هذا العمل السردي المعنون بـ«الموسيقي الأعمى» للكاتب الروسي فلاديمير غالاكتيونوفيتش كورولنكو (1853 - 1921)، والذي ولِد في «جيتومير» وهي مدينة صغيرة في جنوب غرب أوكرانيا. وقد أغنت مرحلة الطفولةِ الكاتبَ في حياته الأدبية والإبداعية، حيث أحب منذ صغره الحكايات الشعبية، ومال نحو الموسيقى الشعبية، وكذلك نلاحظ انعكاس الطبيعة بكل مظاهرها في عمله هذا، فظلال الموسيقى الشعبية تظهر في هذا العمل، كذلك من خلال أغاني الرعاة والحاصدين. وقد اختار الكتابة كوسيلة للدفاع عن المحرومين والبسطاء، وتحقيق العدالة التي حلم بها، وتعرّض في سبيل ذلك للكثير من المضايقات والسجن والنفي من قِبل السلطة السياسية.
نُشرتْ قصة الموسيقي الأعمى في مجلة «روسكيه فيدموستي» عام 1886م. وطبعت في حياة الكاتب 15 مرة (ولعل آخر طبعة كانت عام 1898م)، وكان الكاتب في كل طبعة يُدخل تعديلات جديدة على النص. وهذا العمل السردي هو الذي أوصل الكاتب إلى الشهرة العالمية، علما بأن له أكثر من مائتي مؤلف تتراوح بين الأعمال الفنية والاجتماعية والأدبية النقدية، والمذكرات. يتضح من المقدمة التي كتبها ف.ن. شيرباكوف بأن مادة هذه القصة أُخذت من الواقع، ومن تأملات الكاتب في حياة البشر. يقول كورولنكو عن «الموسيقي الأعمى»:
«المادة التي استخدمتها هي ذكريات فتاة ولدت عمياء، وهي فتاة عرفتها في الطفولة، وكذلك مراقباتي لصبي هو تلميذي يفقد بصره بالتدريج، وأخيرا، مراقباتي لرجل أعمى، متطور ومتعلم، فضلا عن أنه موسيقي في المهنة». ص12
وقد قال عنه مكسيم غوركي: «كان كورولنكو بالنسبة إليّ، أكمل رجل من بين المئات الذين التقيتهم، وهو عندي نموذج مثالي للكاتب الروسي». وهذه الطبعة التي بين أيدينا هي الطبعة السادسة؛ وهي من ترجمة سامي الدروبي، وصدرت عن دار الفارابي ومكتبة السائح في بيروت سنة 2019. وقسم الكاتب القصة إلى سبعة فصول وخاتمة، وقد تم تحويل العمل إلى فيلم سينمائي عام 1960.
شرايين الحكاية
«من يدري؟ إن الإنسان يستطيع أن يكافح بغير الرمح والسيف؛ وهذا الطفل الذي جرحه القدر ظلما قد يشهر ذات يوم السلاح الذي يقدر عليه، من أجل أن يحمي هؤلاء البشر الفقراء الذين جارت عليهم الحياة أيضا، وعندئذ لا أكون أنا الجندي العجوز الأبتر، قد عشت في هذا العالم سدى...» ص35.
في هذه اللحظة قرر الجندي العجوز أن يعتني بهذا الطفل، بعدما كان يظن بأنه مجرد «دودة تزحف في التراب». من خلال هذا التأمل في مقدرة الطفل على التواصل مع العالم والآخرين من خلال الأصوات واللمس، وإن لديه قدرات خاصة كامنة بداخله، قرر هذا الخال (مكسيم) أن يعتني بالطفل، (لكن رحلة الاعتناء كانت شاقة متعبة للخال، ليس فقط بسبب عمى الطفل، ولكن التقلبات النفسية التي تحدث له)، وأن يثقف نفسه في هذا الجانب، حيث استقدم كتبا في علم الوظائف وفي علم النفس وعلم التربية، واطلع على أساليب تعليم العميان، كما قرر أن يعود إلى صفوف أولئك الذين يناضلون في سبيل القضايا النبيلة.
هل الاعتناء بطفل أعمى يُعَدُّ من القضايا النبيلة التي يمكن أن يناضل لأجلها هذا الخال؟ وهل هذا النضال يخفف من وطأة ماضي هذا الجندي العجوز؟ أليس كل هذا لتحقيق شهرة لم يستطع الخال تحقيقها في حروبه وحياته السابقة، ويريد من هذا الطفل الأعمى أن يحقق مجدًا وشهرة للعائلة، وبمعنى آخر ما الدافع وراء نضال هذا الخال؟
***
سنحاول أن نتتبع في هذا العمل علاقة الطفل الأعمى بالعالم الخارجي، وكيف نمت وتطورت وتوترت مع نمو الطفل؟ وكيف تخيّل الطفل الأضواء والأشياء والألوان؟ وكيف بدأت وتكونت علاقة الطفل بالموسيقى؟ وكذلك علاقة الأم والخال بالطفل الأعمى؟ وربما يتساءل القارئ عن غياب الأب في العمل؟ ولماذا كان ظهوره ضبابيا، وهل غيابه في العمل بالحقول لكي يعطي مساحة أوسع للخال؟ وكذلك سنتأمل بناء شخصيات العمل وظهورها، ووظيفتها داخل منظومة السرد.
