مقالان لكلاريس لسبكتور -
ترجمة: أحمد شافعي -
في عام 1967 استكتبت صحيفة (جورنال دي برازيل) الكاتبة كلاريس لسبكتور عمودا صحفيا ليوم السبت من كل أسبوع يتناول أي موضوع يروق لها. فظلت لقرابة سبع سنوات تكتب ذلك العمود في نطاق من المواضيع -البشر والحيوانات، وحفلات العشاء السخيفة، والأنشطة اليومية لابنيها- ولكن مهما يكن موضوع العمود فإنها كانت تخرج عنه. ويسهل في هذه المقالات أن يجد القارئ الذي يألف أعمالها القصصية والروائية ما يسم أسلوبها بصفة عامة من غنائية ولمسة غرابة. سوف تصدر مختارات من هذه الأعمدة باللغة الإنجليزية في شهر سبتمبر عن دار نيوديركشنز بعنوان «Too Much of Life» بترجمة مارجريت جول كوستا وروبين بيترسن. وفيما يلي مقالان من الكتاب الوشيك نشرهما موقع ذي باريس ريفيو على الإنترنت.
ولدت كلاريس لسبكتور سنة 1920 لأسرة يهودية في غرب أوكرانيا، وبسبب معاداة السامية وما صاحبها من عنف هاجرت الأسرة إلى البرازيل سنة 1922 فنشأت كلاريس في مدينة ريسيف، ثم انتقلت إلى ريو دي جانيرو عقب وفاة والدتها وهي -أي كلاريس بالطبع- في التاسعة من العمر. نشرت تسع روايات وعددا من المجاميع القصصية وكتب الأطفال والمقالات الصحفية، ولم يترجم لها في العربية إلا رواية واحدة في ما أعلم.
26 أكتوبر 1968
افتعال الشجاعة
بدا لـ(ز.م) أن الحياة تنسرب من خلال أصابعها. نسيت، في غمرة تواضعها، أنها نفسها مصدر للحياة والخلق. لم تكن تخرج إلا قليلا، ودأبت على رفض الدعوات. لم تكن من النساء اللاتي يلاحظن حين يهتم بها رجل ما لم ينطق بذلك فعلا، وحينئذ كانت تندهش وترحب باهتمامه.
في ظهيرة أحد الأيام، وكان ذلك في الربيع، في أول أيام الربيع، مضت (ز.م) لزيارة صديقة لها فسألتها بصراحة: كيف يتأتى لامرأة ناضجة مثلها أن تكون على هذا القدر من التواضع؟ كيف يتأتى لها أن تعجز عن ملاحظة الرجال الكثيرين المغرمين بها؟ كيف لا ترى أنها، احتراما لنفسها، يجب فعلا أن تقيم علاقة؟ قالت أيضا إنها رأتها ذات مرة تدخل غرفة مليئة بالمعارف، ولم يكن أي منهم يطاولها إشراقا. وبرغم ذلك رأتها تكاد تتسلل في دخولها، وكأنها لا تكاد تكون موجودة، كأنها أرنبة منحنية الرأس. «عليك أن تسيري مرفوعة الرأس. قَدَرك أن تعاني لأنك مختلفة، كونيًّا مختلفة، فاقبلي وحسب أن هذه الحياة البرجوازية ليست لك، وادخلي الغرفة عالية الرأس». «أدخل وحيدة تماما إلى غرفة مليئة بالناس؟» «نعم. لست بحاجة إلى أن تكوني برفقة شخص آخر، أنت بخير تماما وأنت وحدك».
تذكرت ذلك، في وقت لاحق من اليوم نفسه، وكان يقام فيه حفل كوكتيل لمعلمي المدرسة الابتدائية في إجازتهم. تذكرت الوضع الجديد الذي كان يفترض أن تتبناه، فلم ترتب لحضور الحفل برفقة إحدى زميلاتها، وإنما قررت أن تخاطر بالذهاب وحدها تماما. ارتدت ثوبا جديدا إلى حد ما، ثم خانتها شجاعتها. فحينذاك -ولم تفهم هذا إلا لاحقا- وضعت الكثير من مكياج العين، والكثير للغاية من طلاء الشفاه فبدا وجهها وكأنه قناع. فرضت على نفسها شخصية أخرى، والمدهش أن تلك الشخصية الأخرى كانت خليعة، ومتعجرفة. تمثِّل كل ما لم تكنه هي. ثم لما حان وقت مغادرتها الشقة، ترددت: ألا تكلف نفسها هكذا فوق طاقتها؟ في كامل ثيابها، ومع قناع مطلي على وجهها-أنت أيتها الشخصية، لم لا أستغلك وأكونك في نهاية المطاف؟- غاصت خجلة في مقعد وثير بغرفة معيشتها المألوفة تمام الألفة وتضرع إليها قلبها ألا تذهب. بدا أنها استشعرت ما سوف تتعرض له من كدمات كثيرة ورضوض، ولم تكن بالماسوخية. وأخيرا، أطفأت سيجارة شجاعتها، ونهضت، وخرجت.
