ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال سبب عنونة المقال، وسبب تلقيب شاعرنا بشار بن برد بالمُرَعَّثِ، والبيت الذي استلهمنا منه عنوان هذه السلسلة التي تتناول طرفا من حياة شعراء وأدباء ولغويين فقدوا البصر، واستبدلوا به البصيرة الثاقبة؛ حتى إن أحدهم ليصف مشهدا يعجز البصير عن وصفه بمثله.

وقد ألزمنا أنفسنا في الجزء السابق من هذا المقال بأن نتحدث عن شاعرية بشار وأسلوبيته ومن تأثر به وأخذ عنه، وفي الحقيقة فإن المهمة تصعب أكثر فأكثر لقلة المصادر التي استطعت الوصول إليها، ولكنني سأحاول أن أحيط بالموضوع قدر الاستطاعة والإمكان.

وبشار علم من أعلام الشعر العربي، لا يذكر أعلام الشعر إلا وهو في صدر مجلسهم جعله النقاد رأس المُحدثين رغم أنه عاش نصف حياته في عصر الدولة الأموية وهو العصر الذي اعتمده النحويون للاستشهاد بالشعر والاحتجاج به في قواعدهم النحوية التي ابتدأوا وضعها، وقد ذكر عارف حجاوي في كتابه «تجدد الشعر» الأسباب التي منعت النحويين من الاحتجاج بشعر بشار وعارضها برأي صائب وحجج مقنعة.

وقد ذكرت في الجزء الأول من السلسلة اعتماد ابن سلَّام على حُكم بشار في المفاضلة بين شعراء الدولة الأموية الثلاثة، جرير والأخطل والفرزدق، وتفضيله جريرا على كليهما، وقد كان سؤاله إياه سؤال المريد للسالك، والمستبصر للبصير؛ ولا يكون الناقد ناقدًا إلا بعد تمكنه مما ينقده من علم وفن وصناعة، فبشار لم يكن ينقد الشعر وهو بمعزل عنه، بل ينقده وهو مُقدَّمٌ فيه، معدود في فحوله وأربابه.

وقد اتفق نقاد الشعر ومؤرخو العرب على كون بشار أحد المطبوعين المجيدين، والشاعر المطبوع هو الذي يقول الشعر بغير تكلف، فتجد الشعر ينساب من فيه انسيابا سهلا سلسا؛ ويقابله الشاعر المصنوع، وهو الذي يتكلف قول الشعر، وفي مقدمة المرزوقي على ديوان الحماسة تفصيل في الفرق بينهما.

نجد ابن قتيبة يقول عنه إنه «أحد المطبوعين الذين كانوا لا يتكلفون الشعر، ولا يتعبون فيه، وهو من أشعر المحدثين». ص757 الشعر والشعراء الجزء الثاني.

ويورد ابن قتيبة الروايات والأخبار عن بشار؛ فتارة يورد خبره مع عقبة بن رؤبة بن العجاج في مجلس عُقبة بن سَلْم، وانتصار بشار على عقبة بن رؤبة فيما امتاز به العجاج وذريته، أعني الأراجيز، وتارة ينقد شعره فيقول: «ومن جيد شعر بشار» أو «ومن عجيب تشبيهه» أو «ومن خبيث هجائه» أو «ومن حَسَن شعره» و«مما أفرط فيه»، بل إن لبشار أشياء لم يكن أحد قبله ابتدعها أو سبقه إليها، كالبيت الذي ذكرناه في الجزء السابق من هذه السلسلة وهو قوله:

كأن مُثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافَنا ليل تهاوت كواكبه

