نزار روحانا عازف عود متميز ومؤلف موسيقي فلسطيني حاز مؤخرًا درجة الدكتوراة في الموسيقى من جامعة لايدن عن أطروحة بعنوان «التقسيم على العود كنموذج للتأليف المسبق»، ويتضمن قسمًا تحليليًا لنماذج من تقاسيم الأساتذة محمد القصبجي (1898 ـ 1966) ورياض السنباطي (1906 ـ 1981)، مع مقارنات لنماذج من عازفين أقدم كالحاج سيد السويسي والملحن الكبير داود حسني. كما تطلبت حيازة الدكتوراة تأليف خمس قطع، مستوحاة من أساليب التقسيم وتحليلها، ومنها ما هو متاح على اليوتيوب بعزف مؤلفها نفسه كتقسيم راست، ومؤلفات صفصاف أبيض، ودالية، ومفردات نهوند. فيما يأتي عرض ونقاش للجانب التحليلي والنظري لهذه الأطروحة.
أطروحة ذات فوائد عملية متعددة
تستجيب الأطروحة بداية لحاجة د. نزار روحانا نفسه إلى فهم أسلوب وتركيبة التقاسيم وإغناء قدرته على عزفها، وإلى تأليف قطع مستوحاة من أساليبها. لكنها أيضاً تستجيب إلى حاجة تعليمية، بخاصة في ظل ضعف العلاقة بين المنظرين والممارسين في موسيقانا، وضعف القدرة على تعليم التقاسيم في معاهدنا. ذلك أن معظم أساتذة العود قادرون على شرح الانتقالات المقامية، ولكن ليس على تعليم الطالب كيف يعزف تقاسيمه الخاصة فهذا يتم تعلمه بالتشرّب والاستماع والتقليد. لكن ألا تتيح معارفنا الحالية طريقة أفضل وأسهل لفهم الإطار العام لعمل التقسيم، وتفكيك تقنيات الأساتذة الكبار بما يسهل استيعابها، وهو ما لا يعفي من ضرورة الاستماع والتشرّب لها، ولكنه يجعله أقرب إلى المتناول؟
هكذا تصبح للأطروحة فوائد عملية وتعليمية، فهي تعرض بسرعة إلى ظهور التقاسيم في الموسيقى التركية منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر، وإن كنا لا نعلم متى ظهر هذا النوع من العزف في الموسيقى العربية، فربما كان أقدم من ذلك، وتعرض للآراء حول سبب تسميته بالتقسيم فمن قائل بأنه يستعرض أقسام المقام قسماً فقسماً، ومن قائل بأنه مقسم إلى جمل منفصلة أو يقسم الوحدات النغمية والإيقاعية للجمل...الخ. كما يقدم إجمالاً وافياً بأنواع الانتقالات المقامية من مقام إلى آخر، أو من جنس (والاسم مشتق من genos اليونانية القديمة على ما يقول نزار روحانا) وهو تتابع عدد من النوتات في السلم، ويغلب أن يكون أربعة بينها أبعاد موسيقية محددة، فهنالك الانتقال العارض والانتقال المكتمل، المتدرج أو المفاجئ، المعتاد والنادر، إلخ. كما يعرض لأنواع التقاسيم في ذاتها، بين التقسيم الموقّع إيقاعياً والحرّ، والتقسيم المرسل المنفرد، وآخر يكون تمهيدًا للغناء أو داخلاً ضمن مقطوعة أو أغنية. كما أنها تقدم لنا عرضًا لتعقد العلاقة بين الارتجال والتأليف، وكذلك هيكلاً عمليًا وفهمًا معمقًا لبنية التقاسيم يمكن أن يساعد العازفين أنفسهم على التفكير فيها وإنتاجها.
بين الارتجال والتأليف: لا تضاد
لكن روحانا، إذ يقول: بأن كل عازف شرقي هو بالضرورة مرتجل؛ لأنه لا يعزف بالصورة نفسها الجملة الموسيقية مرتين، لا ينبه إلى ضرورة التفريق بين الزخرفة ـ وهي نوع من الارتجال طبعًا، لكنها تنويع ولعب حول جملة ممنوحة سلفًا ـ وبين ارتجال جمل كاملة وهو ما لا يفعله بالضرورة جميع العازفين أو المغنين. غير أنه يشير بحقّ إلى تعقيد العلاقة بين الارتجال والتأليف، فارتجال جمل كاملة هو نوع من التأليف، الآني والسريع والمبني على خبرة مسبقة وبنية تم تشرّبها من قبل، فهذه ليست أضدادًا ينفي واحدها الآخر بل هي على ما ينقل روحانا عن الباحث الراحل برونو نيتل، نقاط على خط متصل، يتعلق التمييز بينها بالوقت المتاح (وبتوقعات المستمع على ما حاولت أن أشرح من قبل في برنامج لي بعنوان «أضداد» موجود ضمن إذاعة مجلة معازف على (الإنترنت). وهو ينقل عن فيم فان در مير، المختص الهولندي بالموسيقى الهندية، أن معظم ما يبدو أداءً ارتجاليًا «يأتي من الذاكرة، ولعل المسألة الأهم هي معرفة على أي عمق في الذاكرة قد دُفنت هذه الموسيقى».