استشعرت عذابات الخجولين التي لم توصف قط بقدر ما ينبغي. وفيما سيارة التاكسي منطلقة، كانت هي تموت قليلا قليلا.
وبغتة إذا بها هناك، واقفة أمام غرفة شاسعة مليئة بالكثير جدا من الناس في ما يحتمل، برغم أنهم بدوا شديدي القلة في المساحة الهائلة المخصصة لذلك الحفل، أو تلك الشعيرة من شعائر العصر الحديث.
كم طال عليها الوقت وهي رافعة رأسها بذلك الشكل غير الطبيعي؟ لم ترتح في وجود القناع، وكانت تعلم فضلا عن ذلك أنها أجمل بغير القناع. ولكنها بغير المكياج تكون عارية الروح. وما كانت لتخاطر أو لتأذن لنفسها بتلك الرفاهية.
تحدثت مع شخص وابتسمت، ثم تحدثت مع آخر وابتسمت. لكن مثلما يحدث في جميع حفلات الكوكتيل، كان مستحيلا أن يجري حوار، فوجدت نفسها من جديد وحدها. وقعت عينها على رجل كان في يوم من الأيام حبيبها. وفكرت: مهما يكن قدر الحب الذي ربما حظي به ذلك الرجل في حياته، فأنا التي منحته روحي كلها وجسمي كله. تبادلا النظر، وفحص كل منهما الآخر، ولا شك أن القناع المطلي صدمه. لم تدر ماذا تفعل عدا أن تسأله عما لو أنهما لا يزالان صديقين ـ إن أمكن ذلك. قال نعم، بالطبع، وإنهما سيبقيان صديقين على الدوام.
بعد فترة شعرت أنها لا تقوى على الاستمرار في رفع رأسها. لكن كيف لها أن تعبر الفراغ الهائل من مكانها إلى الباب؟ وحيدة، كأنها فارّة؟ أدلت بشبه اعتراف بمشكلتها هذه لإحدى زميلاتها المعلمات، فمضت بها في رقة عابرة المدى الهائل الممتد في ما بينها والباب.
وفي عتمة تلك الليلة الصيفية كانت امرأة تعيسة. صحيح أنها مختلفة. لكن صحيح أيضا أنها جبانة. وأنها مفرطة الحساسية. وأنها التقت بذلك اللهب القديم. وفي الهواء عتمة ورائحة ربيع. وبين ضلوعها يخفق قلب الدنيا. وكانت دائما تعي روائح الطبيعة. عثرت أخيرا على سيارة تاكسي وجلست فيها وهي توشك أن تذرف دموع الارتياح، متذكرة أن مثل ذلك جرى لها في باريس، لولا أن ذلك كان أسوأ. هربت مثل فارّة من العالم. ولم يبق مهرب من حقيقة أنها لا تعرف كيف تعيش. في أمان منزلها، نظرت إلى نفسها في المرآة وهي تغسل يديها ورأت الشخصية تنبعج على وجهها: رأت تلك الشخصية تبتسم ابتسامة مهرج. غسلت وجهها فارتاحت إلى تعري روحها من جديد. ثم تناولت قرصا منوما، وقبل أن يواتيها النوم، استلقت في غاية الصحو، وتعهدت لنفسها بألا تغامر تلك المغامرة مرة أخرى دونما حماية. كان القرص قد بدأ يبعث فيها الهدوء. فبدأت ليلة الأحلام الهائلة.
3 مايو 1969
عمود المجتمع
كان غداء للهوانم. بدا على الجميع، من المضيفة والضيفات، سرور تام بأن كل شيء على ما يرام. وكأنما هناك مخاطرة دائمة بانشاف الحقيقة، حقيقة أن واقع الخدم والزهور والأناقة أعلى منهن قليلا وليس ذلك لأسباب تتعلق بالطبقة الاجتماعية، ولكنه هكذا وحسب: أعلى منهن. لعله أعلى من حقيقة أنهن كن محض نساء لا هوانم. ومع أن كلهن كان لهن الحق في الوجود هناك، فقد بدا مع ذلك أنهن يعشن في رعب من لحظة تزلُّ فيها إحداهن بهفوة لحظة تفضح الواقع.
