تصور وجود جهاز بشري يُراقب أحلامك، فلا تفوته حتى تلك اللحظة التي ينشط فيها «لا وعيك»! تصور أنّ حلمك يمضي برفقة أحلام الآخرين إلى واحدة من أخطر وأقوى المؤسسات التي تعمل على فرز الأحلام وتصنيفها وتحديد مدى خطورتها على البلاد!

ولك أن ترتعب حين تعرف أنّ الأحلام التي تثير الشكوك حولها ستجلب المصير الأكثر بؤسًا لحالِمها، فالحلم الذي لا يتجاوز الثواني القليلة في عقل الحالم تُبنى عليه ملفات ضخمة من التحليلات والمراجعات.. هكذا يبني الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه عالم روايته «قصر الأحلام»، ليرينا القبضة الفولاذية للإمبراطوريات التي تكسر إرادة الفرد ابتداء من أصغر تهديد: «الأحلام»!

هنالك أيضا من هو مشغول بتكسير أجنحة الأسئلة، فالأطفال اليوم من أبناء الخامسة أو السابعة، المذهولون في رحلة اكتشافهم للعالم المحيط بنا، يملكون من الأسئلة عن وجودهم وعن الكون ما قد نعجزُ عن الإجابة عنه أحيانا، إذ علينا أن نبدو أذكياء كفاية لنقول لهم ما قد يغدو مقنعا.. فما بالك عندما يشتد عودهم وتتكاثر المعارف من حولهم ويبدأ سيلٌ جديد من الأسئلة يخدش اطمئنانهم.. هل سنُعمل السياط الجارحة لنعيدهم إلى جادة الصواب التي نتصورها؟

لنقل السؤال بطريقة مختلفة: هل ثمّة ما يحمي أبناءنا المختلفين بوعيهم وأفكارهم عدا الأوجاع المُبرحة التي سنجلدهم بها؟

أتعجب من اليقين الساذج الذي يتعامل به البعض وينبغي أن يمر الجميع بين مشارطه الحادة دون أي رأفة بالعقول التي تمتعت بهبة الشك، وأقول هبة الشك، لأنّ حركة من العلوم والحضارات قامت على دحض اليقين، فالشك والأسئلة قبل أن يكونا إثما، حملا بذرة احتمال -ولو ضئيل- لفتح طريق غير مرئي للمتمتعين بيقينهم الزائف.

ولكي نصل إلى اليقين يلزمنا أن نواجه شكوكنا، لا أن نجردها بالقوة، فنلج متاهة باردة، فالقوة التي تمارسها أي سلطة على الكائن الهش ستدفع الإنسان ليأسٍ عدمي! فالإنسان الواقع في غمرة الشك مسوقًا بعماء اللحظة الجارفة، يحتاج الوقت والتجربة، وهما ما سينضجانه على مهل، قبل أن يُرجم بتصنيفات مُذلة!

في فيلم: the ballad of buster scruggs، تتجلى فلسفة الأخوين السينمائيين إيتان وجول كوين، حول خلو الحياة من الضمانات، وكيف أنّ المصائر والحظوظ مُتقلبة، وكيف يُغذي الشك الحياة ضمن صيرورة متدافعة.

نقع على ست لوحات حكائية مختلفة، كتبها الأخوان كوين على مدار ثلاثة عقود، وإن كان ثمّة خيط يشبك الحكايات بعضها ببعض فإنه وجود جثة في كل قصّة.

سأتذكر العربة المكتظة التي تقابل فيها رجل «بري» غير متحضر، وامرأة متدينة، ورجل يؤمن بالمنطق، قبالة اثنين من حاصدي الأرواح، حيث بدأ سيلٌ من الأحاديث والأفكار المتضاربة، أظهر ذلك المشهد الطويل نسبيا، كيف ينظر أحدهم للآخر وكيف تنبعث الأحكام الجاهزة، في عربة محكوم على سائسها بعدم التوقف، كل طرف يبرر منبت أفكاره إلى أن يصلوا جميعًا إلى فندق مُحاط بالضباب!

ويتكثف التناقض السوداوي في لوحة حكائية أخرى، عندما تنفرج ستارة المسرح، فيظهر أمامنا رجل بلا أطراف، جالس على كرسي خشبي، يلقي أمام الناس القصائد والأمثال، لكن تمضي الأحداث بصورة تراجيدية، فتتغلب دجاجة تجيد القيام بعمليات حسابية على الفنان صاحب الحكايات.. لقد صنعت الدجاجة جمهورها ونزعت اللقمة والحياة من فم الفنان! في صورة تعكس «العدالة التي طالها قدرٌ من العبث»!

لقد كسر هذا الفيلم فكرة البطولات الخارقة والنهايات السعيدة، «فكل شيء يموت في سينما الأخوين كوين.. إنّه مكان يتقبل الموت كجزء من الطبيعة، ففي بيئة لا مبالية وشحيحة كهذه ما الذي يمنح الأشياء قيمتها ومعناها؟ لا شيء يحمل قيمة في ذاته ولا حتى الإنسان!».

لقد كانت البراري شاسعة ولا نهائية في الحكايات الست، قاحلة حينًا ومخضرة حينًا آخر، تدفع المشاهد لمشاعر متناقضة بين الرجاء والوهم، بين اليقين والشك.

وكما قال الغزالي: «من لم يشك فلم ينظر، ومن لم ينظر فلم يبصر، ومن لم يبصر، يبقى في متاهات العمى».