بحسبة صغيرة واستنادا لإحصائيات عدد المواليد في كل عام، يمكننا أن نعرف بدقة تامة كم مدرسة إضافية نحتاج في كل محافظة من محافظات سلطنة عمان. يحدث ذلك عندما يُمثل قطاع التعليم أولوية تُذلل من أجلها الصعاب ليتعافى من أسقامه، ولكن كما يبدو لا نستفيد من هذه الإحصائيات الدالة، ولذا نقع في فخ عودة التعليم المسائي الذي بدأ يتنامى في أوصال عُمان مُخلفا آثارا غير هينة على الطالب والمعلم والأسرة، فالتعليم المسائي ليس حلا مثاليا للأسباب التالية:

الطالب الذي يذهب إلى التعليم المسائي يُهضم حقه على أكثر من صعيد، إذ يخسر أولا نشاطه الذهني الصباحي وهو أفضل أوقات التعلم، ويخسر باقي يومه لأنّه يعود منهكا وقت الغروب، كما يُهضم حقه الطبيعي في اللعب مع أقرانه فترة العصر الذهبية، ولأنّه ليس لدينا في أغلب مدارسنا قاعات رياضية مجهزة ومغلقة، فيُحرم هذا الطالب من حصة الرياضة المدرسية بحكم درجات الحرارة الملتهبة.

ينتهي التعليم المسائي الساعة الرابعة والنصف، ولكن الطالب قد يصل إلى منزله عند الساعة 5 أو 6 بسبب أن الحافلات تعمل بنظام "التريبين"، فكيف لهذا الكائن المتعب أن يبدأ المذاكرة والتحضير في الوقت الضائع من حياته!

يخسر الطالب وجبة الغداء الأساسية برفقة عائلته، ويضطر لأن يأكل من مقصف المدرسة والذي عادة لا تتجاوز خياراته "البطاطس والسنتوب"، ومن ثم نتساءل حول رداءة أدائهم المدرسي أو تعرضهم لسوء التغذية!

وفوق هذا وذاك عليه أن ينتظر الحافلة في نقطة التجمع والشمس بشكل عمودي فوق رأسه، ولذا ليس علينا أن نتعجب من الإغماءات المتكررة، وحوادث الإصابة بالدوار وألم البطن والاستفراغ!

تصله الحافلة في العاشرة والنصف صباحا، وليس علينا أن نتحدث عن الحرارة القاتلة في الانتظار إلى أن تصله الحافلة أولا، ثمّ الانتظار إلى أن تفتح المدارس الصباحية الأبواب لخروج الطلبة، فتبدأ قصّة خطيرة من التدافع اللانهائي. الوصول إلى الفصول لا يعني بالتأكيد النهايات السعيدة، فليس علينا أن ننكر ضعف صيانة المكيفات!

يُظلم طالب المسائي ظلما مضاعفا عندما لا يحصل مثل أقرانه على دقائق الحصّة كاملة، كما يُظلم المعلم إذ عليه أن يُعطي الأداء ذاته في دقائق أقل!

يُجبر المعلمون والمعلمات على قبول هذا التوقيت دون مراعاة لظروفهم العائلية، فغيابهم عن البيت يُؤثر على الأسرة التي تتفاوت أوقات اللقاء فيما بينها. بل يخسرون ميزة وضع أبنائهم الصغار في حضانات فهي تغلق باكرا، مما يعني المزيد من الاعتماد على عاملات المنازل، فتخلق مشاكل مجتمعية غير متوقعة جراء ذلك، في ظل غياب التفكير بوجود حضانات مُلحقة بالمدارس حتى اللحظة. هكذا يُنفذ الهدف دون دراسة من استفاد منه ومن تضرر!

وإذا كانت الأمّ عاملة صباحا، فهي على الأرجح لن تجد من يساعد أبنائها على التجهز للمدرسة إلا بمساعدة العاملة أو الجيران، الأمر الذي يقضي على خصوصية الطفل، والأهم أن ندرك بأن ليس لدى كل الأسر عاملة أو شخص قريب!

ولا ينتهي الفيلم هنا، إذ تنتفي الخصوصية، عندما تنفتحُ قصص ضياع الأغراض والكتب والأدوات المدرسية والورقية بسبب مشاركة أكثر من طالب للطاولة والمقعد المدرسي ذاتيهما، بل أن المعلم "الغلبان" يضطر هو الآخر تحويل سيارته إلى مكتب مؤقت يُودع فيه مشاريعه وكراريس الطلبة وأدوات الشرح كيلا تختلط بأغراض الأساتذة الآخرين.

بل أن حربا شرسة تنشبُ في المواقف الخارجية، بين معلمي الصباح والمساء بسبب الزحام التي يصل بعضها لإبلاغ الشرطة "أثناء تبديل الشفت".

دقائق قليلة هي الفاصل بين نهاية العمل الصباحي وبداية العمل المسائي، وسأترك لمخيلتك تصور ما يمكن أن يحدث فيها!

الأثر السلبي يصلُ لأدق التفاصيل التي قد لا تُرى، فالمعلمون يكابدون عناء ترتيب الطاولات والكراسي، عند التغيير من فترة لأخرى، نظرا لاختلاف المرحلة والعدد والطريقة.. فكم من الوقت يهدر في هذه التفاصيل! وأيضا لا يمكن لكادر التنظيف أن ينظف المدرسة في الدقائق القليلة، وعلى "المسائيين" تحمل مخلفات الصباح!

مدارس كثيرة في انتظار جاهزيتها منذ سنوات، والسؤال: لماذا لا نستفيد من تجارب العالم التي باتت تبني مدارس في شهور قليلة مستفيدة من قوالب البناء الجاهزة؟ لقد قال الباحث الإيرلندي سي اس لويس: "مهمة التعليم أن يزرع الصحراء، لا أن يقتلع الحشائش الضارة من الحقول".