لنا في عُمان مؤخرا نموذجان رائعان: الأول «سداد ديون (1169) حالة من الحالات المستحقّة على بعض أصحاب المؤسّسات الصّغيرة والمتوسطة والأفراد، بمبلغ يصل إلى أكثر من مليوني ريال عمانيّ، وإلغاء أوامر الحبس الصّادرة بحقّهم، ورفع كافّة الحجوزات عنهم»، والثّاني «توفير المستلزمات المدرسيّة والتّغذية لطلبة المدارس الحكوميّة من أبناء أسر الضّمان الاجتماعيّ وذوي الدّخل المحدود».
هذا الاهتمام من مركزيّة الدّولة ذاتها، ومن قبل جلالة السّلطان -حفظه الله- ذاته، من حيث النّظر إلى تدوير المال في الشرّيحة الأفقيّة من المجتمع، هي الحالة الصّحيّة -في نظري- ضمن عشرات الحالات الإجرائيّة في تحقيق التّعافي الاقتصاديّ، بعد مرحلة الكساد وآثار جائحة كورونا وغيرها، وبطبيعة الحال لم يقتصر عند هذين النّموذجين، فهناك نماذج تصحيحيّة وتعزيزيّة عديدة، لكن ذكرتها كما يقال إنّها أقرب مذكور حتّى السّاعة.
بلا شك أنّ المجتمع الإنسانيّ اليوم يمر بحالة اقتصاديّة حرجة جدّا، من ارتفاع الأسعار، والتّضخم المالي، وآثار الصّراع الشّرقيّ الغربيّ المتمثل في الحرب الأوكرانيّة ونتائجها على النّفط والغاز، مع آثار الغلق والانهيار الاقتصاديّ بسبب جائحة كورونا، وبهذه الآثار المترتبة طبيعيّ أن تتضرّر بها جميع دول العالم، وعُمان ليس بمعزل عنها، خاصّة وقد تراكمت عليها الدّيون سابقا، ممّا زاد من معدلات الباحثين عن عمل، وقضايا المسرحين، وكثرة الغارمين والمحابيس بسبب الدّين، مع تدني الرّواتب، وضعف التّأمينات الاجتماعيّة، وفرض الضّريبة المضافة، وغيرها، ومع محاولات العلاج على مستوى الدّولة كمنفعة الأمان الوظيفيّ مثلا، إلا أنّ المسألة اقتصاديّا مع آثارها الاجتماعيّة لا زالت معقدّة بشكل كبير.
وبطبيعة الحال لستُ هنا محلّلا اقتصاديّا، أو خبيرا فيه، ولا أريد أن أظهر نفسي العالم في تفكيك ذلك، فمن تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب، ولكن من باب الحديث عن الأفق الاجتماعيّ الّذي نعايشه، ولإدراكي بعد سنوات عملتها في المساعدات الاجتماعيّة تجاوزت العقدين من الزّمن، ومن شخص يفكر خارج صندوق العمل الاقتصاديّ؛ أرى أكبر إشكالياتنا في العمل التّطوّعيّ غياب المركزيّة، والرّقابة الصّارمة في ذلك، ممّا ولد في العمل التّطوعيّ عشوائيّة التّوزيع، والفساد الماليّ ذاته، وعدم وجود رؤية واضحة في ذلك.