وقبل الدخول إلى فضاءات العمل، يمكننا القول إنه ليس من السهل معالجة القضايا الإنسانية سرديا وإبداعيا، وخاصة إذا كانت هذه القضية تتناول ألم الأطفال، لأن الدخول إلى عوالم ونفسية الطفل، تحتاج إلى أدوات عميقة، وأن الثيمة التي تناولها عمل «الموسيقي الأعمى»، تتقاطع من أحد أفلام المخرج الإيراني مجيد مجيدي، «لون الفردوس».
استطاع الكاتب أن يبني شخصيات القصة بطريقة متماسكة ورصينة انسيابية، (نقصد بذلك بأن كل شخصية أدّت دورا مهما ومحددا في دوائر السرد) وإن دخول كل شخصية إلى عوالم القصة مبني على حاجة النص لهذه الشخصية أولا، يمهد الكاتب لهذه الشخصية بطريقة تتناسب مع جو القصة، وحاجة الطفل لهذه الشخصية ثانيا. نجد على سبيل المثال شخصية الطفلة (إيفلين) التي ظهرت في صفحة 73، وقد مهد كورولنكو لدخول الشخصية للنص من خلال الحديث عن والديها ص71، وكيف وصلوا إلى قرية بطرس (اسم الطفل الأعمى)، وقبل ذلك بقليل تحدّث الكاتب عن ملاحظة الخال وشعوره لحاجة ابن أخته إلى أصدقاء، نلاحظ هنا كيف أن حضور إيفلين، لم يكن مجانيا أولا أو زائدا في النص، وأن ظهورها لحاجة الطفل لتقوية الجانب النفسي والعاطفي والاجتماعي ثانيا، ومقدرة الكاتب على التمهيد لكل شخصية وصهرها في العمل السردي، لتقوم بدورها داخل النص، وكذلك لتبني هذه الشخصية علاقة مع الطفل ومع الشخصيات الأخرى. لذا سنرى تفاعل إيفلين في حياة الطفل في مرحلتي الطفولة والمراهقة، لتتزوج به في نهاية القصة.
وكأن دخول كل شخصية في العمل هدفه خدمة العوالم الداخلية والخارجية لشخصية الطفل الأعمى. أو بمعنى آخر، كأن الطفل وعوالمه وهواجسه يمثلان نهر السرد في القصة، والشخصيات الأخرى التي ظهرت في بداية العمل أو في الفصول الأخرى هي الروافد لهذا النهر السردي، رغم أن النص لم يكن مهتما كثيرا بتقدم الحكاية في السرد بقدر تركيزه على عوالم الطفل النفسية والروحية والعاطفية، وكيف تتفاعل حواس الطفل مع العالم الخارجي الذي لا يراه. لكن الطفل وبمساعدة الخال مكسيم كان يبذل جهده ووقته ليجعل ملامح العالم الخارجي محسوسة لدى الطفل. «وكان هذا يقع له خصوصا حين تتحول الانطباعات الخارجية التي يمكنه بلوغها، إلى إحساسات قوية جديدة تطلعه على حوادث جديدة في هذا العالم الذي لا يراه. إن الطبيعة الكبيرة الجبارة ليست موصدة أمامه تماما» ص39.
لذا يمكننا القول هنا، إن شخصية الطفل بطرس تمثل العمود الفقري للسرد في العمل، وحتى أثناء غيابه نلاحظ أن الشخصيات، تفكر به وفي عوالمه، كالخال والأم وإيفلين. وكذلك نلاحظ أن شبكة علاقات الطفل بالآخرين نمت وتوسعت بطريقة سلسة ومنصهرة مع نمو وعي الطفل وحساسيته بالعالم.
وسنذكر مثالا آخر على ظهور الشخصيات في العمل لخدمة الشخصية الرئيسة، ينطبق على ظهور سائس الخيل وعازف الناي والفلاح يوكيم، الذي سحر عالم الطفل، وجعله يعشق الموسيقى، لم تدخل هذه الشخصية بشكل فج أو كتأثيث للحكاية في جو النص، بل لحاجة الطفل لصوت يخرجه من عوالمه وغربته. وضرورة أن تنمو قدرات الطفل في التواصل مع عالمه الخارجي، وأن تشبع رهافة وحساسية الطفل بصوت خارج البيت، بعدما تمكن من صهر الأصوات القريبة في المنزل لعالمه الداخلي، ودهشته عندما سمع لأول مرة صوت الناي، وكيف أنه في إحدى الليالي خرج وحده إلى حيث يعزف يوكيم الناي. وقد مهّد الكاتب لهذه الشخصية مسبقا، حيث يخبرنا عن وجعه العاطفي عندما تركته حبيبته ماريا، وكذلك قصة بحثه عن ناي، يناسب شجنه، وبعدما جرّب العشرات من النايات، ورحلة بحثه الطويلة والشاقة في السهول والجبال عن هذا الناي. هذه التفاصيل الجانبية أو ما أسميها بـ«الروافد السردية» غير منفصلة عن نهر النص، أو الشخصية المركزية؛ وهو الطفل الأعمى. وكأن هذه الشخصيات أو التفاصيل التي ينثرها الكاتب تشبه الألحان الموسيقية في سيمفونية الأعمى.