فإذا ما استخدمنا تعبيرًا مختلفًا عن اقتراح نزار نفسه، سيكون السؤال ليس عن «تأليف» القصبجي والسنباطي لتقاسيمهما، أو «التأليف المسبق» pre-composition وإلى حد ما (وهو ما يقول إنه يشتبه فيه وإن كان من الصعب إثباته إلا استنتاجًا من فرادة بعض الجمل وتعقيدها، مما يجعل من الصعب تصديق أنها أتت عفو الخاطر)، بل يكون السؤال عن مستوى «التهيئة والتحضير» لهذه التقاسيم. وليس من الصعب القبول بهذا؛ لأن نزار اختار النماذج التي سيحللها في إطروحته من التقاسيم المسجلة في الاستوديو، سواء بالنسبة للسنباطي (أي التقاسيم الست المسجلة في سبعينيات القرن الماضي) أو بالنسبة للقصبجي على أسطوانات في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي حيث كان الطول المتاح تسجيله على وجه الأسطوانة لا يتجاوز الدقائق الثلاث إلا بثواني قليلة. وقد سبق للباحث والعازف المصري د. طارق عبد الله أن أشار إلى واقعة لافتة، حيث إن القصبجي قد سجل في تلك الفترة تقسيمًا واحدًا على وجهي أسطوانة كاملة، وهذا بداهة يتطلب أن يكون قد حضّر وحسب أطوال جمله مسبقًا حتى لا يفاجئه التوقف الضروري للتسجيل على الوجه الثاني للأسطوانة. ويشير نزار مثلاً إلى تطابق شبه تام بين جمل عزفها القصبجي في تقسيمتين من مقام النهاوند سنتي 1921 و1923. ولن يفاجئنا أن نعرف أن الاختلافات بين تقاسيم فريد الأطرش التي تسبق أغنية «أول همسة» في حفلات المختلفة لا تكاد تذكر، وأن جميل بشير ومنير بشير سجلا تقاسيمًا في أوقات مختلفة تكاد تكون متطابقة. غير أن هذا الاختيار بالضبط، أي اختيار تقاسيم مهيئة سلفًا لضرورات الاستوديو، وقد لا يقتصر الأمر فيها من الناحية الارتجالية إلا على الزخرفة حول جمل قد تشكّلت ملامحها الأساسية من قبل في ذهن العازف، هو ما يفتح باب التساؤل إن كان نزار روحانا سيعثر على النتائج نفسها أو سيغيرها بعض الشيء فيما لو أخضع تقاسيم القصبجي والسنباطي المأخوذة من حفلات أو من جلسات خاصة للتحليل عينه.
بنية التقاسيم
تساعدنا الأطروحة إذن على تجاوز الفصل الدوغمائي بين الارتجال والتأليف، كما أنها تجمع المسميات الموجودة في دراسات الباحثين السابقين، وتقترح أحيانًا جديدًا منها، وتقدم تحديدات لما يحصل أثناء التقسيم وهيكلته من خلال عمل تحليلي تطبيقي على تقاسيم متاحة للجميع على الإنترنت، وهذا سيكون مفيدًا جدًا للتدريس والتعلم. فيتبدى من خلال هذا التحليل أن التقسيم يتركّب عموماً من عرض exposition للمقام المختار (أو قد يسمى أيضاً استهلالاً) ويكون من فاصلة (أي جملة أو مجموعة من الجمل الموسيقية المنفصلة عما قبلها وبعدها بزمن من الصمت) أو اثنتين على الأكثر، ومن أقسام لاحقة Sections أو قد يسميها أيضًا development، حيث يقوم الموسيقي بتنمية أفكاره الموسيقية، واستغلالها وتكون من اثنين فصاعدًا وصولًا إلى ستة كما في تقسيم نهاوند لرياض السنباطي. وكل قسم يكون من عدد من الفواصل يتبع في العموم بنية ثلاثية يمكن أن نسميها بمصطلحات عربية الطرح أو الشد (action بتعبير روحانا) والرد أو الإرخاء (resolution)، والغطاء (cadence)، ويمكن أن نسميه قفلة (وهو ما يستخدمه روحانا) لولا أنني أفضل حفظ هذا المصطلح لنهاية أي جملة في العموم، بينما الغطاء مصطلح مستعار من بنية الموشحات المغناة. وقد يحدث أحيانًا أن يندمج الرد مع الغطاء في قسم واحد مطول.
وإذا نظرنا عن قرب أكثر إليها نجد أن الطرح أساسًا هو انتقال من مستقر المقام الأساسي إلى درجة أخرى (أو إلى درجة مختلفة عن مستقر المقام الذي تم الانتقال إليه لاستكشافه في هذا القسم من التقسيم)، وإضفاء لون جديد من خلال الجنس المرتبط بهذه الدرجة. وإن الرد هو الرجوع بعدد من الخطوات إلى المستقر، وأن الغطاء هو توكيد الاستقرار والركوز. والغطاء الأخير في التقسيم هو القفلة الختامية أو ختام التقسيم، ويفترض أن يكون غنيًا كفاية، ومشبعًا للحاجة إلى الاستقرار، لذا يغلب أن تسبقه مرحلة ذروة climaxفي التقسيم، وتكون هذه الذروة، إما بالتركيز على أكثر الدرجات حدة، وبالتالي أبعدها عن المستقر، أو بتتابع سريع لانتقالات مقامية أو بغير ذلك من الأساليب التي تولد درجة عالية من التوتر النغمي، ليأتي الختام بالراحة منه والعودة إلى نقطة المستقر الأليفة.
تساعد هذه الملاحظات على تصوّر بنية عامة للتقاسيم، وساعدت نزارًا بالتالي على تأليف مقطوعاته المستوحاة من أسلوب التقاسيم، كما أن تطبيقها مع الأدوات التحليلية الأخرى على تقاسيم السنباطي والقصبجي يسمح لنا بالتعمق في فهم الاختلافات بين أسلوبيهما.