فعندنا في عُمان اليوم مثلا أموال الزّكوات والصّدقات والضّرائب، مع أموال الأوقاف المحبوسة عينها قديما وحديثا لخدمات اجتماعيّة ونفعيّة، وهي تساهم بشكل كبير في تدوير المال في الخطّ الأفقيّ من المجتمع، كما أخبر القرآن ذاته: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وقديما روي أنّ مملكة جوسون الكوريّة تضرّرت بسبب الارتشاء والفساد الحكوميّ وتعاونهم مع التّجار، فتجمّع الفقراء في الجبال، وقاموا بثورات، فأدرك المصلحون أنّ المال كلّما تمدد ودار في الطّبقات الفقيرة، سيؤدّي إلى نمو الاقتصاد، ويحقّق الأمن، ويقضي على الفقر، وهذا ما فعله عمر بن الخطاب [ت 23هـ] بعد عام الرّمادة أو المجاعة بعد حج سنة 18هـ، وما تبعه من طاعون عمواس، فقام عمر بتحقيق اشتراكيّة في دوران المال في الطّبقات السّفلى، والحث على عدم اكتنازه، مع مراجعة بعض الأدبيات كتوقيف حدّ السّرقة، لارتفاع العدل الماليّ في المجتمع، لأنّ الحدود لا تقام إلا بعد تحقّق العدل في ذلك، فهي غاية لتحقّق العدل، وليست غاية في ذاتها، ويماثله اليوم الحبس المدنيّ المترتب نتيجة أسباب خارجة عن إرادة الشّخص ذاته، خاصّة لما نتج من آثار كورونا وما بعده، فينبغي مراجعته من جديد، فلا هو يترك للباحث عن عمل يسدّ ديْنه، وقد يصعب في حالات عديدة سداد ديْنه من الدّولة أو المجتمع، لهذا الحبس ليس حلّا يعاقب عليه، لا لجرم ارتكبه، بل الوضع الاقتصاديّ العام قاده إلى ذلك.
إنّ أموال الزّكوات والصّدقات والوقف قد تساهم في تحقّق دوران المال أفقيّا، ولكنّها -في نظري- لم تستثمر إيجابيّا لعقود مضت، وابتعدت عن مركزيّة التّوزيع وفق آلية عمليّة واضحة من جهة، ورقابة صارمة من جهة ثانية، لعدم وجود هيئة مستقلة تماما، واقتصرت على كونها فرعا في وزارة معينة، والحلّ -في نظري- أن تكون مرتبطة بالمال العام أي وزارة الماليّة من حيث الابتداء، لها ثلاثة أجنحة رئيسة: الجناح الأول جناح الدّراسات الشّرعيّة والاقتصادية والتّنمويّة في آلية حسن تنميتها، وسعة تسبيلها {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التّوبة: 60]، والجناح الثّانيّ جناح الاستثمار من حيث وضع أصول لها تجرّ منفعة دائمة، وتعالج القصور بشكل إيجابي، وتسهم في توفير فرص عمل بذاتها، والجناح الثّالث جناح إخراجها عن طريق وزارة المالية في دعم المؤسّسات والوزارات ومؤسّسات العمل المدنيّ في القضاء على الفقر والبطالة وتوزيع المال والرّقيّ بالتّعليم والصّحة والخدمات العامّة، وهذا مثلا ما يحدث في الولايات المتحدّة الأمريكيّة من خلال مركزيّة الحكومة الفدراليّة ودعمها للجمعيّات بشكل منظّم في علاج قضيّة المشردين مثلا، ممّا ساهم بشكل إيجابيّ في الحدّ من القضيّة، وتوفير البديل من خلال العلاج.
ووجود مركزيّة يخفّف من حالات الفساد الماليّ من جهة، وسوء استثماره وتوزيعه من جهة ثانية، كما أنّه أيضا لا يعني إلغاء الشّراك المجتمعيّ من خلال الجمعيّات الخيريّة، بل هي تدعم هذه الجمعيّات من جهة، لما تحقّقه من شراك مهم في تخصّصها في علاج القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة، كعلاج قضايا التّسوّل والغارمين وتعليم الدّخل المحدود وعلاجهم، وتعليم الصّم والعمي ونحوهم، كما تُعطى مساحة واسعة من الصّدقات بشيء منظم ومشترك وواضح، بعيدا عن الاستغلال الماليّ باسم الصّدقات أو الأعمال الخيريّة، على أن تكون المركزيّة واضحة، خصوصا في دولة كعمان عدد سكانها ليس بالكثير، ويمكن دراسة الخطّ الأفقي للمجتمع بكل سهولة ويسر، كما يسهل تحقّق الشّراك الاجتماعي أيضا، بسبب الوضع الاقتصادي العام من حيث دخل الأفراد، ومن حيث الانفتاح الاستثماري والاقتصادي والتّجاري لأسباب جغرافيّة، أو أمنيّة استقراريّة، أو نفطيّة ومعدنيّة، ساهم في تحقّق التّوازن في المجتمع، وهذا يسهم في تحقّق الشّراك الاجتماعيّ بشكل كبير أيضا.