تتصاعد الأحداث والحوارات بما يتناسب مع عمر الأعمى وقدراته، حيث إننا كلما تقدمنا في الأحداث والسرد تظهر صفات وملامح الشخصية بطريقة سلسة وبشكل تدريجي، وتظهر معها إشكاليات نفسية وروحية كذلك، وقد اعتنى الكاتب بطريقة فنيّة متقنة بالعوالم الداخلية للشخصيات. ما تشعر به وما يقلقها، وخاصة الأم وطفلها وإيفلين والخال (وحتى ألم عازف الناي يوكيم، وما يعانيه من جرح عاطفي)، وعلاقة هذا الأعمى بالعالم الخارجي وعوالمه الداخلية الغامضة، ويحاول جاهدا ربط العوالم الداخلية والخارجية من خلال تطوير أدوات تواصله، اللمس والسمع والإنصات للأصوات ولهسهسة الليل وحفيف الأوراق.
***
أما عن علاقة الأم بطفلها فيبدأ القلق من الصفحة الأولى، من لحظات الولادة.
«أخذت الأم تضطرب إلى فراشها، وهي مغمضة العينين وهمهمت شفتاها بكلام، وظهرت على وجهها الشاحب، الناعم القسمات، الذي يكاد أن يكون وجه الطفل، علائم ألم تضيق به، كما يضيق طفل مدلل بحزن يعانيه، ولم يألفه من قبل» ص17.
وهذا القلق يبدأ يكبر ويتشكل في قلب الأم ويتوسع، ويظهر في صور مختلفة، وتعابير شتى، «ومن حين إلى حين، كان الألم الشديد الذي لا يمكن أن تعبّر عنه الحركات، ولا تفصح عنه الكلمات، يفجر من عينها قطرات من الدمع كبيرة» ص18. هذا القلق والتوتر والألم يبدأ يكبر مع نمو الطفل، وشعور الأم بأن طفلها لا يتفاعل معها. فوجه الطفل ظل ساكنا دائما. لذا ظل القلق والتوتر والخوف ملازما لشخصية الأم داخل العمل. ولعل شعور القلق الدائم هي الصفة المشتركة بين الأم وطفلها. «وكانت ممسكة بيده أحست بالطفل يرتعش ويضطرب» ص100«كانت الأم تضطرب كالطير الجريح، وهي تشد ابنها إلى قلبها، ولكن عيني الصغير لم تتغير نظراتهما الخائبة الساكنة» ص20.
من خلال الأمثلة السابقة، والكثير من الأمثلة الواردة في القصة الدالة على قلق الأم الدائم والمتصاعد على/ ومع طفلها، وشعورها الداخلي بأن هناك شيئًا غير طبيعي في طفلها، ونمو هذا القلق، يوضح لنا أولا: بأن شخصية الأم القلقة أعطت العمل عمقا نفسيا، وثانيا: دقة وصف الكاتب للعوالم الداخلية لهذه الأم، ومقدرته على تصوير القلق والتوتر والألم الداخلي، بأوصاف مختلفة في كل مرحلة من مراحل نمو الطفل منذ يومه الأول إلى أن أصبح أبا. ونقل قلق الأم إلى المتلقي بطريقة انسيابية وسلسة دون افتعال المشاعر والعواطف، أو البحث عن شفقة أو تعاطف مع حزن الأم، التي شبهها كحمامة جزعة. «فكانت المرأة الشابة تنظر إلى الناس كحمامة جزعة، وتسأل:
قولوا لي لماذا هو كذلك؟ ص19 كل ذلك يسير بنا في خط واحد متوازٍ (قلق الأم/ ونمو قدرات الطفل في التواصل مع العالم الخارجي/ ومحاولات الخال مكسيم)، لذا نلاحظ نمو علاقات الطفل بالشخصيات والطبيعة بشكل تدريجي، وانسيابي، وبنسب متوازنة مع مدى وعي وتقبل الطفل لهذه العوالم الخارجية. (وهذا ما لاحظه الخال مكسيم، حيث كان حريصا على ألا يتعرّض بطرس للكثير من الأصوات والمعارف الخارجية حتى لا تسبب له الكثير من القلق والتوتر والحساسية، كان مكسيم ذكيا في ملاحظة النمو الروحي والجسدي والعاطفي والاجتماعي للطفل الأعمى) حيث يبدأ أولا علاقته الغامضة مع الأصوات، ومدى تأثير هذه الأصوات على عوالمه الداخلية. وكذلك يمكن أن نذكر بأن الأشياء التي تدخل حواس الطفل يجب أن تتناسب مع رهافة مشاعره وحساسيته المفرطة مع كل شيء، فهذا الطفل ليس ككل العميان، قد رافقته مع رحلة العمى مشاعر زادت، وعقدت من تعامله مع العالم والحياة، كحساسيته الشعرية مع الطبيعة ورهافة مشاعره مع الموسيقى. لذا في طفولته تقبّل عزف الناي؛ لأنه يتناسب مع مرحلة انسجامه مع الطبيعة بكل مظاهرها، ولم يتقبّل البيانو إلا لاحقا.