القصبجي المعقد والسنباطي اللذيذ
فالقصبجي، بحسب تحليل نزار روحانا، يعتمد على استهلال سريع وقسمين إضافيين على الأغلب (مع استثناء في تقسيم الحجاز) تجري فيهما انتقالات مقامية كثيرة (تكون أحياناً على نفس درجة الاستقرار) في زمن قصير، وصولاً إلى ذروة واحدة، غالباً ما تكون في المنطقة الحادة صوتياً وتكون بالغة التعقيد والطول. والفواصل الطويلة هذه من أهم سمات تقاسيم القصبجي، إضافة إلى استخدامه لأفكار مثل الترجيع (أي استخدام متكرر لنوتة في القرار الغليظ مع استمرار جملة ميلودية في منطقة أخرى) وعكسه المسمى زيرـ بم أو التعليق (أي تكرار درجة حادة، غالباً ما تكون على وتر مفتوح، بينما تستمر الجملة الميلودية في منطقة أخفض منها)، والإقامة مع دعمها بدرجة القرار (أي تكرار النوتة نفسها، مع استخدام متفاوت إيقاعياً لقرارها، أي للنوتة التي تنخفض عنها أوكتافاً أو ديواناً كاملا). ومن سمات القصبجي البارزة أيضاً تنوع التركيبات الإيقاعية التي تنتجها ريشته (وهذا ما يشترك معه فيه داود حسني، إلا أن هذا الأخير يهتم حصرًا بالجانب الإيقاعي، بحسب روحانا، ولا يقدم ذروة وغطاء بعدها)، بالإضافة إلى قلة استخدامه للمتتاليات الواضحة أو السلاسل sequences أي قلة استخدام التركيبة نفسها من تتابع النوتات، أما تكرارًا على الدرجة نفسها أو على درجات متلاصقة، صعودًا أو هبوطًا، ضمن السلم المقامي المختار (كما في ضربات الغيتار في مقدمة أغنية أنت عمري مثلاً) في حين أن استخدامها أصبح لاحقًا الطريقة الأبرز في التأليف والتلحين عندنا.
أما السنباطي فهو أكثر تمهلاً (وربما كان ذلك لأن المدة المتوسطة لتقسيمه ست دقائق في مقابل نصفها للقصبجي) بما في ذلك إجراء الانتقالات المقامية، ومنح كل منها وقتاً أطول، وأكثر أقسامًا في تسجيلاته، كما أنه قد يدخل ذروتين لا واحدة فقط في التقسيمة. ويتميز بإدماج مقاطع شبه موزونة إيقاعيًا أو هي موزونة في تقسيم غير موقّع، وباستخدام متوسع للمتتاليات الواضحات من التراكيب، وهو يعود بشكل شبه مستمر إلى درجة الاستقرار أو الركوز في معظم الأقسام بخلاف القصبجي الذي قد يحتفظ بالنزول إليها حتى مرحلة الختام. وبخلاف القصبجي أيضاً فإنه قليل الاستخدام لتقنية الإقامة المدعّمة بالقرار. كذلك يستخدم السنباطي، بحسب روحانا، تقنية التوتّر المعلّق من خلال التوقف عند نغمات غير متوقعة أو نغمات يميل السامع باعتبارها غير مستقرة (leading tone) ويتوقع بالتالي الاستمرار بعدها، لكنه يصطدم بالصمت الذي يشحن عندئذ التوتر، ويتركنا معلقين في الانتظار. ويشير الباحث أخيرًا إلى تأثر تقاسيم السنباطي المتأخرة زمنيًا بألحانه التي لحنها خلال مسيرته الطويلة لجهة تركيب الجمل ووضوح بنائها وقفزاتها وإيقاعيتها، وكذلك إلى أن النبض الذي يمكن قياسه في تقاسيمه (أي سرعة ما يمكن اعتباره وحدة زمنية) أكثر طواعية وقد يتباطأ أحياناً، في حين إنه شبه ثابت على سرعة عالية عند القصبجي.
ما سبق يسمح لنا، بشكل غير مباشر وإن كان الباحث لم يتطرق إليه صراحة، بفهم سبب تعظيم الجميع لعزف القصبجي لكن دون اتباع نهجه عن قرب في أدائهم (مع استثناءات قليلة مثل تقاسيم بهيجة حلمي التي ضمها إصدار تسجيلات العود الصادر عن مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية ـ أمار قبل بضع سنوات، وكذلك تلميذة القصبجي المطربة نادرة) ودون انتشار الاستماع إليه كثيراً في أوساط الجمهور عموماً، في حين أن السنباطي أكثر انتشارًا واستماعًا بالكثير إلى عزفه، وأقرب تناولاً إلى المستمعين، وأوضح تأثيرًا عند الكثير من العازفين، ذلك أن الاستماع إلى السنباطي أسهل بفعل التكرار الذي ينتج عن المتتاليات، ويستتبع ذلك وضوح الجمل والقدرة على تذكرها، وبفضل اللذة الناجمة عن العودة المتكررة والمريحة إلى درجة المستقر كمن يعود من سفرٍ إلى ألفة البيت، وأخيرًا لأن تقاسيمه تشابه أيضاً ألحانه ومنطقها الذي أصبح مشهورًا ومنتشرًا. أما القصبجي فإضافة إلى سرعته، وزخم ريشته فإن العودة إلى ألفة درجة الركوز قد لا تحدث إلا في الختام، ولا تكاد تتكرر لديه التركيبات الإيقاعية لما لديه من مخزون ضخم منها، ولا يكاد السامع غير المتمرس يتبين فيها إطار الجملة وحدودها؛ لقلة التكرار وقلة المتتاليات الواضحات (أما الحديث عن الموتيف لديه فهو في رأيي غير مجدٍ؛ لأنه لا يبني عليه، بخلاف الحديث عن الموتيف الذي هو وحدة بناء المؤلفات السمفونية مثلاً)، كما أن سرعة وكثرة الانتقالات المقامية لديه لا تسمح بالاندماج في واحد من المقامات مطولاً، وهذا أشبه ما يكون بطريقة تلحين القصبجي للمونولوجات التي غنتها أم كلثوم ولم يجسر أحد مذ ذاك على استعادتها لصعوبتها في الحفظ وفي الأداء. كل ذلك يشير إلى أن فهم القصبجي، في ألحانه وفي تقاسيمه، لا يزال يحتاج تحليلاً أوسع لإدراك كيف يتماسك لديه ما ليس يتكرر، وهل هنالك حركة بنيوية متماسكة خلف جمله التي تلوح غير متكررة، وربما يسمح لنا هذا مستقبلاً بفهم أفضل لرؤيته للمقام ولكيفية اشتغال الموسيقى.