ومن الإشكالات اليوم المتعلّقة بهذا والّتي تحتاج إلى مراجعة بحثيّة أيضا قضيّة الجمع بين الزّكاة والضّريبة، فيرى بعض الباحثين الاجتماعيين أنّ الزّكاة اليوم لم تعد تحقّق ذاك الجدوى الّذي كانت تحقّقه بالأمس، خصوصا مع وجود فلسفة «الضّريبة» ودورها في رفد المال العام، ولهذا ظهرت قضيّة الضّريبة في أبحاث الزّكاة من جهة هل تقوم مقام الزّكاة، فلا عبرة بالألفاظ وإنّما بالغاية والمعاني، فأصبحت الضّريبة مطلقة لها اعتباران: اقتصاديّ وتشاركيّ، أمّا الاقتصاديّ فلرفد المال العام في تحقّق خدمات أمنيّة وتعليميّة وصحيّة ونحوها، وأمّا التّشاركيّ فيدخل في العقد الاجتماعيّ، أي يصبح كلّ فرد بذاته له الحقّ في الشّراك في الدّولة، من حيث حرّيّاته الشّخصيّة، وتعليمه وصحته وأمنه، ومن حيث معرفة أين ينفق المال العام، مع المحاسبة فيه، ومن حيث له شراك في القرارات والرّقابة بشكل عام عن طريق مجلس الشّورى أو المجالس النّيابيّة والجمعيّات المدنيّة ونحوها.
يظهر التّمايز بين الضّريبة والزّكاة من جهة، وبين الاشتراك من جهة أخرى، فجهة التّمايز أنّ من غايات الضّريبة تحقّق الشّراك السّياسيّ والرّقابيّ بين الجميع، تحت مظلّة الدّستور المشترك من جهة، وفصل السّلطات من جهة ثانية، وأمّا الغاية من الزّكاة عدم كنز المال، وتدويره في المجتمع بشكل أكبر مع سعة تسبيلها أيضا، إلا أنّ المشترك بين الضّريبة والزّكاة هو القضاء على الطّبقيّة، وتحقّق المنفعة والعدالة الاجتماعيّة بين الجميع، كما تشتركان من حيث الإلزام، فكلاهما ملزم من حيث الابتداء.
لهذا -في نظري- يمكن الجمع بين الزّكاة والضّريبة من حيث المشترك بينهما، فمن أسباب تقاعس الشّركات بأنواعها، خصوصا الكبيرة والمتوسطة مثلا عن الزّكاة للضّرائب المترتبة عليها، وما يفرض لها من نسبة في الخدمات الاجتماعيّة، فمثل هذه إذا وجدت الحركة التّصحيحيّة والمنمية للزّكاة يمكن الجمع بين الأمرين؛ لأنّ المشترك والغاية بينها واحد، وإن اختلف المصطلح، إلا أنّ الذّمة تبرأ بهما لتحقّق المصلحة والغاية، وإلزامها يحرّك المال العام، ويحقّق منفعته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والخدميّة في تنمية الزّكاة أو الضّريبة، وهذه هي الغاية.
