ستةٌ، الروحُ سابعهم، حفروا الأرض عميقا ليفرِجوا عن الشمس المطمورة تحت التراب ككنز مسروق. حفروها بما كان طوال تاريخ الخبرة البشرية مجرد أداة مطبخية لا قيمة لها إلا على المائدة، لكنها ستنضم من بعد أياديهم العارية إلى مُقتنيات متحف الحرية البارد كأداة نضال جديدة، وكرمز لحلم التحرر الوطني في خيال الشعوب المستضعفة حول العالم. فالأيادي الذكية وحدها هي من تُطوِّع المعدن البليد وتصنع من أحقر الأشياء أعظم المعجزات. كان هذا هو الدرس الأول الذي تركه أساتذة الحرية الستة خلفهم للسجَّان الذي سيصحو متأخرا بعد فجر السادس من سبتمبر ٢٠٢١ على ثغرة جديدة في ثقته بنفسه التي دأب على تحصينها بالجدران الخرسانية والأسلاك الشائكة. لكن أحلام الأسير التي ترعى في عتمة الأقبية كانت أكثر خصوبة من أحلام حرَّاسه المحاصرين بشمس لا يفقهون لغتها. هذا ما تقوله حكاية الأسرى الفلسطينيين الستة بعدما ثقبوا الأرض فاكتشفوا السماء واحتضنوا الزرقة الأولى كما هي، عذراء لم تصب بأي خدش، ولم يعكر تاريخ الاحتلال الطويل شمسها.

كاميرات العالم الخارجي كانت تنتظر الهاربين، لكنهم خذلوها وتلاشوا في الطبيعة، فلم ينل وميضها الجارح من ملامحهم الجديدة خارج السجن، وظلت وسائل الإعلام تعيد على مدار الساعة عرض صورهم «الرسمية» المثبتة في بطاقات السجن، وذهبت الأقلام لتلاحق أسماءهم النائية في مخيمات جنين ويعبد وبير الباشا وكفردان. إنها مفارقة فريدة لنجوم جدد يجتاحون الشاشات والصحف بقوة الغياب والاختفاء المثير بين الأحراش لا بقوة الظهور. تسللوا غرباء من الوطن إلى الوطن في بصيص الفجر، وعادوا غرباء بعد أربعة أيام من اختلاس الهواء الطلق. كانت تلك إشراقة يتيمة من أجل العمر الذي تبدد من سجن لآخر قبل أن ينتهي إلى قلعة جلبوع التي أصبح اسمها مادة للتندر ووصمة عار وفشل في ذاكرة الجيل الإسرائيلي الجديد. لكنها انتصار في الذاكرة العربية للفكرة التي تقول بأن الحرية لا بُدَّ لها من أن تكون ابتكارا إنسانيا خلاقا، وإن ممارستها تحتاج إلى موهبة فردية وجماعية في الوقت ذاته. أما الحرية الممنوحة (والمكفولة) فهي ليست أكثر من مِنَّة تحيا مهددة تحت عيون الاحتلال وقد تُنتزع في أي لحظة، وهي قبل ذلك كله تمثل أكبر إهانة للإنسان الذي تُقطَّر له حريته وفقا لمزاج العنصرية الصهيونية.

لقد كان لنا في «نفق الحرية» آية فلسطينية جديدة تعيدنا إلى عبقرية الإبداع الفني الذي يحول المكبوت والممنوع من رغبات الحياة إلى اختراق مذهل وصادم، يحير ضابط الأمن الإسرائيلي الذي ما زال يسأل على حفرة غامضة في الأرض اخترقت هيبته: أين ذهبوا بالتراب؟ هل أكلوه؟ كم شهرا/ سنة استمر حفر النمل هذا إلى جهة السماء؟ هل أرادوا أن يُحرجوا دولة الشباك المدججة بأحدث التقنيات الأمنية عندما قرروا الخروج من تحت برج المراقبة مباشرة؟ في الواقع نحن أيضا ما زلنا نسأل مثلهم هذه الأسئلة كلها ونسهر جراها ونختصم لنفسر تلك الوثبة الأسطورية بين زمنين فلسطينيين مختلفين أو مؤتين "أحلاهما مرُّ": زمن الثورة، وزمن الاستسلام تحت راية شبه دولة لا سيادة لها. إنها وثبة فوق نهر البركان، من المؤقت نحو الأبدي، ومحاولة حرية ضرورية للأيام الفلسطينية القادمة.

عاد الأسير إلى المعادلة الفلسطينية من جديد، بعد أن كانت قضيته سؤالا باردا ومؤجلا، لاسيما بعد أن أصبحت الحياة في فلسطين برمتها سجنا كبيرا تزيده الحواجز الأمنية وزحف المستوطنات على الربى والسهول خنقا وقهرا، وكل ذلك يحدث أمام فُرجة دولية تُمدد الألم الشعبي إلى آخر حدود الصبر قبيل القيامة المرتقبة.

ووفقاً لأوراق نادي الأسير الفلسطيني فإن مليون فلسطيني وفلسطينية قد مروا بتجربة الاعتقال في السجون الإسرائيلية منذ نكبة حزيران عام 1967. هكذا جعلت سلطات الاحتلال من السجن جزءا طبيعيا من حياة أي عائلة فلسطينية ومن تجربة أي فرد، وذلك ضمن مسعاها التليد الذي أسسه بن غوريون لقهر الإرادة الفلسطينية، ومات نادما على تضييعه لفرص تاريخية سانحة لسحقها، وهذا ما يُحاسب عليه اليوم في الأوساط في الإسرائيلية مع كل تمرد فلسطيني.

ما حدث في سبتمبر من العام الماضي لم يكن حدثا عاديا يمحوه السطر التالي في كتاب التاريخ الذي يُضيِّع أبطاله وضحاياه في خطأ مطبعي واحد. فمن سينذر نفسه لكتابة مجد المحاولات الفاشلة ، ومن سيصون الذاكرة من عادة الاعتياد المَرَضية هذه وهي تأكل من روح النضالات الصغيرة والمغامرات الكبرى قبل أن تسلم بقاياها لوحشية النسيان؟ ما أقسى بلاغة الأثر الآن، وما أبعد البلاد عن البلاد في قلوب أولئك الغرباء الستة! يسحب الجلاد جلودهم من تحت أقلامنا ليبحث فيها عن وثائق سرية وعن وشوم خالدة تهدده بالزوال.

لكن حيلتنا الفقيرة هي أن نطبع أسماءهم واحدا واحدا بحبر لا يجففه الوقت: محمود العارضة، أيهم كمميجي، يعقوب قادري، زكريا زبيدي، مناضل انفيعات، محمد العارضة.