الأكاديمية وحدود بؤرة النظر
ربما لم تتح المساحة والفرصة للدكتور روحانا للتوسع في هذا الاتجاه، مثلما لم يتوسع في إشاراته إلى «الألوان» التي تضفيها الأجناس المختلفة (هل الأجناس مجرد تلوين فيمكن استبدال واحدها بآخر؟) حول درجات هامة ومحددة في السلم أو في مسألة الاتجاه أو الحركة قدماً في المقطوعة أو التقسيمة باتجاه الذروة وكيفية حدوث ذلك، رغم أنه أشار إلى ذلك بسرعة، خصوصاً في حديثه عن مؤلفاته. وقد يكون السبب هو التوجه الأكاديمي، ونوع الدكتوراة التطبيقية، حيث ينبغي تأليف هذه المقطوعات إثر هذا التحليل ومتطلبات هذا التوجه التي تقسر الباحث على التركيز على مسألة واحدة (وهي تركيبة التقاسيم وتقنياتها التأليفية للاستفادة منها في تآليفه) فتضيق إطار النظر إلى ما حولها كثيراً، وهذا ليس مأخذاً على عمله بل على طبيعة المطلوب أحياناً من وجهة نظر الأكاديمية. وربما كان أيضاً أن مساحة البحث انشغلت أحياناً بقضايا في نظري، ليست على القدر نفسه من الأهمية ولا الصحة، كمسألة ربط التركيبات الإيقاعية بعلم العروض الشعري العربي، وهذه مسألة شائكة إلا أن ملاحظة تطبيقها لديه تبرز خطأها من وجهة نظري. فاعتبار أن تتابع ضربة سريعة (دون تحديد هل هي مسبوقة بسكتة أم لا) وأخرى بطيئة هو معادل موسيقي لتركيبة الوتد المجموع في العروض، أي متحركين وساكن، يتجاهل الزمن الذي يفترض أن يأخذه هذا الساكن. فلا يعقل أن يكون موازي تفعيلة «فاعلن» يتراوح، لدى العازف نفسه، ما بين وحدة زمنية وربع وبين ثلاث وحدات زمنية وربع! مثل هذا كان ليكسر إيقاع الشعر وهو لا ينطبق أبداً على العروض الذي كان أصلا وسيلة لضبط إيقاع الشعر وعلى الأرجح لإنشاده وفق ترنم معروف في زمنه، على غرار الزجل اللبناني مثلاً. وتتبع روحانا لأنواع التراكيب الإيقاعية لدى القصبجي يظهر ما يفوق خمسة وعشرين تركيباً في مساحة لا تتجاوز وحدة زمنية ونصفها، فأين هذا من حصرها بـ« فاعلن» و«فعولن»؟ القصد أن تركيبات الإيقاع في الموسيقى أغنى وأعقد كثيراً من حساب المتحرك والساكن في العروض الذي هو حالات مخصوصة من الإيقاع في الكلام، وليس أصلاً للنغم في تقديري. والتركيز حصراً على البؤرة المفروضة قد يؤدي إلى غياب نقاط مجاورة مهمة، إذ ما يظل مثلاً من نظرية المقام نفسها (في فهمها الحالي، سواء كونها سلماً موسيقياً وسيراً أي تحركاً بشكل مخصوص داخل هذا السلم، أو كونها تراكب أجناس فوق بعضها) إذا كان القصبجي يعاملها بهذا القدر من الانتقالات السريعة إلى أجناس مختلفة؟ ألا يستحق المقام تنظيراً جديداً مبنياً على مثل هذا التحليل وعلى ما نعرفه من مصادر أخرى، بخاصة وأن «المفترض» في التقسيم تحقيق للمقام واستكشاف لإمكانياته وطريقة سيره؟
أخيراً، في رأيي، يؤدي هذا التركيزإلى غياب ملحوظ في الأطروحة لمسألة العوامل التقنية التي تنتج الطرب، أي لما هو الهدف أصلاً من عزف التقسيم، ولما يسمح بتشكيل موقف المتلقي له. فمعاملة التقسيم من خلال تدوينه بالنوتة ثم تحليله، دون دراسة تلقيه وسماعه، تصطدم أولاً بالاختزال الذي تفرضه النوتة الذي يظهر حتى في مقارنة عزف نزار لمؤلفاته نفسها في مقابل تدوينه لها، مع ما يستتبعه ذلك من اختلافات ممكنة في التدوين وفي تقطيعه، وتصطدم ثانياً بعدم إيضاح المغزى من التقنيات المختلفة المستخدمة وبالتالي من ربط التقنية بهدفها، أي الطرب، وبحث كيفية إنتاجها له، كمسألة التضاد بين طول فاصل الذروة وسرعة القفلة مقارنة به، لدى القصبجي على سبيل المثال (رغم أن روحانا يشير إلى احتسابه أطوال المقاطع في تآليفه ونسبتها إلى بعضها البعض، دون أن يتوسع في الهدف من ذلك التناسب)، أو دور الانتقالات المقامية المفاجئة. فلعل من المهم مستقبلاً إدراج موضوع التلقي، وكيفية السماع في دراسة التقسيم، وفي ما يسمح للمستمع بمعرفة انتماء العزف إليه من خلال علامات تسمح بسرعة للمستمع برسم ملامح ما سيتم استقباله على أنه تقسيمة (طبيعة الاستهلال مثلاً وفي الأغلب عدم وضوح الإيقاع في البداية والمراوحة بين المرسل والموزون إيقاعياً والسكتات التي توحي بالتفكير والوقفات التي توحي بالتمهل والتردد، وتكرار حركات الريشة ما يمنح العزف أولية على الفكرة الميلودية..الخ).