كان الغداء رائعا، أبعد بمليون ميل عن ساعات الشقاء التي قضيت في المطبخ، أذ أزيلت قبل وصول الضيفات جميع السقالات. وبرغم تفصيلة ضئيلة لم يكن يمكن تجاهلها لصالح المشروع كله ـ وهو تحديدا غداء. التفصيلة التي اضطرت إحدى الهوانم إلى تجاهلها هي أن نادلا كان كلما قدَّم لمجاورتها على المائدة شيئا، احتك بشعرها احتكاكا خفيفا فأفزعها ذلك فزعا من النوع الذي ينذر دائما بكارثة. وكان حول المائدة نادلان، القائم منهما على خدمة تلك المرأة بقي خفيا بالنسبة لها طوال الوجبة. وليس من المحتمل أن يكون قد رأى وجهها. ولانعدام فرصة أن يكونا قد التقيا فعليا، فإن العلاقة الوحيدة القائمة بينهما تأسست خلال لقاءات الصدفة بينه وبين شعرها. وقد علم النادل ذلك. ومن خلال شعرها بدأ بشكل تدريجي يشعر أنه ممقوت فبدأ هو الآخر ينتابه الغضب.
من المحتمل أن يكون وميض غضب عابر قد طاف بكل واحدة من الضيفات خلال ذلك الغداء الفخم. لا بد أن كل واحدة منهن شعرت، ولو للحظة، بالقلق الملح العاجل الناجم عن تصفيفة شعر توشك أن تنهار، فتدفع الغداء كله إلى كارثة.
كانت المضيفة تبسط سلطتها بخفة، وبدا ذلك ملائما لها. غير أنها، في بعض الأحيان، كانت تنسى أنها تحت الأنظار، فترتسم على وجهها بعض التعبيرات التي لا تخلو من قدرة على الإدهاش، كأن تظهر مثلا مسحة ضيق وخيبة. أو، كما حدث في لحظة -وأي أفكار مبهمة قلقة كانت تمر بعقلها في تلك اللحظة؟ حينما نظرت في هدوء إلى الضيفة الجالسة عن يمينها، وكانت تحدثها قائلة «أليس الريف هناك بديعا؟» فقالت المضيفة بصوت عذب حالم متثائب، وبشيء من نفاد الصبر:
«نعم...نعم، هو كذلك، أليس كذلك؟»
أكثر من أمتعت نفسها كانت مدام س، ضيفة الشرف، التي كانت تغمرها الدعوات دائما فلم يكن حفل الغداء بالنسبة لها إلا محض غداء. ففي حركات رقيقة وديعة التهمت في سعادة الطعام الفرنسي، غامسة الملعقة في فمها، ثم متمعنة فيها في فضول ـ وذلك أثر من بقايا الطفولة.
غير أنه ساد بين جميع الضيفات جو مصطنع من اللامبالاة. ولعلهن لو قلَّلن من الاصطناع لبدون غير مباليات حقا. لكن ما كانت إحداهن لتجرؤ. فكل واحدة كانت خائفة بعض الشيء من نفسها، كأنما هي خائفة من احتمال الوقوع في أشنع غلطة إن غفلت عنها حارستها لوهلة. لا، لقد عقدن جميعا العزم على أن يجعلن ذلك الغداء هو الغداء الأمثل.
لم تسنح لهن فرصة أن يكن على راحتهن، أو يسمحن بلحظة صمت عارضة. كان ذلك أقرب إلى المحال. فما كان موضوع يكاد يطرح، طرحا طبيعيا، إلا وينقضضن عليه واحدة واحدة فيمضي النقاش إلى أن يستنفد وقوده ليتلاشى حتى ينعدم. ولما كن جميعا يتناولن الموضوع من الزاوية نفسها ـ لأنهن جميعا يعلمن الأمور نفسها ـ بما يعني أنه لم تسنح الفرصة لتنوع الآراء، فقد كان كل موضوع يفتح مرة أخرى مجالا للصمت.
كانت مدام ص، وهي امرأة ضخمة، صحيحة البنيان، في الخمسين من العمر، حديثة الزواج، ترتدي صدارا مثبتا بالدبابيس على صدر ثوبها. وكانت لها الضحكة السلسة الحماسية المعهودة فيمن تأخر عليهن الزواج. الباقيات بدون عازمات على أن يرينها سخيفة. فخفَّف هذا من التوتر بعض الشيء. ومع ذلك، فقد كان واضحا أنها على قدر من السخف فعلا، وذلك ما يعجزنا عن العثور على مفتاح شخصيتها، وآه لو أتاحت لنا الفرصة لنكتشف أي مفتاح هو ذلك المفتاح. لكنها أبت: وتكلمت وتكلمت.
