جاءت الأديان ومنها الإسلام لإشباع الجانب الرّوحيّ المتمثل في هداية الإنسان وعلاقته بربه ثمّ الآخر والوجود من خلال ذاته، وتركت مجال الكشف والبحث والسّير لهذا الإنسان، ونجد هذا واضحا في القرآن الكريم: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) العنكبوت: 20، ولهذا جاء الخطاب متناسقا والحالة المعرفيّة الّتي نزل فيها النّصّ كما يقول الشّاطبيّ (ت 790هـ): وذلك «لأنّ الشّريعة الإسلاميّة شريعة أميّة؛ لأنّ الله بعث بها رسولا أميّا إلى قوم أميين كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ).... فيلزم أن تكون الشّريعة في معهودهم ومستواهم»، ولهذا ظلّ الإنسان متسائلا منذ اللّحظة الأولى من وجوده عن الوجود وموجده، ومتى بدأ خلق الإنسان، وعلاقته بالموجودات الأخرى، وماذا عن مصيره والعالم الآخر، ثمّ حاول البحث عن سنن الحياة وكشفها ومحاكاتها، فتطوّرت حياته، ونمت معارفه، فمنها ما كان خيالا وتخيّلا متحوّلا إلى أسطورة، تدور حولها العديد من الخرافات، ومنها لم تتجاوز الفرضيّات، وبعضها وصلت إلى حقائق علميّة، والأغلب ما زال مجهولا حتّى اليوم، (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء: 85)، كما دخلت هذه المعارف بتخيلاتها إلى فلسفته القديمة الكامنة في دينه وطقوسه، وفي أدبياته التّراثيّة أيضًا.

ومن هذه الأدبيات جدليّة نظريّة التّطوّر الدّاروينيّة حيث أخذت حيّزًا كبيرًا في الجدليات الإسلاميّة في العقود الأخيرة؛ لأنّ بعضهم أخرجها من جدليّة الحوار والمعرفة والبحث، إلى الاتّهام بالإلحاد والكفر والرّدة، مع أنّ فكرة التّطوّر في بدائيتها لم تكن وليدة الفلسفة العلميّة المعاصرة كما عند تشارلز داروين (ت 1882م)، بل قديمة، فقد كانت الفكرة حاضرة منذ القدم، ويرجع معمّر التّوبيّ في كتابه: «هكذا نتطوّر: فلسفة التّطوّر في عالم الإنسان والأفكار والأشياء» بدايات فكرة تطوّر الخلق فلسفيّا إلى المدوّنات الأولى «مع أفكار الفيلسوف اليونانيّ الأول طاليس (ت 546 ق م) عندما ناقش أصل الحياة في قوله إنّ الماء هو الأصل في نشأة الكائنات الحيّة، وأنّه الجوهر الرّئيس الّذي تكوّنت منه كلّ الأحياء».

ويرى رشيد الخيّون في كتابه «آراء إخوان الصّفا وخلان الوفا: إعجاب وعجب» أنّ فكرة التّطوّر في ناحيتها الفلسفيّة الأولى حاضرة في التّراث الإسلاميّ، خصوصا عند الفلاسفة، فهي حاضرة مثلا عند أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ) من حيث «إيماؤه إلى قرب عالم البشر من عوالم الحيوان الآخر، وتمايز الكائنات عن بعضها البعض.. وبعض فصائل القردة فهي تشبه الإنسان بالضّحك والطّرب والقصّ والمحاكاة، ويتناول الطّعام بيده»، كذلك «يفهم من رسائل إخوان الصّفا فيما يخصّ عالم الحيوان أنّ القرد هو الأساس في تكوين جسم الإنسان؛ لأنّه المعنى في التّشكيل الطّبيعيّ قبل الأمور النّفسانيّة الأخر، قال الإخوان «أي إخوان الصّفا: أمّا القرد لقرب شكل جسده جسد الإنسان؛ صارت نفسه تحاكي أفعال النّفس الإنسانيّة، كما ذلك مشاهد منه متعارف بين النّاس»، ويرى محمّد الوطواط (ت 718هـ) أنّ القرد مركب من إنسان وبهيمة، وهو تدرج الطّبيعة من البهيمة إلى الإنسان بصورته وفعاله جميعا، وله أضراس كأضراسه، وثنايا عليا كما له، ويثني يديه ورجليه كالإنسان، وللقردة فرج مثل فرج المرأة»، ويقول ابن خلدون (ت 808هـ): «ثمّ انظر إلى عالم التّكوين، كيف ابتدأ من المعادن، ثمّ النّبات، ثمّ الحيوان على هيئة بديعة من التّنوّع»، «واتّسع عالم الحيوان، وتعدّدت أنواعه، وانتهى في تدرج التّكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والرّوية، ترتفع إليه من عالم القردة، الّذي اجتمع فيه الحسّ والإدراك، ولم ينته إلى الرّويّة والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق الإنسان، وهذا غاية شهودنا»، وبمثل كلام إخوان الصّفا ينقل معمّر التّوبيّ عن ابن مسكويه (ت 421هـ)، حيث التّطوّر ملازم للإنسان في الأحوال والأدب والأخلاق من الحيوان فالإنسان وما علا، وهكذا الأمر أيضا عند الفارابيّ «ويذهب الفارابيّ على هذا التّرتيب في التّفرقة بين الإنسان والإنسان بمقدار حظّه من القوّة النّاطقة، فيجيز أن يكون بعض أشباه الآدميين بالصّورة الجسديّة غير محاسبين، أو غير أهل للحياة الأخرى».

