«فأما بلاغة الشعر فأن يكون نحوه مقبولا، والمعنى من كل ناحية مكشوفا، واللفظ من الغريب بريئا، والكناية لطيفة، والتصريح احتجاجا، والمؤاخاة موجودة، والمواءمة ظاهرة». الليلة الخامسة والعشرون، الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.
ظل الشعر العربي مرتبطا بالوزن والقافية لقرون خلت، حتى جاءت حركة التجديد مطلع القرن المنصرم مع ثُلَّة من الشعراء الذين رأوا بأن الشعر أصبح محاصرا بالوزن والقافية، فغلب عليه التكلف، وبدت القصائد كأنها كلمات متفرقة لا يجمع بينها سوى النَّغَم العروضي؛ فابتدعوا شعر التفعيلة.
وبعد برهة قصيرة من الزمن، بدا شعر التفعيلة كسابقه؛ أي الشعر المقفّى، فصار التكرار فيه ممجوجا وذلك للضرورة الشعرية وكي يتفق مع القواعد التي وضعوها لهذا النوع من الشعر، فرجع بعض الشعراء الذين كانوا يحملون لواء التجديد عن رأيهم بعدما رأوا أن شعر التفعيلة أضحى كسابقه، فظهر فيه التكلف، واقتحمه من يجيد الشعر ومن لا يجيده، فلم يؤد غرضه الموضوع لأجله، وهو تحرير الشاعر من ربقة الوزن والقافية التي تضطره اضطرارًا لأن يقول ما لا يريد، ويضيف ما يحسن حذفه، كل هذا لأجل أن يلتزم بالقيد العروضي.
لم تمض سنوات كثيرة، حتى ظهر نوع جديد من الشعر، وترافق ظهوره مع أوضاع سياسية مضطربة أشعلت الوطن العربي كله، ومع دعوة قومية مزيفة لم تكن في حقيقتها سوى قناع آخر من الأقنعة السياسية المتلونة التي تبدل جلودها، ويبقى جوهرها الديكتاتوري متأججا؛ وأطلق على هذا النوع الجديد من الشعر اسم قصيدة النثر.
ولد هذا النوع الجديد بأغلال في رقبته، فكيف نقول للشعر بأنه نثر؟، هنا بدأت شرارة المعركة ليصبح مضمارها الأسماء لا الحرارة الشعرية، وحيث إن قصيدة النثر متحررة من قيود الوزن والقافية، ابتليت هي الأخرى بأناس تسوَّروها فحشوها بالغث، حتى غطى السمين. وككل معركة؛ قام الفريقان المناصران للشعر المقفى والتفعيلة بمحاربة الوافد الجديد إلى الساحة.
يتناسى كثير من المثقفين فضلًا عن عموم الناس، بأن الغرض الشعري -قبل أن ينحو منحى التسول بالمدائح التي غطت أغراضه الأخرى- هو قول ما يختلج في النفس من مشاعر في قالب أدبي ذكره التوحيدي في إمتاعه، في باب الحديث عن «بلاغة الشعر -وذلك- بأن يكون نحوه مقبولا، والمعنى من كل ناحية مكشوفا، واللفظ من الغريب بريئا، والكناية لطيفة، والتصريح احتجاجا، والمؤاخاة موجودة، والمواءمة ظاهرة». فإذا اشتملت قصيدة النثر على هذه الشروط التي ذكرها التوحيدي، فما المانع من قبولها؟. ثم إنه يضيف فيقول «ومن شرف النثر أيضا أنه مبرأ من التكلف، منزه عن الضرورة، غني عن الاعتذار والافتقار، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرير، وما هو أكثر من هذا مما هو مدون في كتب القوافي والعروض»، ولا أرى قوله هذا يشير إلى شيء من الشعر اليوم؛ إلا إلى قصيدة النثر، ولا يذهب ظن القارئ الكريم بأنني أخلط بين النثر وبين قصيدة النثر التي أتحدث عنها؛ إنما تلك الإشارة التي عنيتها لخلو قصيدة النثر من معايب النظم وقيوده، وكلام التوحيدي هنا، إنما هو في المفاضلة بين المنثور والمنظوم. فإن ظهر نوع جديد من الشعر جمع بين ما امتاز به الشعر والنثر؛ فقد سقطت حجة القائلين بأن النثر أفضل من الشعر كما أورد تلك الحجج التوحيدي في كتابه. على أن قوله الآنف، لا يشبه الكلام المنثور اليوم، لما أمست عليه الحال من ضعف في اللغة عند الأدباء والشعراء على السواء، ولست بمعزل عن هذا الاتهام بل أنا واقع فيه، فأنا ابن العصر الذي أعيش فيه.