وقد بحثت عن كتاب ورقي لكتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر فلم أجد، واستعنت بنسخة رقمية منه وهي طبعة دار الكتب العلمية بتحقيق الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي الذي يقول في مقدمة التحقيق «بلغ النقد الأدبي في القرن الثاني الهجري مرحلة من مراحل تطوره، تناسب ما بلغه العرب في هذا العهد من نضج ثقافي وأدبي كبير»، ثم يقول نقلًا عن الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني في معرض الحديث عن الأصمعي ذلك العالم الأريب الألمعي ورأيه ببشار فيقول «وأُعجِب بنقد بشَّار» فقد كان الأصمعي إذن «يُعجب بشعر بشار لكثرة فنونه وسعة تصرفه ولطبعه، وكان يشبهه بالأعشى والنابغة». ص26 نقد الشعر، والأصمعي غني عن التعريف وهو العالم بالشعر وبغريبه وحسنه، ثم يستطرد المحقق معتمدا على كتابَيْ الأغاني وزهر الآداب «كان الأدباء ينقدون الشعر بفطرتهم وذوقهم، وكان بشار أجودهم وأدقهم في نقد الشعر ومذهبه، وكان أبو عبيدة -معمر بن المثنى صاحب النقائض- يعجب من فطنة بشار وصحة قريحته وجودة نقده للشعر، وكان خَلَف -الأحمر- يعجب من نقده ومذهبه، وغَضِبَ بشار على سَلم -الخاسر- لسرقته معانيه -كان سلم يسرق معاني أستاذه بشار ويضمِّنُها شعره-، وكان مروان -ابن أبي حفصة- يعرض شعره عليه وكان أبو العتاهية يعتمد على معاني بشار، وكان أشجع -السُّلَمِيُّ- يأخذ عنه ويعظمه وكان ابن الرومي يقدِّمُه ويزعم أنه أشعر من تقدم وتأخر، وكان كثير من الشعراء يجارون بشارا في هذا الميدان». ص27-28. هكذا نجد اتفاق علماء العربية والشعر على مكانة المرعَّثِ السامقة، ومنزلته العالية، ويده الطولى في النقد والشعر. وقد وقعت على كتاب الباقلاني «إعجاز القرآن» طبعة دار المعارف، فوجدته يذكر بشارا غير ما مرة، فذكره في فصل «في ذكر البديع من الكلام» في باب «التشبيه الحسن» حيث أورد بيت بشار:

كأن مُثارَ النقع فوق رؤوسهم وأسيافَنَا ليلٌ تهاوى كواكبه

، ثم ذكره في باب «التكافؤ» من البديع، «وذلك قريب من المطابقة... ومنه قول بشار:

إذا أيقظتك حروب العدا فنبه لها عمرا ثم نم». ص97 إعجاز القرآن. ثم لا يلبث أن يذكره في باب الاعتراض والرجوع من أبواب البديع، «ومن محاسن الكلام أيضًا والشعر اعتراض كلام في كلام لم يتمم معناه، ثم يعود إليه فيتممه في بيت واحد..ومنها الرجوع وهو أن يقول شيئا ويرجع عنه» كتاب البديع لابن المعتز ص108.

ويذكره مرة أخرى في باب «الاستطراد» ثم يورد شيئا كان يختلج في نفسي ولم تسعفني الكلمات إليه، ولكن عباقرة اللغة قالوه قبل أكثر من ألف سنة ويصح أن يبقى ما بقي الشعر؛ وهو قول البحتري ردا على عبيدالله بن عبدالله بن طاهر حين ذكر الأخير تفضيل إمام اللغة ثعلب مسلم بن الوليد على أبي نواس «فقال البحتري: ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عَمَلِه، إنما يعلم ذلك من دُفِعَ في مسلك الشعر إلى مضايقه، وانتهى إلى ضروراته، فقال له عبيدالله:..قد وافق حكمك حكم أخيك بشار بن برد في جرير والفرزدق، أيهما أشعر؟ فقال: جرير أشعرهما، فقيل له بماذا؟ فقال: لأن جريرا يشتد إذا شاء، وليس كذلك الفرزدق، لأنه يشتد أبدا، فقيل له: فإن يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير، فقال: ليس هذا من عمل أولئك القوم، إنما يعرف الشعر من يُضطر إلى أن يقول مثله».ص116-117 إعجاز القرآن للباقلاني.

وخير ما نختم به هذه السلسلة، قول الدكتور شوقي ضيف في كتابه تاريخ الأدب العربي-العصر العباسي الأول، حيث يقول: «ويجمع الرواة والنقاد على أنه زعيم الشعراء المحدثين، وهي زعامة تُرَدُّ إلى أنه استطاع أن ينهج لهم في قوةٍ السبيلَ التي تَرَسَّمَها الشعراء من حوله ومن بعده، وهي سبيل تقوم على التمسك بالأصول التقليدية للشعر العربي من جهة، ومن جهة ثانية تفسح لتجديد الشاعر العباسي بحكم رقيه العقلي ومعيشته الحضارية». ص207. هكذا نختم الحديث عن الشخصية الأولى لهذه السلسلة، وأحيل القارئ الكريم إلى برنامج اليوتيوب والساوندكلاود، ففيه مختارات عذبة صحيحة اللغة من شعر بشار بصوت عارف حجاوي؛ ليحلّق بروحه إلى حقبة كان الشعر فيها سيد الزمان، وظل السلطان.