«سرعان ما أصبح يعرف أمه من خطواتها، ومن حفيف ثيابها» ص26
«ولكن اتضح شيئا فشيئا أن حدة إحساسه كانت تنمو في ميدان السمع بوجه خاص» ص27
«يتلمس الأشياء التي تقع على طريقه تلمسا دقيقا» ص41
«إن الإحساسات السمعية تؤدي الآن في حياة الطفل الدور الأكبر، وأصبحت الأصوات هي الأشكال الأساسية التي يتخذها فكره، وأصبحت هي مركز عمله العقلي» ص68
«إن هذه الحساسية التي تزداد رهافة يوما بعد يوم، كانت تنبئ بأن بطرس يقترب من تلك السن الحرجة التي تفصل المراهقة عن الشباب» ص100
«كان الأعمى على سابق عهده، في قلب عالم واسع مظلم، يمتد الليل فوقه ومن حوله إلى غير نهاية... وكان كيانه كله مرهفا حساسا إلى أبعد حدود الرهافة والحساسية، وكأنه وتر مشدود، يهم أن يهتز مستجيبا لأي مؤثر. 102
وهذه الحساسية والرهافة الداخلية، تكبر وتتسع مع نمو الأعمى، وتسبب الكثير من القلق والتوتر لدى الأم والخال.
كل هذه الأدوات التي يستخدمها الطفل الأعمى ليندفع بشكل غريزي إلى نور الحياة، كانت تنعكس أحيانا على قسمات وجهه، حين يواجه شيئا غريبا وغير مألوف إلى حواسه.
بين قوس الخال وعكاز الموسيقى
في آخر جملة في «الموسيقي الأعمى» يكتب كورولنكو: «هكذا بدأ الموسيقي الأعمى» وهي في نهاية مشهد حفلة موسيقية صاخبة أقامها الطفل الأعمى، والذي أصبح الآن أبا، هذه الجملة مخادعة ومخاتلة للمتلقي، لأن الأعمى منذ طفولته المبكرة كان موسيقيا بالفطرة، حتى ولو لم يعزف، لكن رهافة مشاعره وحساسيته، كانت هي ألحانا لروحه الموسيقية الطفولية. وربما يقصد بأن رحلة قادمة أخرى للأعمى تبدأ الآن: «كانت هذه الآلات تشوق الأعمى كثيرا بأصواتها الخاصة التي تعبر عن ألوان شتى من العاطفة» ص161.
قد استفاد الخال من حب الطفل بطرس للموسيقى حيث أصبح هذا الحب «هو القطب الذي يدور عليه نموه العقلي» ص69، ليتخذ هذا الحب طريقا لتعليمه تاريخ بلاده من خلال الأغاني، ويحيط علما بأبطال الأغنية ومصائرهم وبمصير وطنه. «إن الإحساس الحي بالطبيعة التي نشأ فيها الأعمى وترعرع، وكذلك الشعور المرهف الأصيل باللحن الشعبي كل ذلك كان واضحا في هذه الألحان التي تخرج من بين أصابعه ارتجالا» ص210. أدّت الموسيقى دورا كبيرا في عوالم الأعمى النفسية والروحية، منذ ناي يوكيم، الذي أحدث نقلة كبيرة في حياة الأعمى، وكذلك بيانو الأم. فالناي هو رمز للبسطاء والفلاحين، والبيانو يرمز للطبقة الأرستقراطية. «صحيح أن البيانو أغنى وأحفل بالأصوات، وصحيح أن أصوات البيانو أقوى، ولكن البيانو حبيس الغرفة، أما الشبابة فيمكن حملها إلى الحقول حيث تبلغ زقزقاتها من قوة الامتزاج بهمهمة السهول العذبة» ص69، ولكن بطرس الأعمى استطاع في المعزوفة التي عزفها في آخر العمل في كييف، أن يصهر كل هذه العوالم والخبرات والمشاعر، ليبهر الجمهور المندهش من عزفه.
ويمكننا القول هنا من خلال تتبع علاقات الشخصيات داخل القصة، بأن مثلث الخال/ الأعمى/ الموسيقي بكل مظاهرها وهواجسها وإيحاءاتها، مثّل حضورا طاغيا على النص، كلُّ بأدواته وقدراته، رغم أننا نؤكد أن شخصية الأعمى هي المحورية التي قام العمل على هواجسها وتوترها وقلقها، لكن هذا لا يقلل من دور الخال، معلم الأعمى وأستاذه. ومهما توسعت وتشعبت العلاقات داخل القصة يظل الأعمى نقطة الارتكاز التي تدور حولها كل الأحداث والشخصيات، حتى العميان الذين دخلوا إلى العمل كانوا لخدمة فكرة أساسية داخل النص، وهي تلمس الأعمى حياة العميان في الخارج، وهؤلاء العميان سببوا صدمة نفسية للأعمى، ظل يعاني منها مدة طويلة.
لم يصل الطفل الأعمى لمرحلة الاندماج والانصهار مع عوالم الموسيقى بكل سهولة ويسر، رغم عناية العائلة وإيلفين بذلك، إلا بعد مراحل ورحلة شاقة، وحافلة بالعذابات الداخلية.
الكثير من الجوانب المدهشة التي يمكن تتبعها في هذا العمل المحكم في البناء السردي وعمق الشخصيات، تحتاج إلى دراسة موسعة، كالحوارات بين الشخصيات والمنولوج الداخلي، وتوزيع فضاءات النص بين المكان المغلق كالبيت، والفضاءات المفتوحة في الطبيعة، وأثر ذلك على تصاعد السرد.