أسوأ الأمور قاطبة أن إحدى الضيفات لم تكن تتكلم غير الفرنسية. وتلك كانت مشكلة لمدام ع. ولم تلح لها فرصة انتقام ممكن إلا حينما قالت الأجنبية إحدى تلك العبارات التي لم يكن الرد عليها يقتضي غير تكرارها ببغائيا مع تغيير طفيف في النبرة. قالت الأجنبية “Il n’est pas mal” *. فإذا بمدام ع، في ثقة من أنها ستقول القول المناسب، تكرر الكلمات زاعقة بها بقوة، وبصوت مليء بالدهشة وسرور شخص خطرت لها فكرة وتوصلت إلى اكتشاف «Ah, il n’est pas mal, il n’est pas mal». لأن ضيفة أخرى قالت بالفرنسية، مع أنها لم تكن أجنبية بحال وكانت ترد على شيء آخر تماما “C’est le ton qui fait la chanson”.*
أما عن مدام ك، ذات الرمادي في الرمادي، فكانت دائما مستعدة للإنصات والرد. استكانت في خمولها. لقد علمت أن أمضى سلاح لديها هو التكتم فأسرفت في استعماله. قالت بعيني أمٍّ باسمتين «لن يحملني أحد على أدنى تغيير في سلوكي». بل لقد عثرت على طريقة لإبراز تكتمها، كما في قصة الجواسيس الذين وضعوا على صدورهم شارات الجاسوسية. فكانت تعمد إلى ارتداء الثياب التي قد توصف بالمتكتمة. أما حليها فكانت متكتمة بوضوح. فضلا عن أن المتكتمين يشكلون ما يشبه العصبة. فيعرف بعضهم بعضا من نظرة، ويطري بعضهم على بعض، ويطري أحدهم على نفسه.
بدأ الحوار بحديث عن الكلاب. وكان الحوار الأخير المصاحب لتناول الخمور ـ ربما لأن الأمور بطبيعتها تميل إلى الدوران إلى بداياتها ـ عن الكلاب أيضا. كان لدى مضيفتنا العذبة كلب اسمه خوسيه. وذلك أمر ما كان ليفعله أحد من عصبة المتكتمين. فأي كلب لأحدهم كان ينبغي أن يحمل اسم ريكس، ومع ذلك ففي لحظة شديدة التكتم كان صاحب ذلك الكلب ليقول «إن ابني هو الذي أطلق عليه ذلك الاسم». وفي عصبة المتكتمين، يُعدُّ من الطبيعي الحديث عن الأبناء باعتبارهم طغاة البيت المعشوقين. «ابنى يرى أن فستاني فظيع». «ابنتي اشترت تذاكر للحفل الموسيقي، لكن لا أعتقد أنني سوف أذهب، يمكن أن تذهب هي ووالدها». بصفة عامة، كل عضوة تدعى إلى عصبة المتكتمين بفضل زوجها، رجل الأعمال الثري، أو المرحوم والدها، المحامي ذائع الشهرة بلا أدنى شك.
يتركن المائدة. فمن يطبقن مناشفهن بعناية قبل أن ينهضن إنما يفعلن ذلك لأن ذلك ما تربين عليه. ومن يرمينها كيفما اتفق لديهن نظرية خاصة برمي المناشف كيفما اتفق.
تساعد القهوة على تسوية الوجبة المتخمة الرائعة، ولكن الخمر يمتزج بالأنبذة السابقة، فينتاب الضيفات إحساس ما بالغموض المرهق. فليُدَخِّن منكن من يدخنّ، ومن لا يدخنّ لا يدخنَّ. فيدخنَّ كلهن. يزداد وجه المضيفة إشراقا على إشراق، مع بعض التعب. وأخيرا، يتبادلن جميعا الوداع. وقد خربت البقية الباقية من عصر اليوم. يرجع البعض إلى البيوت وأمامهن نصف العصر كي يقتلن وقته. وأخريات ينتهزن فرصة ارتدائهن الثياب الجميلة للقيام بزيارة فريدة ما. فلعلها، من يدري، زيارة لإبداء آيات الاحترام. وهكذا حال الدنيا، نأكل، ونموت.
بصفة عامة، كان الغداء مثاليا. لابد أن تحضري إلينا في مرة قادمة. لا، وحياتك لا تقولي هذا.
أحمد شافعي شاعر ومترجم مصري
العبارات الفرنسية الأولى، والمكررة، تعني «ليس سيئا»، والثانية تعني «إنما النغمة هي التي تخلق الأغنية» ـ بتصرف قليل في ترجمة جوجل.