هذه إشارات إلى أبواب أخرى قد يرغب د. نزار في المستقبل أو سواه من الباحثين بدراستها وتطوير أشكالياتها بشكل أعمق. ويحمد لروحانا مثل هذا الإنتاج الجدي والثري بالأفكار والتحليلات الذي يمكن لكثيرين من أساتذة العود الاستفادة منه في فهم ممارساتهم وفي تعليمها لطلبتهم، على أن الحاجة ملحة لذلك إلى توفيره بالعربية بين أيديهم بدل انحصاره في بحث بالإنجليزية في بلد بعيد، وهو ما يرجو المرء أن يجد مهتمين به حتى لو تطلب ذلك أن ينشر في صيغة أقل أكاديمية وأقرب متناولاً.
فادي العبد الله كاتب وناقد موسيقي وشاعر من لبنان
أطروحة ذات فوائد عملية متعددة
تستجيب الأطروحة بداية لحاجة د. نزار روحانا نفسه إلى فهم أسلوب وتركيبة التقاسيم وإغناء قدرته على عزفها، وإلى تأليف قطع مستوحاة من أساليبها. لكنها أيضاً تستجيب إلى حاجة تعليمية، بخاصة في ظل ضعف العلاقة بين المنظرين والممارسين في موسيقانا، وضعف القدرة على تعليم التقاسيم في معاهدنا. ذلك أن معظم أساتذة العود قادرون على شرح الانتقالات المقامية، ولكن ليس على تعليم الطالب كيف يعزف تقاسيمه الخاصة فهذا يتم تعلمه بالتشرّب والاستماع والتقليد. لكن ألا تتيح معارفنا الحالية طريقة أفضل وأسهل لفهم الإطار العام لعمل التقسيم، وتفكيك تقنيات الأساتذة الكبار بما يسهل استيعابها، وهو ما لا يعفي من ضرورة الاستماع والتشرّب لها، ولكنه يجعله أقرب إلى المتناول؟
هكذا تصبح للأطروحة فوائد عملية وتعليمية، فهي تعرض بسرعة إلى ظهور التقاسيم في الموسيقى التركية منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر، وإن كنا لا نعلم متى ظهر هذا النوع من العزف في الموسيقى العربية، فربما كان أقدم من ذلك، وتعرض للآراء حول سبب تسميته بالتقسيم فمن قائل بأنه يستعرض أقسام المقام قسماً فقسماً، ومن قائل بأنه مقسم إلى جمل منفصلة أو يقسم الوحدات النغمية والإيقاعية للجمل...الخ. كما يقدم إجمالاً وافياً بأنواع الانتقالات المقامية من مقام إلى آخر، أو من جنس (والاسم مشتق من genos اليونانية القديمة على ما يقول نزار روحانا) وهو تتابع عدد من النوتات في السلم، ويغلب أن يكون أربعة بينها أبعاد موسيقية محددة، فهنالك الانتقال العارض والانتقال المكتمل، المتدرج أو المفاجئ، المعتاد والنادر، إلخ. كما يعرض لأنواع التقاسيم في ذاتها، بين التقسيم الموقّع إيقاعياً والحرّ، والتقسيم المرسل المنفرد، وآخر يكون تمهيدًا للغناء أو داخلاً ضمن مقطوعة أو أغنية. كما أنها تقدم لنا عرضًا لتعقد العلاقة بين الارتجال والتأليف، وكذلك هيكلاً عمليًا وفهمًا معمقًا لبنية التقاسيم يمكن أن يساعد العازفين أنفسهم على التفكير فيها وإنتاجها.
بين الارتجال والتأليف: لا تضاد
لكن روحانا، إذ يقول: بأن كل عازف شرقي هو بالضرورة مرتجل؛ لأنه لا يعزف بالصورة نفسها الجملة الموسيقية مرتين، لا ينبه إلى ضرورة التفريق بين الزخرفة ـ وهي نوع من الارتجال طبعًا، لكنها تنويع ولعب حول جملة ممنوحة سلفًا ـ وبين ارتجال جمل كاملة وهو ما لا يفعله بالضرورة جميع العازفين أو المغنين. غير أنه يشير بحقّ إلى تعقيد العلاقة بين الارتجال والتأليف، فارتجال جمل كاملة هو نوع من التأليف، الآني والسريع والمبني على خبرة مسبقة وبنية تم تشرّبها من قبل، فهذه ليست أضدادًا ينفي واحدها الآخر بل هي على ما ينقل روحانا عن الباحث الراحل برونو نيتل، نقاط على خط متصل، يتعلق التمييز بينها بالوقت المتاح (وبتوقعات المستمع على ما حاولت أن أشرح من قبل في برنامج لي بعنوان «أضداد» موجود ضمن إذاعة مجلة معازف على (الإنترنت). وهو ينقل عن فيم فان در مير، المختص الهولندي بالموسيقى الهندية، أن معظم ما يبدو أداءً ارتجاليًا «يأتي من الذاكرة، ولعل المسألة الأهم هي معرفة على أي عمق في الذاكرة قد دُفنت هذه الموسيقى».
