من المراثي فهو يكبر الآن أبطأ من أي وقت مضى، منتظراً على الضفة الأخرى من الحلم قُراءه الصغار ريثما يكبرون في معرض الكتاب.

أخيراً، إن كان لي أن أوجه سؤالاً مباشراً لسليمان، المثقف غير المكتئب، والذي لم يصبه الشعراء بعدوى التباهي بالكآبة، فسيكون التالي: أنى لك أن تكتب وتقدم وتذيع، وتلاحق قراصنة الكتب والجرائد والشهادات المزورة من جامعة لأخرى، وتعلَق يومياً مثلنا في زحمة مسقط دون أن تطالب بأكثر من أربع وعشرين ساعةً في اليوم؟