ما قرأت لعَلَمٍ كبير في اللغة والأدب ، إلا وجدت في سيرته أنه كان مواظبا على زيارة المكتبات الوطنية، بل ونجده يقارن بين مكتبة قريته ومدينته الأم، والمكتبات الأخرى التي زارها في مرحلة متأخرة من حياته، وكيف أسهمت كل مكتبة من هذه المكتبات في تكوينه الثقافي والمعرفي والأدبي، حتى صار هو مكتبة متنقلة تنفع الناس وتثري معارفهم ومخيلاتهم على السواء. والأمثلة على ذلك كثيرة، فلا يُكر الجاحظ إلا والمكتبة مقرونة باسمه، ولا يُذكر بورخيس إلا والمكتبة الوطنية في بوينس آيرس متبوعة باسمه.

ظللت أتردد على مكتبة النادي الثقافي بالقرم ردحا من الزمن، وكنت مأخوذا بما فيها من نوادر الكتب وقديمها؛ حتى أنني اطلعت على كثير من الكتب التي لم يعد لدار النشر التي قامت بطباعتها ونشرها أي أثر في الوجود، وكنت أقضي الساعات فيها بين فرحة الوقوع على هذه النوادر، وحسرة خُلوِّ المكتبة من أمهات الكتب. ظلت المكتبة بلا أمين لها يرتبها ويرعى شؤونها لسنوات طوال، وقبل مدة التقيت برجل شغوف عُيِّن أمينا للمكتبة، وفي رأيي أن تعيين الشغوفين بالمعرفة في المكتبات الثقافية أنفع وأجدى، وتعيين أصحاب تخصص المكتبات وعلومها في المكتبات العلمية فحسب كمكتبة جامعة السلطان قابوس. وذلك لسببين؛ لأن مكتبة النادي الثقافي مقارنة بمكتبة الجامعة من حيث الحجم وعدد الكتب والزوار لا تعدل شيئا، ولأن مكتبة الجامعة تعد رافدا للبحوث والدراسات التي يقوم بها الدارسون في الجامعة أو من طلبة الدراسات العليا في المؤسسات التعليمية الأخرى. ولأن المكتبة تقع في الحرم الجامعي؛ فلها خصوصيتها من حيث أوقات العمل وسهولة الدخول والخروج من وإلى الحرم الجامعي، واقتصار ساعات وقت العمل فيها من السابعة والنصف صباحا حتى الثانية والنصف ظهرا من الأحد إلى الخميس وإغلاقها يومي الجمعة والسبت؛ وهذه الأوقات هي أوقات عمل كل الموظفين في المؤسسات الحكومية والخاصة، وبالتالي لا يمكنهم زيارة المكتبة إلا في إجازاتهم السنوية أو في حال التفريغ للدراسة.

ومما دعاني إلى كتابة المقال، أنني اشتغلت بكتابة سلسلة أسميتها "البطاريق الكبار" وهي عن الأدباء واللغويين الذين فقدوا البصر ونشرت أجزاء منها في جريدة عمان، وفي خضم البحث والكتابة؛ واجهتني صعوبة شديدة من حيث المراجع التي يمكن الرجوع إليها للتثبت من المعلومات وضبطها ضبطا علميا. خصوصا أن سِيَر هؤلاء الأعلام مبثوثة في كتب التراجم القديمة، وهذه الكتب موسوعات كاملة تتجاوز أجزاؤها الثلاثين جزءا في بعض الموسوعات؛ ككتاب سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي الذي ترجم لستة آلاف وثمانمائة وستين عَلَما، وبعضها تتكون من أجزاء أقل. وفي العموم، فإن هذه الموسوعات المرجعية ينبغي أن تكون في كل مكتبة عامة.

وللأسباب التي ذكرتها، أرى أن مكتبة النادي الثقافي يمكن لها أن تتصدى لإشكالات عدة؛ فمع صغر حجمها يمكن أن تكون مخصصة للأدب وكتبه، أعني عيون الأدب العربي والأجنبي. كما يمكن لها أن تعود قِبلة للمثقفين كما كانت، وذلك لأنها تفتح أبوابها لمريدي المعرفة في فترتين صباحية ومسائية، مع التخلص من الكتب التالفة واستبدالها بكتب جديدة ورفدها بمصادر مرجعية ذات أهمية لكل زمان ولكل قُطر من الأقطار الناطقة بالعربية. وفي ظني أن تجديد المكتبة ورفدها بمصادر مرجعية لا يتطلب أكثر من ستة إلى سبعة آلاف ريال عماني، وهو مبلغ معقول في متناول الشركات الكبرى ضمن المسؤولية الاجتماعية. أما إن كان التجديد يتجاوز الكتب إلى الحواسيب والأنظمة الحديثة، والطابعات الرقمية الحديثة المخصصة للمكتبات؛ فهو مبلغ ليس بالكبير.

ومما يحز في النفس، أن تكون لعمان حضارة ضاربة في القِدَم، ومعدودة في الطليعة بمخزونها وتراثها المعرفي، ولا يكون لنا مكتبة مرجعية تفتح أبوابها على مدار الساعة. وقد اطلعت على تجارب سابقة لمثقفين كبار كانوا يعملون على إنشاء مكتبة بناء على توجيهات سامية من المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ في تسعينيات القرن المنصرم، ثم تعرض المشروع لعرقلات عدة لم ير بسببها النور، ولا يوجد في عمان مكان جدير بأن تكون فيه مكتبة شاملة كمسقط، وذلك لتركز السكان فيها كونها عاصمة هذا البلد المعطاء. ولا يخفى على أحد دور المكتبات في النهوض بالأمة وتقدمها، فليس من داع للإطناب في الحديث عن هذا الدور. ولكن المرء يأمل أن تنكشف دجى الظلمات عن نور جديد يحمل عمان على بساط معرفي يحلق بها في الآفاق. ومتى سنحت الفرصة لتجديد مكتبة النادي الثقافي، أو لإنشاء مكتبة جديدة، فإنني وبكل سرور وشغف سأمد يد العون بما استطعت لتكون المكتبة معلما بارزا يزيد اسم عُمان رفعة ومكانة.