ليس من السهل أنْ تجاور جرحا تاريخيّا وتحتمل تجاهل صانعه أو الشاهدين عليه بصمت الخائف من تبرير معاناة البشر فيه، وعندما تتشكل الأسئلة خجولة وأنت تقرأ عملًا اختار كاتبه أنْ يتّهم مجهولين دون أنْ يقف في صفك أو حتى في صف الزمن للحظة؛ سوى أن يعلن معاناة البشرية في داخلك انعكاسًا لزمن ما زال يطاردك بأسئلته التائهة.

رواية «دلشاد» للكاتبة بشرى خلفان التي قرأتها -كالعادة- متأخرا تنسب إليك فهم جزء من تاريخ ماضي عمان الحديث؛ وأعني به الجزء المُتعمَّد إدراجه ضمن ضرورة النسيان لاستكمال الطريق إلى ماضٍ آخر أكثر طرحًا لتشكّلات الإنسان. الرّواية انسحاب للذوات لترصد ذلك التغييب الذي يحمّل ذوات اليوم مسؤوليّة الاستدارة حول كثير من الوجوه التي تشكّلت من أحداثٍ مبتورة في تاريخ عمان السياسي والاجتماعي الحديث؛ هذه الذّوات ليست الخاصّة بفهم أدب الرّواية فقط؛ بل ذوات تختارها الكاتبة انعكاسًا لتساؤلات زمن رخو، قدّمَته متسارعًا ومنثنيًا على انعكاساتنا المتكررة التي تتولّد من محاولات هربنا أحيانا بهذه الاستعادات التي يراها الكثيرون عبئا على المعاصرة؛ لسبب واحد فقط؛ هو غياب حساسيتهم من أنْ يكون الإنسان مجموعة آخرين سبقوه؛ اعترف أو أنكر. الرواية تنسب إلى القارئ فهم ذلك الجزء كونها تحاصر الكثير من الأحداث والأمكنة والشخوص في بقعة مسرح مفتوح بقدر تأثير الحدود في الحدث والشخصيّة. هذه المحاصرة ليست اكتفاء بالمقرّ به؛ لكنه تكثيف ينتج منه الكثير من التفرّع الذي تركته الرواية لاهتمامها بهذه الأمكنة التي لا يمكن أنْ ينكر أحدهم أنها ضحيّة ووجه آخر للسلطة والغريب، وأنها كانت ميزان قوى على حساب الكثير من المهمَّشين والغرباء. قد يكتفي القارئ بانتقاءات الكاتبة إن كان لا يشغله الزمن المنهك وأحداثه المجاورة خارج الحدود الفاعلة في الرواية؛ وينتقل بعدها إلى وهْم التاريخ الذي صنعه المنتصر أو الموهوم بالانتصار، لكن الكاتب لا يترك عمله ضربا من الانقطاع؛ ما لم يكن متبرئا من الحقيقة ولو بشيء من الانجراف إلى زخرفة التحوّلات، وبشرى خلفان ثبّتت في عملها أحداثًا وأماكن يمكن أن يتسلل إليها القارئ المشاكس ليرسم الأحداث والأماكن في التاريخ الذي يتركه التاريخ باعتباره استياءً من تحوّل ينكر تأثير الإنسان وأثره عليه، لكنه -وبشيء من ضعف الإنسان- يؤسس إنكاره له ليرسم شكلًا آخر للتاريخ الذي يقنع به، كل شخصيّة من شخصيات رواية «دلشاد» تحدد ملامح تحوّل يعني الكثير لما تمثّله بعدها، وهذا الرّصد يتكرر بقادم آخر إلى ما بعد أو قبل زمن الرواية وأمكنتها، أو مغيَّب آخر تحت ركام التوزيع الاجتماعيّ وعنصريّة القبيلة، وإن انتصرتْ اليوم هذه الذّوات بوجه من فرضيّات التقدم العالميّ؛ لكنها وجه لجوع متعدد الملامح.