ترجمة: أحمد شافعي -
في عام 1967 استكتبت صحيفة (جورنال دي برازيل) الكاتبة كلاريس لسبكتور عمودا صحفيا ليوم السبت من كل أسبوع يتناول أي موضوع يروق لها. فظلت لقرابة سبع سنوات تكتب ذلك العمود في نطاق من المواضيع -البشر والحيوانات، وحفلات العشاء السخيفة، والأنشطة اليومية لابنيها- ولكن مهما يكن موضوع العمود فإنها كانت تخرج عنه. ويسهل في هذه المقالات أن يجد القارئ الذي يألف أعمالها القصصية والروائية ما يسم أسلوبها بصفة عامة من غنائية ولمسة غرابة. سوف تصدر مختارات من هذه الأعمدة باللغة الإنجليزية في شهر سبتمبر عن دار نيوديركشنز بعنوان «Too Much of Life» بترجمة مارجريت جول كوستا وروبين بيترسن. وفيما يلي مقالان من الكتاب الوشيك نشرهما موقع ذي باريس ريفيو على الإنترنت.
ولدت كلاريس لسبكتور سنة 1920 لأسرة يهودية في غرب أوكرانيا، وبسبب معاداة السامية وما صاحبها من عنف هاجرت الأسرة إلى البرازيل سنة 1922 فنشأت كلاريس في مدينة ريسيف، ثم انتقلت إلى ريو دي جانيرو عقب وفاة والدتها وهي -أي كلاريس بالطبع- في التاسعة من العمر. نشرت تسع روايات وعددا من المجاميع القصصية وكتب الأطفال والمقالات الصحفية، ولم يترجم لها في العربية إلا رواية واحدة في ما أعلم.
26 أكتوبر 1968
افتعال الشجاعة
بدا لـ(ز.م) أن الحياة تنسرب من خلال أصابعها. نسيت، في غمرة تواضعها، أنها نفسها مصدر للحياة والخلق. لم تكن تخرج إلا قليلا، ودأبت على رفض الدعوات. لم تكن من النساء اللاتي يلاحظن حين يهتم بها رجل ما لم ينطق بذلك فعلا، وحينئذ كانت تندهش وترحب باهتمامه.
في ظهيرة أحد الأيام، وكان ذلك في الربيع، في أول أيام الربيع، مضت (ز.م) لزيارة صديقة لها فسألتها بصراحة: كيف يتأتى لامرأة ناضجة مثلها أن تكون على هذا القدر من التواضع؟ كيف يتأتى لها أن تعجز عن ملاحظة الرجال الكثيرين المغرمين بها؟ كيف لا ترى أنها، احتراما لنفسها، يجب فعلا أن تقيم علاقة؟ قالت أيضا إنها رأتها ذات مرة تدخل غرفة مليئة بالمعارف، ولم يكن أي منهم يطاولها إشراقا. وبرغم ذلك رأتها تكاد تتسلل في دخولها، وكأنها لا تكاد تكون موجودة، كأنها أرنبة منحنية الرأس. «عليك أن تسيري مرفوعة الرأس. قَدَرك أن تعاني لأنك مختلفة، كونيًّا مختلفة، فاقبلي وحسب أن هذه الحياة البرجوازية ليست لك، وادخلي الغرفة عالية الرأس». «أدخل وحيدة تماما إلى غرفة مليئة بالناس؟» «نعم. لست بحاجة إلى أن تكوني برفقة شخص آخر، أنت بخير تماما وأنت وحدك».
تذكرت ذلك، في وقت لاحق من اليوم نفسه، وكان يقام فيه حفل كوكتيل لمعلمي المدرسة الابتدائية في إجازتهم. تذكرت الوضع الجديد الذي كان يفترض أن تتبناه، فلم ترتب لحضور الحفل برفقة إحدى زميلاتها، وإنما قررت أن تخاطر بالذهاب وحدها تماما. ارتدت ثوبا جديدا إلى حد ما، ثم خانتها شجاعتها. فحينذاك -ولم تفهم هذا إلا لاحقا- وضعت الكثير من مكياج العين، والكثير للغاية من طلاء الشفاه فبدا وجهها وكأنه قناع. فرضت على نفسها شخصية أخرى، والمدهش أن تلك الشخصية الأخرى كانت خليعة، ومتعجرفة. تمثِّل كل ما لم تكنه هي. ثم لما حان وقت مغادرتها الشقة، ترددت: ألا تكلف نفسها هكذا فوق طاقتها؟ في كامل ثيابها، ومع قناع مطلي على وجهها-أنت أيتها الشخصية، لم لا أستغلك وأكونك في نهاية المطاف؟- غاصت خجلة في مقعد وثير بغرفة معيشتها المألوفة تمام الألفة وتضرع إليها قلبها ألا تذهب. بدا أنها استشعرت ما سوف تتعرض له من كدمات كثيرة ورضوض، ولم تكن بالماسوخية. وأخيرا، أطفأت سيجارة شجاعتها، ونهضت، وخرجت.