فإذا ما استخدمنا تعبيرًا مختلفًا عن اقتراح نزار نفسه، سيكون السؤال ليس عن «تأليف» القصبجي والسنباطي لتقاسيمهما، أو «التأليف المسبق» pre-composition وإلى حد ما (وهو ما يقول إنه يشتبه فيه وإن كان من الصعب إثباته إلا استنتاجًا من فرادة بعض الجمل وتعقيدها، مما يجعل من الصعب تصديق أنها أتت عفو الخاطر)، بل يكون السؤال عن مستوى «التهيئة والتحضير» لهذه التقاسيم. وليس من الصعب القبول بهذا؛ لأن نزار اختار النماذج التي سيحللها في إطروحته من التقاسيم المسجلة في الاستوديو، سواء بالنسبة للسنباطي (أي التقاسيم الست المسجلة في سبعينيات القرن الماضي) أو بالنسبة للقصبجي على أسطوانات في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي حيث كان الطول المتاح تسجيله على وجه الأسطوانة لا يتجاوز الدقائق الثلاث إلا بثواني قليلة. وقد سبق للباحث والعازف المصري د. طارق عبد الله أن أشار إلى واقعة لافتة، حيث إن القصبجي قد سجل في تلك الفترة تقسيمًا واحدًا على وجهي أسطوانة كاملة، وهذا بداهة يتطلب أن يكون قد حضّر وحسب أطوال جمله مسبقًا حتى لا يفاجئه التوقف الضروري للتسجيل على الوجه الثاني للأسطوانة. ويشير نزار مثلاً إلى تطابق شبه تام بين جمل عزفها القصبجي في تقسيمتين من مقام النهاوند سنتي 1921 و1923. ولن يفاجئنا أن نعرف أن الاختلافات بين تقاسيم فريد الأطرش التي تسبق أغنية «أول همسة» في حفلات المختلفة لا تكاد تذكر، وأن جميل بشير ومنير بشير سجلا تقاسيمًا في أوقات مختلفة تكاد تكون متطابقة. غير أن هذا الاختيار بالضبط، أي اختيار تقاسيم مهيئة سلفًا لضرورات الاستوديو، وقد لا يقتصر الأمر فيها من الناحية الارتجالية إلا على الزخرفة حول جمل قد تشكّلت ملامحها الأساسية من قبل في ذهن العازف، هو ما يفتح باب التساؤل إن كان نزار روحانا سيعثر على النتائج نفسها أو سيغيرها بعض الشيء فيما لو أخضع تقاسيم القصبجي والسنباطي المأخوذة من حفلات أو من جلسات خاصة للتحليل عينه.
بنية التقاسيم
تساعدنا الأطروحة إذن على تجاوز الفصل الدوغمائي بين الارتجال والتأليف، كما أنها تجمع المسميات الموجودة في دراسات الباحثين السابقين، وتقترح أحيانًا جديدًا منها، وتقدم تحديدات لما يحصل أثناء التقسيم وهيكلته من خلال عمل تحليلي تطبيقي على تقاسيم متاحة للجميع على الإنترنت، وهذا سيكون مفيدًا جدًا للتدريس والتعلم. فيتبدى من خلال هذا التحليل أن التقسيم يتركّب عموماً من عرض exposition للمقام المختار (أو قد يسمى أيضاً استهلالاً) ويكون من فاصلة (أي جملة أو مجموعة من الجمل الموسيقية المنفصلة عما قبلها وبعدها بزمن من الصمت) أو اثنتين على الأكثر، ومن أقسام لاحقة Sections أو قد يسميها أيضًا development، حيث يقوم الموسيقي بتنمية أفكاره الموسيقية، واستغلالها وتكون من اثنين فصاعدًا وصولًا إلى ستة كما في تقسيم نهاوند لرياض السنباطي. وكل قسم يكون من عدد من الفواصل يتبع في العموم بنية ثلاثية يمكن أن نسميها بمصطلحات عربية الطرح أو الشد (action بتعبير روحانا) والرد أو الإرخاء (resolution)، والغطاء (cadence)، ويمكن أن نسميه قفلة (وهو ما يستخدمه روحانا) لولا أنني أفضل حفظ هذا المصطلح لنهاية أي جملة في العموم، بينما الغطاء مصطلح مستعار من بنية الموشحات المغناة. وقد يحدث أحيانًا أن يندمج الرد مع الغطاء في قسم واحد مطول.
وإذا نظرنا عن قرب أكثر إليها نجد أن الطرح أساسًا هو انتقال من مستقر المقام الأساسي إلى درجة أخرى (أو إلى درجة مختلفة عن مستقر المقام الذي تم الانتقال إليه لاستكشافه في هذا القسم من التقسيم)، وإضفاء لون جديد من خلال الجنس المرتبط بهذه الدرجة. وإن الرد هو الرجوع بعدد من الخطوات إلى المستقر، وأن الغطاء هو توكيد الاستقرار والركوز. والغطاء الأخير في التقسيم هو القفلة الختامية أو ختام التقسيم، ويفترض أن يكون غنيًا كفاية، ومشبعًا للحاجة إلى الاستقرار، لذا يغلب أن تسبقه مرحلة ذروة climaxفي التقسيم، وتكون هذه الذروة، إما بالتركيز على أكثر الدرجات حدة، وبالتالي أبعدها عن المستقر، أو بتتابع سريع لانتقالات مقامية أو بغير ذلك من الأساليب التي تولد درجة عالية من التوتر النغمي، ليأتي الختام بالراحة منه والعودة إلى نقطة المستقر الأليفة.
تساعد هذه الملاحظات على تصوّر بنية عامة للتقاسيم، وساعدت نزارًا بالتالي على تأليف مقطوعاته المستوحاة من أسلوب التقاسيم، كما أن تطبيقها مع الأدوات التحليلية الأخرى على تقاسيم السنباطي والقصبجي يسمح لنا بالتعمق في فهم الاختلافات بين أسلوبيهما.
القصبجي المعقد والسنباطي اللذيذ
فالقصبجي، بحسب تحليل نزار روحانا، يعتمد على استهلال سريع وقسمين إضافيين على الأغلب (مع استثناء في تقسيم الحجاز) تجري فيهما انتقالات مقامية كثيرة (تكون أحياناً على نفس درجة الاستقرار) في زمن قصير، وصولاً إلى ذروة واحدة، غالباً ما تكون في المنطقة الحادة صوتياً وتكون بالغة التعقيد والطول. والفواصل الطويلة هذه من أهم سمات تقاسيم القصبجي، إضافة إلى استخدامه لأفكار مثل الترجيع (أي استخدام متكرر لنوتة في القرار الغليظ مع استمرار جملة ميلودية في منطقة أخرى) وعكسه المسمى زيرـ بم أو التعليق (أي تكرار درجة حادة، غالباً ما تكون على وتر مفتوح، بينما تستمر الجملة الميلودية في منطقة أخفض منها)، والإقامة مع دعمها بدرجة القرار (أي تكرار النوتة نفسها، مع استخدام متفاوت إيقاعياً لقرارها، أي للنوتة التي تنخفض عنها أوكتافاً أو ديواناً كاملا). ومن سمات القصبجي البارزة أيضاً تنوع التركيبات الإيقاعية التي تنتجها ريشته (وهذا ما يشترك معه فيه داود حسني، إلا أن هذا الأخير يهتم حصرًا بالجانب الإيقاعي، بحسب روحانا، ولا يقدم ذروة وغطاء بعدها)، بالإضافة إلى قلة استخدامه للمتتاليات الواضحة أو السلاسل sequences أي قلة استخدام التركيبة نفسها من تتابع النوتات، أما تكرارًا على الدرجة نفسها أو على درجات متلاصقة، صعودًا أو هبوطًا، ضمن السلم المقامي المختار (كما في ضربات الغيتار في مقدمة أغنية أنت عمري مثلاً) في حين أن استخدامها أصبح لاحقًا الطريقة الأبرز في التأليف والتلحين عندنا.
