كل الناس يرغبون فقط في أن يحرروا أنفسهم من الموت،
وهم لا يعرفون كيف يحرروا أنفسهم من الحياة.
هذا قول الشاعر والفيلسوف الصيني القديم لاو-تسي Lao-tse، وهو قول قد وضعه شوبنهاور في صدر الفصل الطويل الذي يتناول فيه مشكلة الموت في المجلد الثاني من كتابه الخالد «العالم إرادةً وتمثُّلًا». ذلك أن شوبنهاور يرى أن سبب الخوف من الموت هو التشبث بإرادة الحياة، أي بالرغبة المحمومة العمياء في تأكيد وجودنا والحفاظ على حياتنا في مواجهة العالم والآخرين، في حين أن هذه الرغبة نفسها هي سبب الشقاء والمعاناة، ومن ثم فإن التحرر من الخوف من الموت لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التحرر من إرادة الحياة والتشبث المحموم برغبات الحياة التي لا تنتهي: فالحياة ذاتها -حينما نفهم حقيقتها- ليست سوى حالة من الشقاء الذي لا ينتهي إلا بالموت، ولهذا قد وضع قدماء اليونان على شواهد قبورهم عبارة: «إلى الراحة والنعيم الأبدي»، ولهذا أيضًا قال الشاعر زهير ابن أبي سلمى: «سئمتُ تكاليف الحياة ومن يَعش... ثمانين حولًا لا أبا لك يسأمِ». ولذلك فإننا إذا ما قرعنا أبواب القبور وسألنا الموتى إذا ما كانوا يودون أن يُبعثوا مرة أخرى فإنهم سوف يهزون رؤوسهم بإيماءة الرفض، وهذا هو أيضًا رأي سقراط كما نجده في محاورة «الدفاع» لأفلاطون. أما أبيقور فقد رأى أن التحرر من الخوف من الموت يكمن في التحرر من النظر إلى الموت باعتباره شرًا، إذ ذهب إلى القول بأننا ما دمنا موجودين، فالموت لا يُوجَد، وعندما يُوجَد الموت، لا نكون موجودين. وعلى هذا، فإن فقدان ما لا يُوجَد لا يعد شرًا على الإطلاق. وربما يكون رأي أبيقور صحيحًا على المستوى النظري المحض، أما على المستوى الواقعي في الحياة المعيشة، فإني أراه مجرد سفسطة.
***
والواقع أن الخوف من الموت -فيما يرى شوبنهاور- يكون مستقلًا عن أية معرفة؛ لأن الحيوان يكون لديه هذا الخوف رغم أنه لا يعرف الموت، وكل ما يُولَد يجلب هذا الخوف معه إلى العالم. الشر الأعظم، وأسوأ تهديد يمكن أن يُواجه المرء، هو الموت: فالخوف الأكبر هو الخوف من الموت، والقلق الأعظم هو قلق الموت. يشترك الحيوان مع الإنسان في الخوف من الموت، لكن الحيوانات تعيش من دون أي معرفة بحقيقة الموت؛ ولذلك فإنها لا تعرف «قلق الموت» الذي يعانيه الإنسان والذي يكون مرتبطًا بالمعرفة، فمع العقل ظهر لدى الإنسان ذلك اليقين المرعب بالموت. الحيوان لا يعيش خبرة الموت إلا في اللحظة التي يهدده فيها الموت، أما الإنسان فإنه يعي خبرة الموت باعتباره جزءًا أصيلًا من وجوده. يزداد هذا الوعي كلما تقدم الإنسان في العمر، بينما يكون خافتًا لدى كثير من الشباب، ولهذا يشعر أكثر الشباب بالمرح والحيوية في غفلة عن حقيقة الموت، ويرجع ذلك إلى الإنسان عندما يصعد تل الحياة لا يكون الموت مرئيًّا، إذ يكون راقدًا أسفل السفح الآخر من التل، وعندما يصل المرء إلى قمة تل الحياة ويبدأ في النزول شيئًا فشيئًا، يتبدى له الموت بوضوح باعتباره ماهية وجوده، فالموت آت لا محال حتى إن أبطأ أو تأخر. الوعي بيقين الموت هو وعي بأن الموت يشكل ماهية الإنسان نفسه باعتباره وجودًا متناهيًا. ولذلك يصف هيدجر الوجود الإنساني بأنه «وجود من أجل الموت»، أي وجود متجه باستمرار نحو الموت: فلو أننا تخيلنا حياة الموجود البشري باعتبارها خطًا زمانيًّا يبدأ منذ الميلاد، فإننا لا نستطيع أن نحدد أين يقع الموت على هذا الخط، لأنه يمكن أن يقع عند أي نقطة منه، ولذلك يظل الموت إمكانية دائمة، وهذا سر الوعي بالتناهي، ومن ثم الوعي بالقلق الوجودي الذي تحدثت عنه في مقالي السابق. ولهذا أيضًا فإن قلق الموت هو شيء أكثر عمقًا من مجرد الخوف من الموت.