استشعرت عذابات الخجولين التي لم توصف قط بقدر ما ينبغي. وفيما سيارة التاكسي منطلقة، كانت هي تموت قليلا قليلا.
وبغتة إذا بها هناك، واقفة أمام غرفة شاسعة مليئة بالكثير جدا من الناس في ما يحتمل، برغم أنهم بدوا شديدي القلة في المساحة الهائلة المخصصة لذلك الحفل، أو تلك الشعيرة من شعائر العصر الحديث.
كم طال عليها الوقت وهي رافعة رأسها بذلك الشكل غير الطبيعي؟ لم ترتح في وجود القناع، وكانت تعلم فضلا عن ذلك أنها أجمل بغير القناع. ولكنها بغير المكياج تكون عارية الروح. وما كانت لتخاطر أو لتأذن لنفسها بتلك الرفاهية.
تحدثت مع شخص وابتسمت، ثم تحدثت مع آخر وابتسمت. لكن مثلما يحدث في جميع حفلات الكوكتيل، كان مستحيلا أن يجري حوار، فوجدت نفسها من جديد وحدها. وقعت عينها على رجل كان في يوم من الأيام حبيبها. وفكرت: مهما يكن قدر الحب الذي ربما حظي به ذلك الرجل في حياته، فأنا التي منحته روحي كلها وجسمي كله. تبادلا النظر، وفحص كل منهما الآخر، ولا شك أن القناع المطلي صدمه. لم تدر ماذا تفعل عدا أن تسأله عما لو أنهما لا يزالان صديقين ـ إن أمكن ذلك. قال نعم، بالطبع، وإنهما سيبقيان صديقين على الدوام.
بعد فترة شعرت أنها لا تقوى على الاستمرار في رفع رأسها. لكن كيف لها أن تعبر الفراغ الهائل من مكانها إلى الباب؟ وحيدة، كأنها فارّة؟ أدلت بشبه اعتراف بمشكلتها هذه لإحدى زميلاتها المعلمات، فمضت بها في رقة عابرة المدى الهائل الممتد في ما بينها والباب.
وفي عتمة تلك الليلة الصيفية كانت امرأة تعيسة. صحيح أنها مختلفة. لكن صحيح أيضا أنها جبانة. وأنها مفرطة الحساسية. وأنها التقت بذلك اللهب القديم. وفي الهواء عتمة ورائحة ربيع. وبين ضلوعها يخفق قلب الدنيا. وكانت دائما تعي روائح الطبيعة. عثرت أخيرا على سيارة تاكسي وجلست فيها وهي توشك أن تذرف دموع الارتياح، متذكرة أن مثل ذلك جرى لها في باريس، لولا أن ذلك كان أسوأ. هربت مثل فارّة من العالم. ولم يبق مهرب من حقيقة أنها لا تعرف كيف تعيش. في أمان منزلها، نظرت إلى نفسها في المرآة وهي تغسل يديها ورأت الشخصية تنبعج على وجهها: رأت تلك الشخصية تبتسم ابتسامة مهرج. غسلت وجهها فارتاحت إلى تعري روحها من جديد. ثم تناولت قرصا منوما، وقبل أن يواتيها النوم، استلقت في غاية الصحو، وتعهدت لنفسها بألا تغامر تلك المغامرة مرة أخرى دونما حماية. كان القرص قد بدأ يبعث فيها الهدوء. فبدأت ليلة الأحلام الهائلة.
3 مايو 1969
عمود المجتمع
كان غداء للهوانم. بدا على الجميع، من المضيفة والضيفات، سرور تام بأن كل شيء على ما يرام. وكأنما هناك مخاطرة دائمة بانشاف الحقيقة، حقيقة أن واقع الخدم والزهور والأناقة أعلى منهن قليلا وليس ذلك لأسباب تتعلق بالطبقة الاجتماعية، ولكنه هكذا وحسب: أعلى منهن. لعله أعلى من حقيقة أنهن كن محض نساء لا هوانم. ومع أن كلهن كان لهن الحق في الوجود هناك، فقد بدا مع ذلك أنهن يعشن في رعب من لحظة تزلُّ فيها إحداهن بهفوة لحظة تفضح الواقع.