ومراعاة مصلحة الطّبقة المستفيدة مدار عليّة مشروعيّة الزّكاة ذاتها، وإن كنتُ أراه لا يتوقف عند الألفاظ، كما يروى عن عمر أنّه أخرج عن نصارى بني تغلب الجزية باسم الزّكاة أو الصّدقة، مراعاة لنفوسهم، ومساواة لغيرهم ولو على مستوى اللّفظ، بعيدا عن قضيّة الجزية وأدبياتها، إلا أنّ الغاية متقاربة، في تحقيق العدالة الاجتماعيّة والأمنيّة بين الجميع، ولهذا نجد الفقهاء يتوسعون حتّى في غاية الإخراج، والتّعامل مع أصناف الزّكاة ذاتها، يقول السّالميّ [ت 1332هـ/ 1914م] في أجوبته: «اختلف العلماء في جواز إخراج القيمة عن الزّكاة، فقال بعض إنّ القيمة تجزئ في جميع أنواع الزّكاة، ونظروا إلى أنّ الزّكاة حقّ للفقراء والمساكين، وإنّما شرعت لسدّ حاجتهم، وبالقيمة يحصل أداء ذلك الحقّ، ويسدّ باب الحاجة، ورأى هؤلاء أنّ المقادير الّتي ذكرت في إخراج الزّكاة إنّما هي بيان لمقدار الحقّ الواجب في المال لا غير»، ومراعاة الطّبقة المستحقة منهج قديم لا يتوقف عند حرفيّة النّصوص، فلمّا قدم معاذ بن جبل [ت 18هـ] اليمن قال: «أأتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذّرة والشّعير فإنّه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة»، وعن عطاء [ت 135هـ] كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض في الصّدقة من الدّراهم، وعلى هذا أفتى أحمد ابن حنبل [ت 241 هـ] من سأله عن رجل باع ثمرة نخلة، فهل يخرج الثّمر أو ثمنه، فقال: «إن شاء أخرج ثمرا، وإن شاء أخرج من الثّمن»، أي المدار مصلحة الفقير وصاحب الحق.
ما أردت قوله سلفا إننا بحاجة إلى تدوير المال بشكل كبير في الخطّ الأفقيّ في جانبه الاشتراكيّ، ولا يكون دولة بين فئة من النّاس، فالأول يوزّع المال في شكلة الإيجابيّ الاستثماريّ إذا ما أحسن توظيفه، لا أن يتحوّل ذاته إلى كنز آخر، كما أنّه يسهم في علاج قضايا التّأمينات والمساعدات الاجتماعيّة، وقضايا الباحثين والمسرحين، كما يدفع في التّأمينات الخدميّة للمجتمع، تعليما وصحّة وطرقا وغيرها، كما يخلق بيئة آمنة للاستثمار، والانتقال إلى مرحلة المجتمع الآمن للاقتصاد من كافّة جوانبه، لهذا ما نراه اليوم من مصاديق في وطننا العزيز -كما ذكرت في مقدّمة المقالة- حالة صحيّة جدا، ينبغي الوقوف معها وتوسعها إلى جوانب إيجابيّة عديدة، وما ذلك ببعيد.
هذا الاهتمام من مركزيّة الدّولة ذاتها، ومن قبل جلالة السّلطان -حفظه الله- ذاته، من حيث النّظر إلى تدوير المال في الشرّيحة الأفقيّة من المجتمع، هي الحالة الصّحيّة -في نظري- ضمن عشرات الحالات الإجرائيّة في تحقيق التّعافي الاقتصاديّ، بعد مرحلة الكساد وآثار جائحة كورونا وغيرها، وبطبيعة الحال لم يقتصر عند هذين النّموذجين، فهناك نماذج تصحيحيّة وتعزيزيّة عديدة، لكن ذكرتها كما يقال إنّها أقرب مذكور حتّى السّاعة.
بلا شك أنّ المجتمع الإنسانيّ اليوم يمر بحالة اقتصاديّة حرجة جدّا، من ارتفاع الأسعار، والتّضخم المالي، وآثار الصّراع الشّرقيّ الغربيّ المتمثل في الحرب الأوكرانيّة ونتائجها على النّفط والغاز، مع آثار الغلق والانهيار الاقتصاديّ بسبب جائحة كورونا، وبهذه الآثار المترتبة طبيعيّ أن تتضرّر بها جميع دول العالم، وعُمان ليس بمعزل عنها، خاصّة وقد تراكمت عليها الدّيون سابقا، ممّا زاد من معدلات الباحثين عن عمل، وقضايا المسرحين، وكثرة الغارمين والمحابيس بسبب الدّين، مع تدني الرّواتب، وضعف التّأمينات الاجتماعيّة، وفرض الضّريبة المضافة، وغيرها، ومع محاولات العلاج على مستوى الدّولة كمنفعة الأمان الوظيفيّ مثلا، إلا أنّ المسألة اقتصاديّا مع آثارها الاجتماعيّة لا زالت معقدّة بشكل كبير.