دلشاد ومريم وعبداللطيف وناصر وغيرهم ليسوا أشخاصا بقدر ما كانوا تحوّلات منسيّة في مدينتين متجاورتين شهدتا الكثير مما يفوق ما تركه تاريخ مرويّ بهشاشة المعاناة، والمسافة بين ظروف هذه التّحولات في الرواية وبين وعينا اليوم شاسعة كما أريد لها؛ أمّا المدينتان فهما انعكاس الراحلين والعائدين والغزاة بعيدا في السواحل المقابلة والمتوارية، كانت الحرب وكان الوجع مجهولًا والجوع تهمة يستسهلها المُتخَم بالمتلاشي من اكتفائه تواريا من الحقيقة. مسقط ومطرح كانتا عمان ولم تكونا. في صراع دفع ثمنه الإنسان البسيط، صراع منطلقه الأيديولوجيا وتوحيد الأرض وتحريرها من العدو بحضور العدوّ. مطرح، مسقط، الوادي الكبير، ...وغيرها رسمتها الكاتبة عالمًا لا يمتّ إلينا بصلة ونرتبط به بأواصر إنسانية شهدت عليها تحوّلات الإنسان بقبائله وأسره واختلاف نشأته وثقافته واتجاهاته في هذا الوطن؛ نحن بكلّيتنا منه، لكنها وظّفتْ عوالم تبدو بملامح غياب وحضور في ما وصلنا شفهيّا من أجدادنا الذين ترددوا على أماكن هذه المدن والنواحي على فترات متباعدة قد تصل إلى سنوات تاركين قراهم إلى حدود البندر وساحل مطرح، رسمتها بأدوات تناسب صراعات جعلها الإنسان في ذلك الوقت خارج الرؤية والملموس بمؤثرات خارجيّة وداخلية؛ الخارجية هي الغريب الراحل والغريب الجاثم، هذا ليس له إلا أن يفكر في قوت يومه ومستقبله المتولّد من إصراره على مواصلة مسير جده أو أبيه؛ لتكون له أسرة في غياهب مستقبل مجهول تحدده الحرب بتوقّفها أو استمرارها، وذاك يصنع الحرب ويجعل من مسقط ومطرح مأوى لهيمنته، وبين هذا وذاك القائم بأمر الخريطة المقْفرة لا يملك من أمره شيئا.

لماذا الشخوص هي حاملة الحدث والتاريخ في الرواية؟

ليس من الإنصاف أن يُلام الزمن على أخطاء البشر، لكننا لا نستطيع أن نبرئه تماما، ليس لأنه شريط سينمائي تتفاعل الشخوص بالحدث عليه؛ بل لأن فاعليّة الزمن تتمثّل في الإخفاقات البشرية وضياع الإرادة.

بشرى خلفان تنطلق من كل شخصية إلى الزمن فيتشكل التاريخ بسلسلة علاقات تنشئها الشخصيات بتلك الاسترجاعات التي تتجاوز أن تكون مجرّد بناء متن العمل. إنه الفاعل الأساسي في تفكيره وحواراته وعلاقاته وانتماءاته؛ فيُبنى التاريخ والمكان بهذا التداخل لتكون المدينة بكل تناقضاتها وهشاشاتها. كل شخصية تتجرد من كل شيء في أول الأمر لتحمل جزءا من هذا التاريخ وهذا التشكيل المكاني، وكأننا نشهد صراع آلهة أسطورية من جهة حين تكون وحيدة؛ أو فواعل تدفعها آلة الصراع بلا إرادة، لكنها في الحقيقة حياة لم نكن شاهدين عليها ولدتْ منها مطرح ومسقط وغيرها من الأماكن بجوعها الفسيولوجي والإنسانيّ والتاريخيّ في «دلشاد».

تحدد الكاتبة طريقة تألّمنا من بين أشكال الألم، وكأن التاريخ لا يكفي وحده ليسلب المغيَّب هويّته، يتحول البحر إلى ألم يختلف عن كونه سببًا للغياب والرحيل والغرق والمجهول، إنه سؤال ألم كان في ذلك الوقت أرأف بنا من حاضرنا؛ ليس لأننا لم نشارك الفاعلية الحدثية بنا أو علينا؛ بل لأننا -وهو ما تفعله الرواية التاريخية- نستنزف ذواتنا في دفع ثمن تاريخية حالكة وحالمة. فمن يستطيع وهو يتشكّل بالزمن والإخفاقات أنْ ينكر وجع شخوص ساهموا في انكشاف فترة زمنيّة تلامس فينا وجع الذات والمجهول.

وتتحول المسافة إلى تعرية ذوات طافحة بالقلق والخوف والإصرار؛ نجعلها تحت مجهر الاتهام لما أضاعته في يقيننا اليوم بأننا بهذا الوعي سنحاكم المنطلقات كلها، لكننا نعاني من المسافة باغتراب شخوص تفصل بينهم وبين جزء من وطنهم أوضاع لم يكلفوا أنفسهم عبء البحث عن مسار الحياة فيها. تركتها الكاتبة أو تعمّدت تركها ثقلًا آخر من الأسئلة.

الذوات تسلّم أو تستسلم أو تحرق سفن العودة إلى منطلقاتها هي تألّم آخر تشير به الكاتبة إلى تكرار المعاناة بأشكال أخرى عبر التاريخ؛ تماثل يدفع ثمنه المنقطع عن تكوينات بشرية تتعلق بالوطن البعيد والقبيلة والأسرة في ميزان التمييز والعنصرية؛ لكنه ينجح بألمه فقط دون انتصار أو ما يشبهه في العمل الفنيّ.

إنه عمل ذكي وطاغ بإنصاف يجعل الأمكنة والمتخيّل من هيئات الشخوص وظروف الحدث والتاريخ أسئلة تستغرق سنوات أخرى في صنع إشاراتها. أسئلة تتمثّل في ردّات الفعل وشعور باغتراب ممتدّ إلى المقابل خلف البحر وبعيدا إلى الداخل خلف الرواسي.

محمود حمد كاتب وشاعر عماني