ومن الغريب بمكان، أن يكون يكون النقاد والمحكمون اليوم، يقبلون قصيدة التفعيلة ويحقِّرون شأن قصيدة النثر، وذلك لادعائهم بأن قصيدة النثر نوع جديد غير معترف به، ومن يسمع هذا القول سيظن بأن قصيدة التفعيلة لم يجئ بها إلا علقمة الفحل أو عبيد بن الأبرص، ولم يتغن بها الشعراء إلا في سوق عكاظ وبين يدي النعمان بن المنذر، ثم إن الادعاء وتعميم القول بأن قصيدة النثر وقائلوها ليسوا سوى أناس لم يستطيعوا قول الموزون، فاكتفوا بالنثر الشعري، كلام باطل لا يعدو أن يكون قول امرئ لم يكلف نفسه عناء التقصي، أو أنه امرؤ لم يفقه قصيدة النثر ومراميها وشروطها فعاداها على عادة الإنسان المعادي لما يجهله.
ومن الغريب كذلك، بأن درويش الذي يعده مناصرو قصيدة التفعيلة رأس الشعراء، لم يكن يعادي قصيدة النثر؛ بل إن له رأيا قاله غير ما مرة يُعلي شأن قصيدة النثر أمام أغلال العروض.
ويذهب طائفة من الشعراء أنفسهم، إلى أن الذي يكتب قصيدة النثر شاعر لا يمت إلى الشعرية بصلة، وذلك حسب رأيهم لأنه لم يستطع أن يكتب الشعر المقفى أو قصيدة التفعيلة؛ وهذه حماقة لا حماقة فوقها، لأن أكثر من يكتب قصيدة النثر مروا على تجارب صادقة أظهرت براعتهم الشعرية في كتابة المقفى والتفعيلة على السواء، ثم رأوا أن قصيدة النثر تمنحهم مساحة لا تمنحها لهم المقفاة والتفعيلة، فاختاروا كتابة قصيدة النثر على الأخريين، ثم إن الشعرية هي المدار والمحتكم، لا القالب الذي يقولب فيه الشعر. فالشعر هو الشعر مهما اختلفت أثوابه، وأنواع الشعر ليست سوى أثواب متنوعة؛ يختلف لونها وتصميمها، ولكن جوهرها واحد وهو ستر البدن.
نقف اليوم بعد تسعة قرون، متأملين حال العرب العجائبي الذي يكرر نفسه؛ فبعدما كانت الفلسفة ضحية من ضحايا الغزالي الذي شكّل الواجهة الإعلامية للسلاجقة، وما تبع ذلك الرأي النابع من جهله المركب بحقيقة الفلسفة من آثار لم يمحها كتاب ابن رشد «تهافت التهافت» ولا محتها الفتوحات المعرفية العقلية التي تلت أفول شمس الغزالي، حتى صارت الفلسفة تهمة وجريمة تقرن بالكفر والزندقة. هكذا يعيد التاريخ نفسه مع جمال عبدالناصر وذراعه الإعلامية التي تنقبت بالقومية وعادت كل ما لا يمكن استعماله بوقًا للدعوة القومية، فهيَّج مثقفي سلطته على من يكتب الشعر الحديث، وتبعهم في ذلك محبوه ومناصروه، فصارت قصيدة النثر اليوم مقرونة بتهمة الضعف اللغوي والانحلال الأخلاقي الديني؛ وهي اتهامات باطلة لا تعدو أن تكون ضربا من الفجور في الخصام.
الحديث ذو شجون، ولم يدعني إلى كتابة هذا المقال سوى المهازل التي تحدث في المسابقات الشعرية من إجحاف وجرائم لن يغفرها التاريخ في حق قصيدة النثر، وهذا عائد إما لأن لجنة الفرز في المسابقات الشعرية غير ضليعة بالشعر، أو لجهل المحكمين فيها بحقيقة قصيدة النثر؛ فهل سنرى تقدما في قادم المسابقات؟ أم سنكتفي بمحاكمة القالب الشعري دون مضمونه؟ على أن المسابقات لا تمثل نقدا لتجربة الشاعر بقدر ما تظهر مكانة الناقد، ولا يؤخذ قولي على أنه معاداة للشعر المقفى أو التفعيلة، فأنا أقول الشعر بقوالبه جميعها، ولكنه موقف لا أقوى على تجاهله وأنا أقف أمام مقصلة التاريخ.