وبطبيعة الحال لستُ هنا محلّلا اقتصاديّا، أو خبيرا فيه، ولا أريد أن أظهر نفسي العالم في تفكيك ذلك، فمن تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب، ولكن من باب الحديث عن الأفق الاجتماعيّ الّذي نعايشه، ولإدراكي بعد سنوات عملتها في المساعدات الاجتماعيّة تجاوزت العقدين من الزّمن، ومن شخص يفكر خارج صندوق العمل الاقتصاديّ؛ أرى أكبر إشكالياتنا في العمل التّطوّعيّ غياب المركزيّة، والرّقابة الصّارمة في ذلك، ممّا ولد في العمل التّطوعيّ عشوائيّة التّوزيع، والفساد الماليّ ذاته، وعدم وجود رؤية واضحة في ذلك.
فعندنا في عُمان اليوم مثلا أموال الزّكوات والصّدقات والضّرائب، مع أموال الأوقاف المحبوسة عينها قديما وحديثا لخدمات اجتماعيّة ونفعيّة، وهي تساهم بشكل كبير في تدوير المال في الخطّ الأفقيّ من المجتمع، كما أخبر القرآن ذاته: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وقديما روي أنّ مملكة جوسون الكوريّة تضرّرت بسبب الارتشاء والفساد الحكوميّ وتعاونهم مع التّجار، فتجمّع الفقراء في الجبال، وقاموا بثورات، فأدرك المصلحون أنّ المال كلّما تمدد ودار في الطّبقات الفقيرة، سيؤدّي إلى نمو الاقتصاد، ويحقّق الأمن، ويقضي على الفقر، وهذا ما فعله عمر بن الخطاب [ت 23هـ] بعد عام الرّمادة أو المجاعة بعد حج سنة 18هـ، وما تبعه من طاعون عمواس، فقام عمر بتحقيق اشتراكيّة في دوران المال في الطّبقات السّفلى، والحث على عدم اكتنازه، مع مراجعة بعض الأدبيات كتوقيف حدّ السّرقة، لارتفاع العدل الماليّ في المجتمع، لأنّ الحدود لا تقام إلا بعد تحقّق العدل في ذلك، فهي غاية لتحقّق العدل، وليست غاية في ذاتها، ويماثله اليوم الحبس المدنيّ المترتب نتيجة أسباب خارجة عن إرادة الشّخص ذاته، خاصّة لما نتج من آثار كورونا وما بعده، فينبغي مراجعته من جديد، فلا هو يترك للباحث عن عمل يسدّ ديْنه، وقد يصعب في حالات عديدة سداد ديْنه من الدّولة أو المجتمع، لهذا الحبس ليس حلّا يعاقب عليه، لا لجرم ارتكبه، بل الوضع الاقتصاديّ العام قاده إلى ذلك.
إنّ أموال الزّكوات والصّدقات والوقف قد تساهم في تحقّق دوران المال أفقيّا، ولكنّها -في نظري- لم تستثمر إيجابيّا لعقود مضت، وابتعدت عن مركزيّة التّوزيع وفق آلية عمليّة واضحة من جهة، ورقابة صارمة من جهة ثانية، لعدم وجود هيئة مستقلة تماما، واقتصرت على كونها فرعا في وزارة معينة، والحلّ -في نظري- أن تكون مرتبطة بالمال العام أي وزارة الماليّة من حيث الابتداء، لها ثلاثة أجنحة رئيسة: الجناح الأول جناح الدّراسات الشّرعيّة والاقتصادية والتّنمويّة في آلية حسن تنميتها، وسعة تسبيلها {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التّوبة: 60]، والجناح الثّانيّ جناح الاستثمار من حيث وضع أصول لها تجرّ منفعة دائمة، وتعالج القصور بشكل إيجابي، وتسهم في توفير فرص عمل بذاتها، والجناح الثّالث جناح إخراجها عن طريق وزارة المالية في دعم المؤسّسات والوزارات ومؤسّسات العمل المدنيّ في القضاء على الفقر والبطالة وتوزيع المال والرّقيّ بالتّعليم والصّحة والخدمات العامّة، وهذا مثلا ما يحدث في الولايات المتحدّة الأمريكيّة من خلال مركزيّة الحكومة الفدراليّة ودعمها للجمعيّات بشكل منظّم في علاج قضيّة المشردين مثلا، ممّا ساهم بشكل إيجابيّ في الحدّ من القضيّة، وتوفير البديل من خلال العلاج.