«وكان يخشى على هذا العزف المرتجل القوي الذي يجري من روح الموسيقي حرا طليقا، أن يقطعه، كما كان يقطعه في السابق، تساؤل مقلق، يكشف عن جرح دام في قلب تلميذه» ص211، ولكننا كقراء كنا كذلك نخشى أن ينقطع حبل السرد والدهشة والقلق داخل هذا العمل الإنساني العميق.
حمود سعود قاص عماني
نُشرتْ قصة الموسيقي الأعمى في مجلة «روسكيه فيدموستي» عام 1886م. وطبعت في حياة الكاتب 15 مرة (ولعل آخر طبعة كانت عام 1898م)، وكان الكاتب في كل طبعة يُدخل تعديلات جديدة على النص. وهذا العمل السردي هو الذي أوصل الكاتب إلى الشهرة العالمية، علما بأن له أكثر من مائتي مؤلف تتراوح بين الأعمال الفنية والاجتماعية والأدبية النقدية، والمذكرات. يتضح من المقدمة التي كتبها ف.ن. شيرباكوف بأن مادة هذه القصة أُخذت من الواقع، ومن تأملات الكاتب في حياة البشر. يقول كورولنكو عن «الموسيقي الأعمى»:
«المادة التي استخدمتها هي ذكريات فتاة ولدت عمياء، وهي فتاة عرفتها في الطفولة، وكذلك مراقباتي لصبي هو تلميذي يفقد بصره بالتدريج، وأخيرا، مراقباتي لرجل أعمى، متطور ومتعلم، فضلا عن أنه موسيقي في المهنة». ص12
وقد قال عنه مكسيم غوركي: «كان كورولنكو بالنسبة إليّ، أكمل رجل من بين المئات الذين التقيتهم، وهو عندي نموذج مثالي للكاتب الروسي». وهذه الطبعة التي بين أيدينا هي الطبعة السادسة؛ وهي من ترجمة سامي الدروبي، وصدرت عن دار الفارابي ومكتبة السائح في بيروت سنة 2019. وقسم الكاتب القصة إلى سبعة فصول وخاتمة، وقد تم تحويل العمل إلى فيلم سينمائي عام 1960.
شرايين الحكاية
«من يدري؟ إن الإنسان يستطيع أن يكافح بغير الرمح والسيف؛ وهذا الطفل الذي جرحه القدر ظلما قد يشهر ذات يوم السلاح الذي يقدر عليه، من أجل أن يحمي هؤلاء البشر الفقراء الذين جارت عليهم الحياة أيضا، وعندئذ لا أكون أنا الجندي العجوز الأبتر، قد عشت في هذا العالم سدى...» ص35.
في هذه اللحظة قرر الجندي العجوز أن يعتني بهذا الطفل، بعدما كان يظن بأنه مجرد «دودة تزحف في التراب». من خلال هذا التأمل في مقدرة الطفل على التواصل مع العالم والآخرين من خلال الأصوات واللمس، وإن لديه قدرات خاصة كامنة بداخله، قرر هذا الخال (مكسيم) أن يعتني بالطفل، (لكن رحلة الاعتناء كانت شاقة متعبة للخال، ليس فقط بسبب عمى الطفل، ولكن التقلبات النفسية التي تحدث له)، وأن يثقف نفسه في هذا الجانب، حيث استقدم كتبا في علم الوظائف وفي علم النفس وعلم التربية، واطلع على أساليب تعليم العميان، كما قرر أن يعود إلى صفوف أولئك الذين يناضلون في سبيل القضايا النبيلة.
هل الاعتناء بطفل أعمى يُعَدُّ من القضايا النبيلة التي يمكن أن يناضل لأجلها هذا الخال؟ وهل هذا النضال يخفف من وطأة ماضي هذا الجندي العجوز؟ أليس كل هذا لتحقيق شهرة لم يستطع الخال تحقيقها في حروبه وحياته السابقة، ويريد من هذا الطفل الأعمى أن يحقق مجدًا وشهرة للعائلة، وبمعنى آخر ما الدافع وراء نضال هذا الخال؟
***
سنحاول أن نتتبع في هذا العمل علاقة الطفل الأعمى بالعالم الخارجي، وكيف نمت وتطورت وتوترت مع نمو الطفل؟ وكيف تخيّل الطفل الأضواء والأشياء والألوان؟ وكيف بدأت وتكونت علاقة الطفل بالموسيقى؟ وكذلك علاقة الأم والخال بالطفل الأعمى؟ وربما يتساءل القارئ عن غياب الأب في العمل؟ ولماذا كان ظهوره ضبابيا، وهل غيابه في العمل بالحقول لكي يعطي مساحة أوسع للخال؟ وكذلك سنتأمل بناء شخصيات العمل وظهورها، ووظيفتها داخل منظومة السرد.
وقبل الدخول إلى فضاءات العمل، يمكننا القول إنه ليس من السهل معالجة القضايا الإنسانية سرديا وإبداعيا، وخاصة إذا كانت هذه القضية تتناول ألم الأطفال، لأن الدخول إلى عوالم ونفسية الطفل، تحتاج إلى أدوات عميقة، وأن الثيمة التي تناولها عمل «الموسيقي الأعمى»، تتقاطع من أحد أفلام المخرج الإيراني مجيد مجيدي، «لون الفردوس».