ظل الشعر العربي مرتبطا بالوزن والقافية لقرون خلت، حتى جاءت حركة التجديد مطلع القرن المنصرم مع ثُلَّة من الشعراء الذين رأوا بأن الشعر أصبح محاصرا بالوزن والقافية، فغلب عليه التكلف، وبدت القصائد كأنها كلمات متفرقة لا يجمع بينها سوى النَّغَم العروضي؛ فابتدعوا شعر التفعيلة.
وبعد برهة قصيرة من الزمن، بدا شعر التفعيلة كسابقه؛ أي الشعر المقفّى، فصار التكرار فيه ممجوجا وذلك للضرورة الشعرية وكي يتفق مع القواعد التي وضعوها لهذا النوع من الشعر، فرجع بعض الشعراء الذين كانوا يحملون لواء التجديد عن رأيهم بعدما رأوا أن شعر التفعيلة أضحى كسابقه، فظهر فيه التكلف، واقتحمه من يجيد الشعر ومن لا يجيده، فلم يؤد غرضه الموضوع لأجله، وهو تحرير الشاعر من ربقة الوزن والقافية التي تضطره اضطرارًا لأن يقول ما لا يريد، ويضيف ما يحسن حذفه، كل هذا لأجل أن يلتزم بالقيد العروضي.
لم تمض سنوات كثيرة، حتى ظهر نوع جديد من الشعر، وترافق ظهوره مع أوضاع سياسية مضطربة أشعلت الوطن العربي كله، ومع دعوة قومية مزيفة لم تكن في حقيقتها سوى قناع آخر من الأقنعة السياسية المتلونة التي تبدل جلودها، ويبقى جوهرها الديكتاتوري متأججا؛ وأطلق على هذا النوع الجديد من الشعر اسم قصيدة النثر.
ولد هذا النوع الجديد بأغلال في رقبته، فكيف نقول للشعر بأنه نثر؟، هنا بدأت شرارة المعركة ليصبح مضمارها الأسماء لا الحرارة الشعرية، وحيث إن قصيدة النثر متحررة من قيود الوزن والقافية، ابتليت هي الأخرى بأناس تسوَّروها فحشوها بالغث، حتى غطى السمين. وككل معركة؛ قام الفريقان المناصران للشعر المقفى والتفعيلة بمحاربة الوافد الجديد إلى الساحة.
يتناسى كثير من المثقفين فضلًا عن عموم الناس، بأن الغرض الشعري -قبل أن ينحو منحى التسول بالمدائح التي غطت أغراضه الأخرى- هو قول ما يختلج في النفس من مشاعر في قالب أدبي ذكره التوحيدي في إمتاعه، في باب الحديث عن «بلاغة الشعر -وذلك- بأن يكون نحوه مقبولا، والمعنى من كل ناحية مكشوفا، واللفظ من الغريب بريئا، والكناية لطيفة، والتصريح احتجاجا، والمؤاخاة موجودة، والمواءمة ظاهرة». فإذا اشتملت قصيدة النثر على هذه الشروط التي ذكرها التوحيدي، فما المانع من قبولها؟. ثم إنه يضيف فيقول «ومن شرف النثر أيضا أنه مبرأ من التكلف، منزه عن الضرورة، غني عن الاعتذار والافتقار، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرير، وما هو أكثر من هذا مما هو مدون في كتب القوافي والعروض»، ولا أرى قوله هذا يشير إلى شيء من الشعر اليوم؛ إلا إلى قصيدة النثر، ولا يذهب ظن القارئ الكريم بأنني أخلط بين النثر وبين قصيدة النثر التي أتحدث عنها؛ إنما تلك الإشارة التي عنيتها لخلو قصيدة النثر من معايب النظم وقيوده، وكلام التوحيدي هنا، إنما هو في المفاضلة بين المنثور والمنظوم. فإن ظهر نوع جديد من الشعر جمع بين ما امتاز به الشعر والنثر؛ فقد سقطت حجة القائلين بأن النثر أفضل من الشعر كما أورد تلك الحجج التوحيدي في كتابه. على أن قوله الآنف، لا يشبه الكلام المنثور اليوم، لما أمست عليه الحال من ضعف في اللغة عند الأدباء والشعراء على السواء، ولست بمعزل عن هذا الاتهام بل أنا واقع فيه، فأنا ابن العصر الذي أعيش فيه.