كان الغداء رائعا، أبعد بمليون ميل عن ساعات الشقاء التي قضيت في المطبخ، أذ أزيلت قبل وصول الضيفات جميع السقالات. وبرغم تفصيلة ضئيلة لم يكن يمكن تجاهلها لصالح المشروع كله ـ وهو تحديدا غداء. التفصيلة التي اضطرت إحدى الهوانم إلى تجاهلها هي أن نادلا كان كلما قدَّم لمجاورتها على المائدة شيئا، احتك بشعرها احتكاكا خفيفا فأفزعها ذلك فزعا من النوع الذي ينذر دائما بكارثة. وكان حول المائدة نادلان، القائم منهما على خدمة تلك المرأة بقي خفيا بالنسبة لها طوال الوجبة. وليس من المحتمل أن يكون قد رأى وجهها. ولانعدام فرصة أن يكونا قد التقيا فعليا، فإن العلاقة الوحيدة القائمة بينهما تأسست خلال لقاءات الصدفة بينه وبين شعرها. وقد علم النادل ذلك. ومن خلال شعرها بدأ بشكل تدريجي يشعر أنه ممقوت فبدأ هو الآخر ينتابه الغضب.
من المحتمل أن يكون وميض غضب عابر قد طاف بكل واحدة من الضيفات خلال ذلك الغداء الفخم. لا بد أن كل واحدة منهن شعرت، ولو للحظة، بالقلق الملح العاجل الناجم عن تصفيفة شعر توشك أن تنهار، فتدفع الغداء كله إلى كارثة.
كانت المضيفة تبسط سلطتها بخفة، وبدا ذلك ملائما لها. غير أنها، في بعض الأحيان، كانت تنسى أنها تحت الأنظار، فترتسم على وجهها بعض التعبيرات التي لا تخلو من قدرة على الإدهاش، كأن تظهر مثلا مسحة ضيق وخيبة. أو، كما حدث في لحظة -وأي أفكار مبهمة قلقة كانت تمر بعقلها في تلك اللحظة؟ حينما نظرت في هدوء إلى الضيفة الجالسة عن يمينها، وكانت تحدثها قائلة «أليس الريف هناك بديعا؟» فقالت المضيفة بصوت عذب حالم متثائب، وبشيء من نفاد الصبر:
«نعم...نعم، هو كذلك، أليس كذلك؟»
أكثر من أمتعت نفسها كانت مدام س، ضيفة الشرف، التي كانت تغمرها الدعوات دائما فلم يكن حفل الغداء بالنسبة لها إلا محض غداء. ففي حركات رقيقة وديعة التهمت في سعادة الطعام الفرنسي، غامسة الملعقة في فمها، ثم متمعنة فيها في فضول ـ وذلك أثر من بقايا الطفولة.
غير أنه ساد بين جميع الضيفات جو مصطنع من اللامبالاة. ولعلهن لو قلَّلن من الاصطناع لبدون غير مباليات حقا. لكن ما كانت إحداهن لتجرؤ. فكل واحدة كانت خائفة بعض الشيء من نفسها، كأنما هي خائفة من احتمال الوقوع في أشنع غلطة إن غفلت عنها حارستها لوهلة. لا، لقد عقدن جميعا العزم على أن يجعلن ذلك الغداء هو الغداء الأمثل.
لم تسنح لهن فرصة أن يكن على راحتهن، أو يسمحن بلحظة صمت عارضة. كان ذلك أقرب إلى المحال. فما كان موضوع يكاد يطرح، طرحا طبيعيا، إلا وينقضضن عليه واحدة واحدة فيمضي النقاش إلى أن يستنفد وقوده ليتلاشى حتى ينعدم. ولما كن جميعا يتناولن الموضوع من الزاوية نفسها ـ لأنهن جميعا يعلمن الأمور نفسها ـ بما يعني أنه لم تسنح الفرصة لتنوع الآراء، فقد كان كل موضوع يفتح مرة أخرى مجالا للصمت.
كانت مدام ص، وهي امرأة ضخمة، صحيحة البنيان، في الخمسين من العمر، حديثة الزواج، ترتدي صدارا مثبتا بالدبابيس على صدر ثوبها. وكانت لها الضحكة السلسة الحماسية المعهودة فيمن تأخر عليهن الزواج. الباقيات بدون عازمات على أن يرينها سخيفة. فخفَّف هذا من التوتر بعض الشيء. ومع ذلك، فقد كان واضحا أنها على قدر من السخف فعلا، وذلك ما يعجزنا عن العثور على مفتاح شخصيتها، وآه لو أتاحت لنا الفرصة لنكتشف أي مفتاح هو ذلك المفتاح. لكنها أبت: وتكلمت وتكلمت.