استطاع الكاتب أن يبني شخصيات القصة بطريقة متماسكة ورصينة انسيابية، (نقصد بذلك بأن كل شخصية أدّت دورا مهما ومحددا في دوائر السرد) وإن دخول كل شخصية إلى عوالم القصة مبني على حاجة النص لهذه الشخصية أولا، يمهد الكاتب لهذه الشخصية بطريقة تتناسب مع جو القصة، وحاجة الطفل لهذه الشخصية ثانيا. نجد على سبيل المثال شخصية الطفلة (إيفلين) التي ظهرت في صفحة 73، وقد مهد كورولنكو لدخول الشخصية للنص من خلال الحديث عن والديها ص71، وكيف وصلوا إلى قرية بطرس (اسم الطفل الأعمى)، وقبل ذلك بقليل تحدّث الكاتب عن ملاحظة الخال وشعوره لحاجة ابن أخته إلى أصدقاء، نلاحظ هنا كيف أن حضور إيفلين، لم يكن مجانيا أولا أو زائدا في النص، وأن ظهورها لحاجة الطفل لتقوية الجانب النفسي والعاطفي والاجتماعي ثانيا، ومقدرة الكاتب على التمهيد لكل شخصية وصهرها في العمل السردي، لتقوم بدورها داخل النص، وكذلك لتبني هذه الشخصية علاقة مع الطفل ومع الشخصيات الأخرى. لذا سنرى تفاعل إيفلين في حياة الطفل في مرحلتي الطفولة والمراهقة، لتتزوج به في نهاية القصة.
وكأن دخول كل شخصية في العمل هدفه خدمة العوالم الداخلية والخارجية لشخصية الطفل الأعمى. أو بمعنى آخر، كأن الطفل وعوالمه وهواجسه يمثلان نهر السرد في القصة، والشخصيات الأخرى التي ظهرت في بداية العمل أو في الفصول الأخرى هي الروافد لهذا النهر السردي، رغم أن النص لم يكن مهتما كثيرا بتقدم الحكاية في السرد بقدر تركيزه على عوالم الطفل النفسية والروحية والعاطفية، وكيف تتفاعل حواس الطفل مع العالم الخارجي الذي لا يراه. لكن الطفل وبمساعدة الخال مكسيم كان يبذل جهده ووقته ليجعل ملامح العالم الخارجي محسوسة لدى الطفل. «وكان هذا يقع له خصوصا حين تتحول الانطباعات الخارجية التي يمكنه بلوغها، إلى إحساسات قوية جديدة تطلعه على حوادث جديدة في هذا العالم الذي لا يراه. إن الطبيعة الكبيرة الجبارة ليست موصدة أمامه تماما» ص39.
لذا يمكننا القول هنا، إن شخصية الطفل بطرس تمثل العمود الفقري للسرد في العمل، وحتى أثناء غيابه نلاحظ أن الشخصيات، تفكر به وفي عوالمه، كالخال والأم وإيفلين. وكذلك نلاحظ أن شبكة علاقات الطفل بالآخرين نمت وتوسعت بطريقة سلسة ومنصهرة مع نمو وعي الطفل وحساسيته بالعالم.
وسنذكر مثالا آخر على ظهور الشخصيات في العمل لخدمة الشخصية الرئيسة، ينطبق على ظهور سائس الخيل وعازف الناي والفلاح يوكيم، الذي سحر عالم الطفل، وجعله يعشق الموسيقى، لم تدخل هذه الشخصية بشكل فج أو كتأثيث للحكاية في جو النص، بل لحاجة الطفل لصوت يخرجه من عوالمه وغربته. وضرورة أن تنمو قدرات الطفل في التواصل مع عالمه الخارجي، وأن تشبع رهافة وحساسية الطفل بصوت خارج البيت، بعدما تمكن من صهر الأصوات القريبة في المنزل لعالمه الداخلي، ودهشته عندما سمع لأول مرة صوت الناي، وكيف أنه في إحدى الليالي خرج وحده إلى حيث يعزف يوكيم الناي. وقد مهّد الكاتب لهذه الشخصية مسبقا، حيث يخبرنا عن وجعه العاطفي عندما تركته حبيبته ماريا، وكذلك قصة بحثه عن ناي، يناسب شجنه، وبعدما جرّب العشرات من النايات، ورحلة بحثه الطويلة والشاقة في السهول والجبال عن هذا الناي. هذه التفاصيل الجانبية أو ما أسميها بـ«الروافد السردية» غير منفصلة عن نهر النص، أو الشخصية المركزية؛ وهو الطفل الأعمى. وكأن هذه الشخصيات أو التفاصيل التي ينثرها الكاتب تشبه الألحان الموسيقية في سيمفونية الأعمى.
تتصاعد الأحداث والحوارات بما يتناسب مع عمر الأعمى وقدراته، حيث إننا كلما تقدمنا في الأحداث والسرد تظهر صفات وملامح الشخصية بطريقة سلسة وبشكل تدريجي، وتظهر معها إشكاليات نفسية وروحية كذلك، وقد اعتنى الكاتب بطريقة فنيّة متقنة بالعوالم الداخلية للشخصيات. ما تشعر به وما يقلقها، وخاصة الأم وطفلها وإيفلين والخال (وحتى ألم عازف الناي يوكيم، وما يعانيه من جرح عاطفي)، وعلاقة هذا الأعمى بالعالم الخارجي وعوالمه الداخلية الغامضة، ويحاول جاهدا ربط العوالم الداخلية والخارجية من خلال تطوير أدوات تواصله، اللمس والسمع والإنصات للأصوات ولهسهسة الليل وحفيف الأوراق.