ومن الغريب بمكان، أن يكون يكون النقاد والمحكمون اليوم، يقبلون قصيدة التفعيلة ويحقِّرون شأن قصيدة النثر، وذلك لادعائهم بأن قصيدة النثر نوع جديد غير معترف به، ومن يسمع هذا القول سيظن بأن قصيدة التفعيلة لم يجئ بها إلا علقمة الفحل أو عبيد بن الأبرص، ولم يتغن بها الشعراء إلا في سوق عكاظ وبين يدي النعمان بن المنذر، ثم إن الادعاء وتعميم القول بأن قصيدة النثر وقائلوها ليسوا سوى أناس لم يستطيعوا قول الموزون، فاكتفوا بالنثر الشعري، كلام باطل لا يعدو أن يكون قول امرئ لم يكلف نفسه عناء التقصي، أو أنه امرؤ لم يفقه قصيدة النثر ومراميها وشروطها فعاداها على عادة الإنسان المعادي لما يجهله.
ومن الغريب كذلك، بأن درويش الذي يعده مناصرو قصيدة التفعيلة رأس الشعراء، لم يكن يعادي قصيدة النثر؛ بل إن له رأيا قاله غير ما مرة يُعلي شأن قصيدة النثر أمام أغلال العروض.
ويذهب طائفة من الشعراء أنفسهم، إلى أن الذي يكتب قصيدة النثر شاعر لا يمت إلى الشعرية بصلة، وذلك حسب رأيهم لأنه لم يستطع أن يكتب الشعر المقفى أو قصيدة التفعيلة؛ وهذه حماقة لا حماقة فوقها، لأن أكثر من يكتب قصيدة النثر مروا على تجارب صادقة أظهرت براعتهم الشعرية في كتابة المقفى والتفعيلة على السواء، ثم رأوا أن قصيدة النثر تمنحهم مساحة لا تمنحها لهم المقفاة والتفعيلة، فاختاروا كتابة قصيدة النثر على الأخريين، ثم إن الشعرية هي المدار والمحتكم، لا القالب الذي يقولب فيه الشعر. فالشعر هو الشعر مهما اختلفت أثوابه، وأنواع الشعر ليست سوى أثواب متنوعة؛ يختلف لونها وتصميمها، ولكن جوهرها واحد وهو ستر البدن.
نقف اليوم بعد تسعة قرون، متأملين حال العرب العجائبي الذي يكرر نفسه؛ فبعدما كانت الفلسفة ضحية من ضحايا الغزالي الذي شكّل الواجهة الإعلامية للسلاجقة، وما تبع ذلك الرأي النابع من جهله المركب بحقيقة الفلسفة من آثار لم يمحها كتاب ابن رشد «تهافت التهافت» ولا محتها الفتوحات المعرفية العقلية التي تلت أفول شمس الغزالي، حتى صارت الفلسفة تهمة وجريمة تقرن بالكفر والزندقة. هكذا يعيد التاريخ نفسه مع جمال عبدالناصر وذراعه الإعلامية التي تنقبت بالقومية وعادت كل ما لا يمكن استعماله بوقًا للدعوة القومية، فهيَّج مثقفي سلطته على من يكتب الشعر الحديث، وتبعهم في ذلك محبوه ومناصروه، فصارت قصيدة النثر اليوم مقرونة بتهمة الضعف اللغوي والانحلال الأخلاقي الديني؛ وهي اتهامات باطلة لا تعدو أن تكون ضربا من الفجور في الخصام.
الحديث ذو شجون، ولم يدعني إلى كتابة هذا المقال سوى المهازل التي تحدث في المسابقات الشعرية من إجحاف وجرائم لن يغفرها التاريخ في حق قصيدة النثر، وهذا عائد إما لأن لجنة الفرز في المسابقات الشعرية غير ضليعة بالشعر، أو لجهل المحكمين فيها بحقيقة قصيدة النثر؛ فهل سنرى تقدما في قادم المسابقات؟ أم سنكتفي بمحاكمة القالب الشعري دون مضمونه؟ على أن المسابقات لا تمثل نقدا لتجربة الشاعر بقدر ما تظهر مكانة الناقد، ولا يؤخذ قولي على أنه معاداة للشعر المقفى أو التفعيلة، فأنا أقول الشعر بقوالبه جميعها، ولكنه موقف لا أقوى على تجاهله وأنا أقف أمام مقصلة التاريخ.