ووجود مركزيّة يخفّف من حالات الفساد الماليّ من جهة، وسوء استثماره وتوزيعه من جهة ثانية، كما أنّه أيضا لا يعني إلغاء الشّراك المجتمعيّ من خلال الجمعيّات الخيريّة، بل هي تدعم هذه الجمعيّات من جهة، لما تحقّقه من شراك مهم في تخصّصها في علاج القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة، كعلاج قضايا التّسوّل والغارمين وتعليم الدّخل المحدود وعلاجهم، وتعليم الصّم والعمي ونحوهم، كما تُعطى مساحة واسعة من الصّدقات بشيء منظم ومشترك وواضح، بعيدا عن الاستغلال الماليّ باسم الصّدقات أو الأعمال الخيريّة، على أن تكون المركزيّة واضحة، خصوصا في دولة كعمان عدد سكانها ليس بالكثير، ويمكن دراسة الخطّ الأفقي للمجتمع بكل سهولة ويسر، كما يسهل تحقّق الشّراك الاجتماعي أيضا، بسبب الوضع الاقتصادي العام من حيث دخل الأفراد، ومن حيث الانفتاح الاستثماري والاقتصادي والتّجاري لأسباب جغرافيّة، أو أمنيّة استقراريّة، أو نفطيّة ومعدنيّة، ساهم في تحقّق التّوازن في المجتمع، وهذا يسهم في تحقّق الشّراك الاجتماعيّ بشكل كبير أيضا.
ومن الإشكالات اليوم المتعلّقة بهذا والّتي تحتاج إلى مراجعة بحثيّة أيضا قضيّة الجمع بين الزّكاة والضّريبة، فيرى بعض الباحثين الاجتماعيين أنّ الزّكاة اليوم لم تعد تحقّق ذاك الجدوى الّذي كانت تحقّقه بالأمس، خصوصا مع وجود فلسفة «الضّريبة» ودورها في رفد المال العام، ولهذا ظهرت قضيّة الضّريبة في أبحاث الزّكاة من جهة هل تقوم مقام الزّكاة، فلا عبرة بالألفاظ وإنّما بالغاية والمعاني، فأصبحت الضّريبة مطلقة لها اعتباران: اقتصاديّ وتشاركيّ، أمّا الاقتصاديّ فلرفد المال العام في تحقّق خدمات أمنيّة وتعليميّة وصحيّة ونحوها، وأمّا التّشاركيّ فيدخل في العقد الاجتماعيّ، أي يصبح كلّ فرد بذاته له الحقّ في الشّراك في الدّولة، من حيث حرّيّاته الشّخصيّة، وتعليمه وصحته وأمنه، ومن حيث معرفة أين ينفق المال العام، مع المحاسبة فيه، ومن حيث له شراك في القرارات والرّقابة بشكل عام عن طريق مجلس الشّورى أو المجالس النّيابيّة والجمعيّات المدنيّة ونحوها.
يظهر التّمايز بين الضّريبة والزّكاة من جهة، وبين الاشتراك من جهة أخرى، فجهة التّمايز أنّ من غايات الضّريبة تحقّق الشّراك السّياسيّ والرّقابيّ بين الجميع، تحت مظلّة الدّستور المشترك من جهة، وفصل السّلطات من جهة ثانية، وأمّا الغاية من الزّكاة عدم كنز المال، وتدويره في المجتمع بشكل أكبر مع سعة تسبيلها أيضا، إلا أنّ المشترك بين الضّريبة والزّكاة هو القضاء على الطّبقيّة، وتحقّق المنفعة والعدالة الاجتماعيّة بين الجميع، كما تشتركان من حيث الإلزام، فكلاهما ملزم من حيث الابتداء.