***
أما عن علاقة الأم بطفلها فيبدأ القلق من الصفحة الأولى، من لحظات الولادة.
«أخذت الأم تضطرب إلى فراشها، وهي مغمضة العينين وهمهمت شفتاها بكلام، وظهرت على وجهها الشاحب، الناعم القسمات، الذي يكاد أن يكون وجه الطفل، علائم ألم تضيق به، كما يضيق طفل مدلل بحزن يعانيه، ولم يألفه من قبل» ص17.
وهذا القلق يبدأ يكبر ويتشكل في قلب الأم ويتوسع، ويظهر في صور مختلفة، وتعابير شتى، «ومن حين إلى حين، كان الألم الشديد الذي لا يمكن أن تعبّر عنه الحركات، ولا تفصح عنه الكلمات، يفجر من عينها قطرات من الدمع كبيرة» ص18. هذا القلق والتوتر والألم يبدأ يكبر مع نمو الطفل، وشعور الأم بأن طفلها لا يتفاعل معها. فوجه الطفل ظل ساكنا دائما. لذا ظل القلق والتوتر والخوف ملازما لشخصية الأم داخل العمل. ولعل شعور القلق الدائم هي الصفة المشتركة بين الأم وطفلها. «وكانت ممسكة بيده أحست بالطفل يرتعش ويضطرب» ص100«كانت الأم تضطرب كالطير الجريح، وهي تشد ابنها إلى قلبها، ولكن عيني الصغير لم تتغير نظراتهما الخائبة الساكنة» ص20.
من خلال الأمثلة السابقة، والكثير من الأمثلة الواردة في القصة الدالة على قلق الأم الدائم والمتصاعد على/ ومع طفلها، وشعورها الداخلي بأن هناك شيئًا غير طبيعي في طفلها، ونمو هذا القلق، يوضح لنا أولا: بأن شخصية الأم القلقة أعطت العمل عمقا نفسيا، وثانيا: دقة وصف الكاتب للعوالم الداخلية لهذه الأم، ومقدرته على تصوير القلق والتوتر والألم الداخلي، بأوصاف مختلفة في كل مرحلة من مراحل نمو الطفل منذ يومه الأول إلى أن أصبح أبا. ونقل قلق الأم إلى المتلقي بطريقة انسيابية وسلسة دون افتعال المشاعر والعواطف، أو البحث عن شفقة أو تعاطف مع حزن الأم، التي شبهها كحمامة جزعة. «فكانت المرأة الشابة تنظر إلى الناس كحمامة جزعة، وتسأل:
قولوا لي لماذا هو كذلك؟ ص19 كل ذلك يسير بنا في خط واحد متوازٍ (قلق الأم/ ونمو قدرات الطفل في التواصل مع العالم الخارجي/ ومحاولات الخال مكسيم)، لذا نلاحظ نمو علاقات الطفل بالشخصيات والطبيعة بشكل تدريجي، وانسيابي، وبنسب متوازنة مع مدى وعي وتقبل الطفل لهذه العوالم الخارجية. (وهذا ما لاحظه الخال مكسيم، حيث كان حريصا على ألا يتعرّض بطرس للكثير من الأصوات والمعارف الخارجية حتى لا تسبب له الكثير من القلق والتوتر والحساسية، كان مكسيم ذكيا في ملاحظة النمو الروحي والجسدي والعاطفي والاجتماعي للطفل الأعمى) حيث يبدأ أولا علاقته الغامضة مع الأصوات، ومدى تأثير هذه الأصوات على عوالمه الداخلية. وكذلك يمكن أن نذكر بأن الأشياء التي تدخل حواس الطفل يجب أن تتناسب مع رهافة مشاعره وحساسيته المفرطة مع كل شيء، فهذا الطفل ليس ككل العميان، قد رافقته مع رحلة العمى مشاعر زادت، وعقدت من تعامله مع العالم والحياة، كحساسيته الشعرية مع الطبيعة ورهافة مشاعره مع الموسيقى. لذا في طفولته تقبّل عزف الناي؛ لأنه يتناسب مع مرحلة انسجامه مع الطبيعة بكل مظاهرها، ولم يتقبّل البيانو إلا لاحقا.
«سرعان ما أصبح يعرف أمه من خطواتها، ومن حفيف ثيابها» ص26
«ولكن اتضح شيئا فشيئا أن حدة إحساسه كانت تنمو في ميدان السمع بوجه خاص» ص27
«يتلمس الأشياء التي تقع على طريقه تلمسا دقيقا» ص41
«إن الإحساسات السمعية تؤدي الآن في حياة الطفل الدور الأكبر، وأصبحت الأصوات هي الأشكال الأساسية التي يتخذها فكره، وأصبحت هي مركز عمله العقلي» ص68
«إن هذه الحساسية التي تزداد رهافة يوما بعد يوم، كانت تنبئ بأن بطرس يقترب من تلك السن الحرجة التي تفصل المراهقة عن الشباب» ص100
«كان الأعمى على سابق عهده، في قلب عالم واسع مظلم، يمتد الليل فوقه ومن حوله إلى غير نهاية... وكان كيانه كله مرهفا حساسا إلى أبعد حدود الرهافة والحساسية، وكأنه وتر مشدود، يهم أن يهتز مستجيبا لأي مؤثر. 102
وهذه الحساسية والرهافة الداخلية، تكبر وتتسع مع نمو الأعمى، وتسبب الكثير من القلق والتوتر لدى الأم والخال.