***
ولكننا يمكن أن نجد في الأديان والمذاهب الميتافيزيقية رؤية تنطوي على نوع من العزاء والسلوى، رؤية تُعين الإنسان على أن ينظر في وجه الموت بنظرة هادئة. ولهذا السبب نفسه، فإننا نقدِّر الشخص الذي يتحرر من الخوف من الموت، بالضبط لأنه يتحرر من التشبث بالحياة ذاتها؛ وبالتالي فإن المرء عندما يواجه الموت بشجاعة ورباطة جأش، فإن هذا يكون محل تقدير باعتباره أمرًا عظيمًا وساميًا، وعندئذ فإنا نمجد انتصار المعرفة على إرادة الحياة العمياء. ومن هنا يرى شوبنهاور أن هناك حالة من الهدوء والرصانة تنطبع على مُحيا معظم الأموات، وفي الغالب يكون موت الشخص الطيب موتًا في هدوء ولطف. المعرفة والفهم الواعي لحقيقة الموت تمكن من فهم حقيقة الوجود والحياة، ومن ثم فإننا نستسلم لتلك الحقيقة ونتقبلها في حالة من الهدوء النفسي. يقول المولى عز وجل: «إنك ميت وهم ميتون»، ويقول: «كل نفس ذائقة الموت»؛ وهذه الحقيقة لا تدل فحسب على زمن الحال، وإنما أيضًا على زمن الاستقبال. وبهذه الروح الإيمانية يمكن تقبُّل الموت.
وهم لا يعرفون كيف يحرروا أنفسهم من الحياة.
هذا قول الشاعر والفيلسوف الصيني القديم لاو-تسي Lao-tse، وهو قول قد وضعه شوبنهاور في صدر الفصل الطويل الذي يتناول فيه مشكلة الموت في المجلد الثاني من كتابه الخالد «العالم إرادةً وتمثُّلًا». ذلك أن شوبنهاور يرى أن سبب الخوف من الموت هو التشبث بإرادة الحياة، أي بالرغبة المحمومة العمياء في تأكيد وجودنا والحفاظ على حياتنا في مواجهة العالم والآخرين، في حين أن هذه الرغبة نفسها هي سبب الشقاء والمعاناة، ومن ثم فإن التحرر من الخوف من الموت لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التحرر من إرادة الحياة والتشبث المحموم برغبات الحياة التي لا تنتهي: فالحياة ذاتها -حينما نفهم حقيقتها- ليست سوى حالة من الشقاء الذي لا ينتهي إلا بالموت، ولهذا قد وضع قدماء اليونان على شواهد قبورهم عبارة: «إلى الراحة والنعيم الأبدي»، ولهذا أيضًا قال الشاعر زهير ابن أبي سلمى: «سئمتُ تكاليف الحياة ومن يَعش... ثمانين حولًا لا أبا لك يسأمِ». ولذلك فإننا إذا ما قرعنا أبواب القبور وسألنا الموتى إذا ما كانوا يودون أن يُبعثوا مرة أخرى فإنهم سوف يهزون رؤوسهم بإيماءة الرفض، وهذا هو أيضًا رأي سقراط كما نجده في محاورة «الدفاع» لأفلاطون. أما أبيقور فقد رأى أن التحرر من الخوف من الموت يكمن في التحرر من النظر إلى الموت باعتباره شرًا، إذ ذهب إلى القول بأننا ما دمنا موجودين، فالموت لا يُوجَد، وعندما يُوجَد الموت، لا نكون موجودين. وعلى هذا، فإن فقدان ما لا يُوجَد لا يعد شرًا على الإطلاق. وربما يكون رأي أبيقور صحيحًا على المستوى النظري المحض، أما على المستوى الواقعي في الحياة المعيشة، فإني أراه مجرد سفسطة.