أما السنباطي فهو أكثر تمهلاً (وربما كان ذلك لأن المدة المتوسطة لتقسيمه ست دقائق في مقابل نصفها للقصبجي) بما في ذلك إجراء الانتقالات المقامية، ومنح كل منها وقتاً أطول، وأكثر أقسامًا في تسجيلاته، كما أنه قد يدخل ذروتين لا واحدة فقط في التقسيمة. ويتميز بإدماج مقاطع شبه موزونة إيقاعيًا أو هي موزونة في تقسيم غير موقّع، وباستخدام متوسع للمتتاليات الواضحات من التراكيب، وهو يعود بشكل شبه مستمر إلى درجة الاستقرار أو الركوز في معظم الأقسام بخلاف القصبجي الذي قد يحتفظ بالنزول إليها حتى مرحلة الختام. وبخلاف القصبجي أيضاً فإنه قليل الاستخدام لتقنية الإقامة المدعّمة بالقرار. كذلك يستخدم السنباطي، بحسب روحانا، تقنية التوتّر المعلّق من خلال التوقف عند نغمات غير متوقعة أو نغمات يميل السامع باعتبارها غير مستقرة (leading tone) ويتوقع بالتالي الاستمرار بعدها، لكنه يصطدم بالصمت الذي يشحن عندئذ التوتر، ويتركنا معلقين في الانتظار. ويشير الباحث أخيرًا إلى تأثر تقاسيم السنباطي المتأخرة زمنيًا بألحانه التي لحنها خلال مسيرته الطويلة لجهة تركيب الجمل ووضوح بنائها وقفزاتها وإيقاعيتها، وكذلك إلى أن النبض الذي يمكن قياسه في تقاسيمه (أي سرعة ما يمكن اعتباره وحدة زمنية) أكثر طواعية وقد يتباطأ أحياناً، في حين إنه شبه ثابت على سرعة عالية عند القصبجي.
ما سبق يسمح لنا، بشكل غير مباشر وإن كان الباحث لم يتطرق إليه صراحة، بفهم سبب تعظيم الجميع لعزف القصبجي لكن دون اتباع نهجه عن قرب في أدائهم (مع استثناءات قليلة مثل تقاسيم بهيجة حلمي التي ضمها إصدار تسجيلات العود الصادر عن مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية ـ أمار قبل بضع سنوات، وكذلك تلميذة القصبجي المطربة نادرة) ودون انتشار الاستماع إليه كثيراً في أوساط الجمهور عموماً، في حين أن السنباطي أكثر انتشارًا واستماعًا بالكثير إلى عزفه، وأقرب تناولاً إلى المستمعين، وأوضح تأثيرًا عند الكثير من العازفين، ذلك أن الاستماع إلى السنباطي أسهل بفعل التكرار الذي ينتج عن المتتاليات، ويستتبع ذلك وضوح الجمل والقدرة على تذكرها، وبفضل اللذة الناجمة عن العودة المتكررة والمريحة إلى درجة المستقر كمن يعود من سفرٍ إلى ألفة البيت، وأخيرًا لأن تقاسيمه تشابه أيضاً ألحانه ومنطقها الذي أصبح مشهورًا ومنتشرًا. أما القصبجي فإضافة إلى سرعته، وزخم ريشته فإن العودة إلى ألفة درجة الركوز قد لا تحدث إلا في الختام، ولا تكاد تتكرر لديه التركيبات الإيقاعية لما لديه من مخزون ضخم منها، ولا يكاد السامع غير المتمرس يتبين فيها إطار الجملة وحدودها؛ لقلة التكرار وقلة المتتاليات الواضحات (أما الحديث عن الموتيف لديه فهو في رأيي غير مجدٍ؛ لأنه لا يبني عليه، بخلاف الحديث عن الموتيف الذي هو وحدة بناء المؤلفات السمفونية مثلاً)، كما أن سرعة وكثرة الانتقالات المقامية لديه لا تسمح بالاندماج في واحد من المقامات مطولاً، وهذا أشبه ما يكون بطريقة تلحين القصبجي للمونولوجات التي غنتها أم كلثوم ولم يجسر أحد مذ ذاك على استعادتها لصعوبتها في الحفظ وفي الأداء. كل ذلك يشير إلى أن فهم القصبجي، في ألحانه وفي تقاسيمه، لا يزال يحتاج تحليلاً أوسع لإدراك كيف يتماسك لديه ما ليس يتكرر، وهل هنالك حركة بنيوية متماسكة خلف جمله التي تلوح غير متكررة، وربما يسمح لنا هذا مستقبلاً بفهم أفضل لرؤيته للمقام ولكيفية اشتغال الموسيقى.