كل هذه الأدوات التي يستخدمها الطفل الأعمى ليندفع بشكل غريزي إلى نور الحياة، كانت تنعكس أحيانا على قسمات وجهه، حين يواجه شيئا غريبا وغير مألوف إلى حواسه.
بين قوس الخال وعكاز الموسيقى
في آخر جملة في «الموسيقي الأعمى» يكتب كورولنكو: «هكذا بدأ الموسيقي الأعمى» وهي في نهاية مشهد حفلة موسيقية صاخبة أقامها الطفل الأعمى، والذي أصبح الآن أبا، هذه الجملة مخادعة ومخاتلة للمتلقي، لأن الأعمى منذ طفولته المبكرة كان موسيقيا بالفطرة، حتى ولو لم يعزف، لكن رهافة مشاعره وحساسيته، كانت هي ألحانا لروحه الموسيقية الطفولية. وربما يقصد بأن رحلة قادمة أخرى للأعمى تبدأ الآن: «كانت هذه الآلات تشوق الأعمى كثيرا بأصواتها الخاصة التي تعبر عن ألوان شتى من العاطفة» ص161.
قد استفاد الخال من حب الطفل بطرس للموسيقى حيث أصبح هذا الحب «هو القطب الذي يدور عليه نموه العقلي» ص69، ليتخذ هذا الحب طريقا لتعليمه تاريخ بلاده من خلال الأغاني، ويحيط علما بأبطال الأغنية ومصائرهم وبمصير وطنه. «إن الإحساس الحي بالطبيعة التي نشأ فيها الأعمى وترعرع، وكذلك الشعور المرهف الأصيل باللحن الشعبي كل ذلك كان واضحا في هذه الألحان التي تخرج من بين أصابعه ارتجالا» ص210. أدّت الموسيقى دورا كبيرا في عوالم الأعمى النفسية والروحية، منذ ناي يوكيم، الذي أحدث نقلة كبيرة في حياة الأعمى، وكذلك بيانو الأم. فالناي هو رمز للبسطاء والفلاحين، والبيانو يرمز للطبقة الأرستقراطية. «صحيح أن البيانو أغنى وأحفل بالأصوات، وصحيح أن أصوات البيانو أقوى، ولكن البيانو حبيس الغرفة، أما الشبابة فيمكن حملها إلى الحقول حيث تبلغ زقزقاتها من قوة الامتزاج بهمهمة السهول العذبة» ص69، ولكن بطرس الأعمى استطاع في المعزوفة التي عزفها في آخر العمل في كييف، أن يصهر كل هذه العوالم والخبرات والمشاعر، ليبهر الجمهور المندهش من عزفه.
ويمكننا القول هنا من خلال تتبع علاقات الشخصيات داخل القصة، بأن مثلث الخال/ الأعمى/ الموسيقي بكل مظاهرها وهواجسها وإيحاءاتها، مثّل حضورا طاغيا على النص، كلُّ بأدواته وقدراته، رغم أننا نؤكد أن شخصية الأعمى هي المحورية التي قام العمل على هواجسها وتوترها وقلقها، لكن هذا لا يقلل من دور الخال، معلم الأعمى وأستاذه. ومهما توسعت وتشعبت العلاقات داخل القصة يظل الأعمى نقطة الارتكاز التي تدور حولها كل الأحداث والشخصيات، حتى العميان الذين دخلوا إلى العمل كانوا لخدمة فكرة أساسية داخل النص، وهي تلمس الأعمى حياة العميان في الخارج، وهؤلاء العميان سببوا صدمة نفسية للأعمى، ظل يعاني منها مدة طويلة.
لم يصل الطفل الأعمى لمرحلة الاندماج والانصهار مع عوالم الموسيقى بكل سهولة ويسر، رغم عناية العائلة وإيلفين بذلك، إلا بعد مراحل ورحلة شاقة، وحافلة بالعذابات الداخلية.
الكثير من الجوانب المدهشة التي يمكن تتبعها في هذا العمل المحكم في البناء السردي وعمق الشخصيات، تحتاج إلى دراسة موسعة، كالحوارات بين الشخصيات والمنولوج الداخلي، وتوزيع فضاءات النص بين المكان المغلق كالبيت، والفضاءات المفتوحة في الطبيعة، وأثر ذلك على تصاعد السرد.
«وكان يخشى على هذا العزف المرتجل القوي الذي يجري من روح الموسيقي حرا طليقا، أن يقطعه، كما كان يقطعه في السابق، تساؤل مقلق، يكشف عن جرح دام في قلب تلميذه» ص211، ولكننا كقراء كنا كذلك نخشى أن ينقطع حبل السرد والدهشة والقلق داخل هذا العمل الإنساني العميق.
حمود سعود قاص عماني