***
والواقع أن الخوف من الموت -فيما يرى شوبنهاور- يكون مستقلًا عن أية معرفة؛ لأن الحيوان يكون لديه هذا الخوف رغم أنه لا يعرف الموت، وكل ما يُولَد يجلب هذا الخوف معه إلى العالم. الشر الأعظم، وأسوأ تهديد يمكن أن يُواجه المرء، هو الموت: فالخوف الأكبر هو الخوف من الموت، والقلق الأعظم هو قلق الموت. يشترك الحيوان مع الإنسان في الخوف من الموت، لكن الحيوانات تعيش من دون أي معرفة بحقيقة الموت؛ ولذلك فإنها لا تعرف «قلق الموت» الذي يعانيه الإنسان والذي يكون مرتبطًا بالمعرفة، فمع العقل ظهر لدى الإنسان ذلك اليقين المرعب بالموت. الحيوان لا يعيش خبرة الموت إلا في اللحظة التي يهدده فيها الموت، أما الإنسان فإنه يعي خبرة الموت باعتباره جزءًا أصيلًا من وجوده. يزداد هذا الوعي كلما تقدم الإنسان في العمر، بينما يكون خافتًا لدى كثير من الشباب، ولهذا يشعر أكثر الشباب بالمرح والحيوية في غفلة عن حقيقة الموت، ويرجع ذلك إلى الإنسان عندما يصعد تل الحياة لا يكون الموت مرئيًّا، إذ يكون راقدًا أسفل السفح الآخر من التل، وعندما يصل المرء إلى قمة تل الحياة ويبدأ في النزول شيئًا فشيئًا، يتبدى له الموت بوضوح باعتباره ماهية وجوده، فالموت آت لا محال حتى إن أبطأ أو تأخر. الوعي بيقين الموت هو وعي بأن الموت يشكل ماهية الإنسان نفسه باعتباره وجودًا متناهيًا. ولذلك يصف هيدجر الوجود الإنساني بأنه «وجود من أجل الموت»، أي وجود متجه باستمرار نحو الموت: فلو أننا تخيلنا حياة الموجود البشري باعتبارها خطًا زمانيًّا يبدأ منذ الميلاد، فإننا لا نستطيع أن نحدد أين يقع الموت على هذا الخط، لأنه يمكن أن يقع عند أي نقطة منه، ولذلك يظل الموت إمكانية دائمة، وهذا سر الوعي بالتناهي، ومن ثم الوعي بالقلق الوجودي الذي تحدثت عنه في مقالي السابق. ولهذا أيضًا فإن قلق الموت هو شيء أكثر عمقًا من مجرد الخوف من الموت.
***
ولكننا يمكن أن نجد في الأديان والمذاهب الميتافيزيقية رؤية تنطوي على نوع من العزاء والسلوى، رؤية تُعين الإنسان على أن ينظر في وجه الموت بنظرة هادئة. ولهذا السبب نفسه، فإننا نقدِّر الشخص الذي يتحرر من الخوف من الموت، بالضبط لأنه يتحرر من التشبث بالحياة ذاتها؛ وبالتالي فإن المرء عندما يواجه الموت بشجاعة ورباطة جأش، فإن هذا يكون محل تقدير باعتباره أمرًا عظيمًا وساميًا، وعندئذ فإنا نمجد انتصار المعرفة على إرادة الحياة العمياء. ومن هنا يرى شوبنهاور أن هناك حالة من الهدوء والرصانة تنطبع على مُحيا معظم الأموات، وفي الغالب يكون موت الشخص الطيب موتًا في هدوء ولطف. المعرفة والفهم الواعي لحقيقة الموت تمكن من فهم حقيقة الوجود والحياة، ومن ثم فإننا نستسلم لتلك الحقيقة ونتقبلها في حالة من الهدوء النفسي. يقول المولى عز وجل: «إنك ميت وهم ميتون»، ويقول: «كل نفس ذائقة الموت»؛ وهذه الحقيقة لا تدل فحسب على زمن الحال، وإنما أيضًا على زمن الاستقبال. وبهذه الروح الإيمانية يمكن تقبُّل الموت.