هذه الرّؤى المتقدّمة مع بساطتها إلا أنّها -كما يرى الخيّون «لم تثر حفيظة الفقهاء والخطباء فكرة قرب القرد من الإنسان، والقول بارتقاء الإنسان منه، رغم تكرارها في كتب الجاحظ وإخوان الصّفا، وبعدهم الوطواط وابن خلدون، الّتي تبدو واضحة ومثيرة عنده؛ مثلما أثارت نظريّة تشارلز داروين الكنيسة ضدّها»، مع أنّ داروين لم يقل إن أصل الإنسان قرد، ولكنّها جميعا نباتات أم حيوانات تنحدر من كائن قديم بدائي لها قواسم مشتركة، لهذا «الصّدام والصّراع الدّينيّ ضدّ هذه النّظريّة بداية من رفض الكنيسة الكاثولوكيّة لفكرة داروين في التّطوّر وأصل الأنواع، لما تحويه من أسس تناقض ما جاء في العهد القديم من الكتاب المقدّس»، «وينقل أنّ الدّولة العثمانيّة خاطبت المرجعيّة الدّينيّة بالنّجف في العقد الأول من القرن الماضي في الموافقة في إدخال كتاب داروين أصل الأنواع، بعد أن أنجز ترجمته شبلي شميل (ت 1917م) فعدّ مراجع الدّين اجتماعا، وأفتوا فيه بجواز إدخال الكتاب إلى العراق، على أن يردّوا عليه، وبعد حين ردّ عليه الشّيخ رضا الأصبهانيّ محمّد جواد البلاغيّ» (ت 1325هـ/ 1933م) ولهذا يميل الخيّون أنّ السّبب الأول في اعتراض الفقهاء المسلمين ابتداء من العراق كان سياسيّا، ويعلّل ذلك «أنّ معاداة نظريّة داروين من قبل الخطباء العراقيين على وجه الخصوص لم تكن لسبب دينيّ فحسب.... لقد دخل شيء كثير في مواجهة نظريّة أصل الأنواع من السّياسة، وما لا يباح منها، فقد انتشرت الأفكار الماركسيّة كثيرا بين العراقيين»، فالصّراع ضدّ النظريّة استثمر سياسيّا ضدّ الماركسيّة من حيث الابتداء.

على أنّ نظريّة التّطوّر تطوّرت بشكل كبير عند داروين، ثمّ عند الدّاروينيين الجدد، ودخلت في مجالات علميّة متعدّدة ومعقّدة أيضا، ولم تنحصر في أبجدياتها الأولى، ولها في الوقت نفسه العديد من المعارضة علميّا في بعض جزئياتها، وهذه حالة طبيعيّة، لا علاقة هذا بدين أو إلحاد أو كفر، ولا علاقة له بأصل الخلق من حيث آدم عليه السّلام-، وكما أسلفنا القرآن ذاته يحث على السّير في الأرض وكسب المعرفة، لا أن يعوق ذلك، يقول جيورجيو كونستانس معاصر): «لا يجد المرء في أيّ من الكتب السّماويّة اهتماما بالمعرفة كما يجده في القرآن، ولا يمكن أن يعادل مفهوم المعرفة والعلم في الدّين الإسلاميّ ما في أيّ دين آخر».

فعلينا أن نبتعد في ربط البحث العلميّ بالكفر أو الإلحاد، الّذي تولد عنه الإقصاء، وبالتّالي النّتيجة تصوّر أنّ الأديان تعوق العقل من البحث أو النّظر أو السّير في الأرض، وإذا ما ربطت بالسّياسة تتحوّل إلى سلطة قامعة، فيتصوّر الجيل أنّ الدّين ضدّ رقي الإنسان، وأنّه طريق التّخلّف والماضويّة، وما سيحدث من إساءة إلى الدّين سيحدث ذاته مع نظرتهم للإله، ولهذا يرى محمّد المراغيّ (ت 1945م) أنّ «النّظريات الّتي لم تستقر لا يصح أن يردّ إليها كتاب الله»، أي نترك للعقل أن يأخذ مجراه الكشفيّ، كما تقوم الأديان بدورها في هداية الإنسان، وكلاهما يعزّز الآخر، حتّى لا نحدث تناقضا وهميّا له أسبابه التّأريخيّة والظّرفيّة والإسقاطات السّلبيّة.