أسوأ الأمور قاطبة أن إحدى الضيفات لم تكن تتكلم غير الفرنسية. وتلك كانت مشكلة لمدام ع. ولم تلح لها فرصة انتقام ممكن إلا حينما قالت الأجنبية إحدى تلك العبارات التي لم يكن الرد عليها يقتضي غير تكرارها ببغائيا مع تغيير طفيف في النبرة. قالت الأجنبية “Il n’est pas mal” *. فإذا بمدام ع، في ثقة من أنها ستقول القول المناسب، تكرر الكلمات زاعقة بها بقوة، وبصوت مليء بالدهشة وسرور شخص خطرت لها فكرة وتوصلت إلى اكتشاف «Ah, il n’est pas mal, il n’est pas mal». لأن ضيفة أخرى قالت بالفرنسية، مع أنها لم تكن أجنبية بحال وكانت ترد على شيء آخر تماما “C’est le ton qui fait la chanson”.*
أما عن مدام ك، ذات الرمادي في الرمادي، فكانت دائما مستعدة للإنصات والرد. استكانت في خمولها. لقد علمت أن أمضى سلاح لديها هو التكتم فأسرفت في استعماله. قالت بعيني أمٍّ باسمتين «لن يحملني أحد على أدنى تغيير في سلوكي». بل لقد عثرت على طريقة لإبراز تكتمها، كما في قصة الجواسيس الذين وضعوا على صدورهم شارات الجاسوسية. فكانت تعمد إلى ارتداء الثياب التي قد توصف بالمتكتمة. أما حليها فكانت متكتمة بوضوح. فضلا عن أن المتكتمين يشكلون ما يشبه العصبة. فيعرف بعضهم بعضا من نظرة، ويطري بعضهم على بعض، ويطري أحدهم على نفسه.
بدأ الحوار بحديث عن الكلاب. وكان الحوار الأخير المصاحب لتناول الخمور ـ ربما لأن الأمور بطبيعتها تميل إلى الدوران إلى بداياتها ـ عن الكلاب أيضا. كان لدى مضيفتنا العذبة كلب اسمه خوسيه. وذلك أمر ما كان ليفعله أحد من عصبة المتكتمين. فأي كلب لأحدهم كان ينبغي أن يحمل اسم ريكس، ومع ذلك ففي لحظة شديدة التكتم كان صاحب ذلك الكلب ليقول «إن ابني هو الذي أطلق عليه ذلك الاسم». وفي عصبة المتكتمين، يُعدُّ من الطبيعي الحديث عن الأبناء باعتبارهم طغاة البيت المعشوقين. «ابنى يرى أن فستاني فظيع». «ابنتي اشترت تذاكر للحفل الموسيقي، لكن لا أعتقد أنني سوف أذهب، يمكن أن تذهب هي ووالدها». بصفة عامة، كل عضوة تدعى إلى عصبة المتكتمين بفضل زوجها، رجل الأعمال الثري، أو المرحوم والدها، المحامي ذائع الشهرة بلا أدنى شك.
يتركن المائدة. فمن يطبقن مناشفهن بعناية قبل أن ينهضن إنما يفعلن ذلك لأن ذلك ما تربين عليه. ومن يرمينها كيفما اتفق لديهن نظرية خاصة برمي المناشف كيفما اتفق.
تساعد القهوة على تسوية الوجبة المتخمة الرائعة، ولكن الخمر يمتزج بالأنبذة السابقة، فينتاب الضيفات إحساس ما بالغموض المرهق. فليُدَخِّن منكن من يدخنّ، ومن لا يدخنّ لا يدخنَّ. فيدخنَّ كلهن. يزداد وجه المضيفة إشراقا على إشراق، مع بعض التعب. وأخيرا، يتبادلن جميعا الوداع. وقد خربت البقية الباقية من عصر اليوم. يرجع البعض إلى البيوت وأمامهن نصف العصر كي يقتلن وقته. وأخريات ينتهزن فرصة ارتدائهن الثياب الجميلة للقيام بزيارة فريدة ما. فلعلها، من يدري، زيارة لإبداء آيات الاحترام. وهكذا حال الدنيا، نأكل، ونموت.
بصفة عامة، كان الغداء مثاليا. لابد أن تحضري إلينا في مرة قادمة. لا، وحياتك لا تقولي هذا.
أحمد شافعي شاعر ومترجم مصري
العبارات الفرنسية الأولى، والمكررة، تعني «ليس سيئا»، والثانية تعني «إنما النغمة هي التي تخلق الأغنية» ـ بتصرف قليل في ترجمة جوجل.