لهذا -في نظري- يمكن الجمع بين الزّكاة والضّريبة من حيث المشترك بينهما، فمن أسباب تقاعس الشّركات بأنواعها، خصوصا الكبيرة والمتوسطة مثلا عن الزّكاة للضّرائب المترتبة عليها، وما يفرض لها من نسبة في الخدمات الاجتماعيّة، فمثل هذه إذا وجدت الحركة التّصحيحيّة والمنمية للزّكاة يمكن الجمع بين الأمرين؛ لأنّ المشترك والغاية بينها واحد، وإن اختلف المصطلح، إلا أنّ الذّمة تبرأ بهما لتحقّق المصلحة والغاية، وإلزامها يحرّك المال العام، ويحقّق منفعته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والخدميّة في تنمية الزّكاة أو الضّريبة، وهذه هي الغاية.
ومراعاة مصلحة الطّبقة المستفيدة مدار عليّة مشروعيّة الزّكاة ذاتها، وإن كنتُ أراه لا يتوقف عند الألفاظ، كما يروى عن عمر أنّه أخرج عن نصارى بني تغلب الجزية باسم الزّكاة أو الصّدقة، مراعاة لنفوسهم، ومساواة لغيرهم ولو على مستوى اللّفظ، بعيدا عن قضيّة الجزية وأدبياتها، إلا أنّ الغاية متقاربة، في تحقيق العدالة الاجتماعيّة والأمنيّة بين الجميع، ولهذا نجد الفقهاء يتوسعون حتّى في غاية الإخراج، والتّعامل مع أصناف الزّكاة ذاتها، يقول السّالميّ [ت 1332هـ/ 1914م] في أجوبته: «اختلف العلماء في جواز إخراج القيمة عن الزّكاة، فقال بعض إنّ القيمة تجزئ في جميع أنواع الزّكاة، ونظروا إلى أنّ الزّكاة حقّ للفقراء والمساكين، وإنّما شرعت لسدّ حاجتهم، وبالقيمة يحصل أداء ذلك الحقّ، ويسدّ باب الحاجة، ورأى هؤلاء أنّ المقادير الّتي ذكرت في إخراج الزّكاة إنّما هي بيان لمقدار الحقّ الواجب في المال لا غير»، ومراعاة الطّبقة المستحقة منهج قديم لا يتوقف عند حرفيّة النّصوص، فلمّا قدم معاذ بن جبل [ت 18هـ] اليمن قال: «أأتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذّرة والشّعير فإنّه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة»، وعن عطاء [ت 135هـ] كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض في الصّدقة من الدّراهم، وعلى هذا أفتى أحمد ابن حنبل [ت 241 هـ] من سأله عن رجل باع ثمرة نخلة، فهل يخرج الثّمر أو ثمنه، فقال: «إن شاء أخرج ثمرا، وإن شاء أخرج من الثّمن»، أي المدار مصلحة الفقير وصاحب الحق.
ما أردت قوله سلفا إننا بحاجة إلى تدوير المال بشكل كبير في الخطّ الأفقيّ في جانبه الاشتراكيّ، ولا يكون دولة بين فئة من النّاس، فالأول يوزّع المال في شكلة الإيجابيّ الاستثماريّ إذا ما أحسن توظيفه، لا أن يتحوّل ذاته إلى كنز آخر، كما أنّه يسهم في علاج قضايا التّأمينات والمساعدات الاجتماعيّة، وقضايا الباحثين والمسرحين، كما يدفع في التّأمينات الخدميّة للمجتمع، تعليما وصحّة وطرقا وغيرها، كما يخلق بيئة آمنة للاستثمار، والانتقال إلى مرحلة المجتمع الآمن للاقتصاد من كافّة جوانبه، لهذا ما نراه اليوم من مصاديق في وطننا العزيز -كما ذكرت في مقدّمة المقالة- حالة صحيّة جدا، ينبغي الوقوف معها وتوسعها إلى جوانب إيجابيّة عديدة، وما ذلك ببعيد.