الأكاديمية وحدود بؤرة النظر
ربما لم تتح المساحة والفرصة للدكتور روحانا للتوسع في هذا الاتجاه، مثلما لم يتوسع في إشاراته إلى «الألوان» التي تضفيها الأجناس المختلفة (هل الأجناس مجرد تلوين فيمكن استبدال واحدها بآخر؟) حول درجات هامة ومحددة في السلم أو في مسألة الاتجاه أو الحركة قدماً في المقطوعة أو التقسيمة باتجاه الذروة وكيفية حدوث ذلك، رغم أنه أشار إلى ذلك بسرعة، خصوصاً في حديثه عن مؤلفاته. وقد يكون السبب هو التوجه الأكاديمي، ونوع الدكتوراة التطبيقية، حيث ينبغي تأليف هذه المقطوعات إثر هذا التحليل ومتطلبات هذا التوجه التي تقسر الباحث على التركيز على مسألة واحدة (وهي تركيبة التقاسيم وتقنياتها التأليفية للاستفادة منها في تآليفه) فتضيق إطار النظر إلى ما حولها كثيراً، وهذا ليس مأخذاً على عمله بل على طبيعة المطلوب أحياناً من وجهة نظر الأكاديمية. وربما كان أيضاً أن مساحة البحث انشغلت أحياناً بقضايا في نظري، ليست على القدر نفسه من الأهمية ولا الصحة، كمسألة ربط التركيبات الإيقاعية بعلم العروض الشعري العربي، وهذه مسألة شائكة إلا أن ملاحظة تطبيقها لديه تبرز خطأها من وجهة نظري. فاعتبار أن تتابع ضربة سريعة (دون تحديد هل هي مسبوقة بسكتة أم لا) وأخرى بطيئة هو معادل موسيقي لتركيبة الوتد المجموع في العروض، أي متحركين وساكن، يتجاهل الزمن الذي يفترض أن يأخذه هذا الساكن. فلا يعقل أن يكون موازي تفعيلة «فاعلن» يتراوح، لدى العازف نفسه، ما بين وحدة زمنية وربع وبين ثلاث وحدات زمنية وربع! مثل هذا كان ليكسر إيقاع الشعر وهو لا ينطبق أبداً على العروض الذي كان أصلا وسيلة لضبط إيقاع الشعر وعلى الأرجح لإنشاده وفق ترنم معروف في زمنه، على غرار الزجل اللبناني مثلاً. وتتبع روحانا لأنواع التراكيب الإيقاعية لدى القصبجي يظهر ما يفوق خمسة وعشرين تركيباً في مساحة لا تتجاوز وحدة زمنية ونصفها، فأين هذا من حصرها بـ« فاعلن» و«فعولن»؟ القصد أن تركيبات الإيقاع في الموسيقى أغنى وأعقد كثيراً من حساب المتحرك والساكن في العروض الذي هو حالات مخصوصة من الإيقاع في الكلام، وليس أصلاً للنغم في تقديري. والتركيز حصراً على البؤرة المفروضة قد يؤدي إلى غياب نقاط مجاورة مهمة، إذ ما يظل مثلاً من نظرية المقام نفسها (في فهمها الحالي، سواء كونها سلماً موسيقياً وسيراً أي تحركاً بشكل مخصوص داخل هذا السلم، أو كونها تراكب أجناس فوق بعضها) إذا كان القصبجي يعاملها بهذا القدر من الانتقالات السريعة إلى أجناس مختلفة؟ ألا يستحق المقام تنظيراً جديداً مبنياً على مثل هذا التحليل وعلى ما نعرفه من مصادر أخرى، بخاصة وأن «المفترض» في التقسيم تحقيق للمقام واستكشاف لإمكانياته وطريقة سيره؟
أخيراً، في رأيي، يؤدي هذا التركيزإلى غياب ملحوظ في الأطروحة لمسألة العوامل التقنية التي تنتج الطرب، أي لما هو الهدف أصلاً من عزف التقسيم، ولما يسمح بتشكيل موقف المتلقي له. فمعاملة التقسيم من خلال تدوينه بالنوتة ثم تحليله، دون دراسة تلقيه وسماعه، تصطدم أولاً بالاختزال الذي تفرضه النوتة الذي يظهر حتى في مقارنة عزف نزار لمؤلفاته نفسها في مقابل تدوينه لها، مع ما يستتبعه ذلك من اختلافات ممكنة في التدوين وفي تقطيعه، وتصطدم ثانياً بعدم إيضاح المغزى من التقنيات المختلفة المستخدمة وبالتالي من ربط التقنية بهدفها، أي الطرب، وبحث كيفية إنتاجها له، كمسألة التضاد بين طول فاصل الذروة وسرعة القفلة مقارنة به، لدى القصبجي على سبيل المثال (رغم أن روحانا يشير إلى احتسابه أطوال المقاطع في تآليفه ونسبتها إلى بعضها البعض، دون أن يتوسع في الهدف من ذلك التناسب)، أو دور الانتقالات المقامية المفاجئة. فلعل من المهم مستقبلاً إدراج موضوع التلقي، وكيفية السماع في دراسة التقسيم، وفي ما يسمح للمستمع بمعرفة انتماء العزف إليه من خلال علامات تسمح بسرعة للمستمع برسم ملامح ما سيتم استقباله على أنه تقسيمة (طبيعة الاستهلال مثلاً وفي الأغلب عدم وضوح الإيقاع في البداية والمراوحة بين المرسل والموزون إيقاعياً والسكتات التي توحي بالتفكير والوقفات التي توحي بالتمهل والتردد، وتكرار حركات الريشة ما يمنح العزف أولية على الفكرة الميلودية..الخ).
هذه إشارات إلى أبواب أخرى قد يرغب د. نزار في المستقبل أو سواه من الباحثين بدراستها وتطوير أشكالياتها بشكل أعمق. ويحمد لروحانا مثل هذا الإنتاج الجدي والثري بالأفكار والتحليلات الذي يمكن لكثيرين من أساتذة العود الاستفادة منه في فهم ممارساتهم وفي تعليمها لطلبتهم، على أن الحاجة ملحة لذلك إلى توفيره بالعربية بين أيديهم بدل انحصاره في بحث بالإنجليزية في بلد بعيد، وهو ما يرجو المرء أن يجد مهتمين به حتى لو تطلب ذلك أن ينشر في صيغة أقل أكاديمية وأقرب متناولاً.
فادي العبد الله كاتب وناقد موسيقي وشاعر من لبنان