ما الغاية من الفن؟ هذا السؤال خُلق مع بداية ظهور الفن، فكان سؤالا يشغل الفنان وينخر رأسه كنقّار خشب، يحفر عميقا في تفكيره ويترك فجوات لا تُردم بالهيّن، وكذا الناقد والمتلقي لم يسلما من زنّ هذا السؤال ومعهم عوام الناس أيضا الذين كانوا عندما يسمعون عن الفن أو يشاهدونه، وبعد شرودٍ قصير يسألون ببراءة ما الفائدة من هذا؟ ما الجدوى من اللوحة أو المنحوتة؟ لم يتوجب علينا شراؤها بثمن مرتفع؟ ما فائدة الشعر والرواية والأدب عامة؟
حتى جان كوكتو (الكاتب والمصمم الفرنسي) لم يسلم من لعنة هذا السؤال، فيقول «الشعر ضرورة...وآه لو أعرف لماذا» هكذا اختصر كوكتو الحيرة التي كانت تكتنف العالم إلى اليوم حول جدوى الفن.
أمام هذا السؤال البسيط يقف العديد صامتين، ملجومي الأفواه، فلا إجابة شافية كافية، فغاية الفن تتبدّل من فنانٍ لآخر ومن عصرٍ لآخر، وحتى أنّها تختلف تبعا لشريحة المتلقين الذين يستقبلون العمل.
هناك فنان يرسم لأجل المال، وآخر ليخفف بشاعة الحياة بجمال أعماله، أحدهم يريد أن يقول رأيه بما يجري في العالم فيكون عمله صوته، وآخر يريد أن يصنع شيئا مختلفا يشغل الرأي العام.
في البدايات الأولى لظهور الفن كانت الرسومات تحلّ مكان الكلام، فالغاية من وجودها وظيفي في المرتبة الأولى لا يستدعي الجمال قبل أن يستدعي الوضوح والدقة كما في رسوم كهف لاسكو-في جنوب غرب فرنسا والذي يعد واحدا من أهم الكهوف الأثرية وأكثرها قدما. في المرحلة الثانية بدأ الفن يمتلك سلطة دينية يصوّر الآلهة بالشكل الأمثل في عصرها فآلهة الحب والجمال عشتار وأورنينا أول مغنية في معبدها منذ حوالي 3500 ق.م يختلفان جماليّا عن الآلهة التي ظهرت في العصور الكلاسيكية، حيث صار للجمال شروط ونسب واضحة فلا يكون الفن فنا ما لم يلتزم بها، فالفن صنو الجمال وقد كانت الأعمال في تلك المرحلة مبهرة بواقعيتها وسحرها وما تحمله من حكايات وكان من شروط العمل الفني أن يحقق التوازن والتناسب كذلك؛ بقي الرباط المقدس ما بين الجمال والفن خلال عصر النهضة واحتفظ الجمال بشروط صارمة جديدة يلتزم بها فنانو هذه المرحلة مثل الرجل الفيتروفي لليوناردو دافنشي، والنسبة الذهبية التي استخلصت من بعض أعماله -الموناليزا- والتي حُددت بأن تكون النسبة بين رقمين تساوي 1.618 فكانت الأعمال دقيقة ساحرة بالتفاصيل التي تملأ المساحات كسقف كنيسة السيستين لمايكل آنجلو المليء بالسحر والهيبة لشدة جماله، الزخارف هنا كانت عكازا يتكئ عليه الجمال ليشدّ ظهره ويزيد من أنفته، لكن في القرن الثامن عشر جاءت نزعة تزينية بحتة، أُغرقت فيها أوروبا بالزخارف والتفاصيل والبريق وأفرغت الفن من محتواه في محاولة لتكثيف الجمال من خلال طمر وجهه بمساحيق التجميل، تلك النزعة سميت بفن الروكوكو Roccoco الذي اعتبر فنا ضحلا إذا ما قورن بالكلاسيكيات اليونانية والرومانية؛ وكرد فعلٍ على هذا جاءت الكلاسيكية الجديدة وقد نادى بها جاك لويس دافيد بشروط تتصدرها الدقة والرصانة ونبل المواضيع القديمة بأغلبها والجمال المثالي، كانت هذه المدرسة دكتاتورية للغاية، لم يصبر عليها الفنانون فتأسّس مذهب الرومانسية الذي أيضا أعطى الجمال صدارة مبادئه إلا أنه ابتعد عن المواضيع القديمة وأقبل على مواضيع معاصرة واهتم بتصوير الحياة الحقيقية وحشودها، ثم ظهرت الواقعية الطبيعية وخرج خلالها الفنانون من مراسمهم وصاروا يرسمون في الطبيعة ويحرصون على إبراز جمالها وعظمتها، وبعد اختراع آلة التصوير الضوئي عام 1823 لم يعدّ للفن الواقعي أهمية توثيقية لإبراز جمال المرئي من بشر وأبنية وطبيعة فالكاميرا الآن ستقوم بمهمة حفظ الجمال الملموس؛ فبدأ الفن يبحث عن الجمال خارج إطار الجمال المشروط، فلم يعد الشّكل المحقق للشروط المسبقة شغله الشاغل، بل صار للفن رسالته وموضوعاته يعرضها كلّ مرة بأسلوب مختلف تبعا للمدارس التي تنقّل بينها أو ربما التي تأسست أثناء تنقلاته وحركته الدائمة التي تليق بالإبداع الذي يأبى الجمود على حالٍ واحد.
وخلال حركته هذه بقي الفن متمسكا بثوب الجمال عاضّا عليه بالنواجذ، فالجمال صار يتجلّى بوجوه مختلفة، فالضوء هو سيد الدهشة والممسك بزمامها في المدرسة الانطباعية، بينما يبرز الخط الملتوي الواضح في المدرسة التعبيرية ويمنح العمل رشاقته المبهرة، ثم تأتي العفوية في المدرسة الفطرية لتمنح الأعمال جماليتها الخاصة.
نلاحظ أن الفن خلال هذا الفترة كان يتدرّج مبتعدا عن الجمال المشروط -بكونه قيدا خانقا- فلم تعد وجوه النساء المشرقة وأجسادهن البيضاء محور العمل الفني، ولا المناظر الطبيعية الساحرة وساحات المدن المنمّقة هي العمود الفقري للعمل، بل صار الجمال مطواعا، كائنا مرنا ينصاع بكل هدوء للفنانين يمسكون بذراعه ويتجولون في عوالمهم، يحضر بالمقدار الذي يرغبون به، وبالصورة التي يفضلونها يتجسّد.
إذن مع تبدّل الفن وأحواله لابد لمفهوم الجمال أن يتبدّل أيضا؛ كما تتبدّل الموضة العالمية في كلّ حين فارضة صورة للجمال والكمال سرعان ما تلغيها في الموسم القادم.
وبقي الحال ما بين أخذٍ ورد بين الثنائي سابق الذكر -الفن والجمال- حتى عام 1916 حيث ظهرت في زيورخ حركة ثقافية تُسمى DADA أتت لتنسف كلّ التقاليد وكلّ الشروط التي قيّدت الفنون والآداب، حملت شعار «كل شيء لا شيء» حتى أن تسميتها تمت بشكل اعتباطي حيث أقدم فنانٌ يُدعى تريستان تزارا على فتح المعجم بطريقة عشوائية ووضع إصبعه على كلمة فكانت لفظ «دادا» (الحصان الخشبي الذي يلعب به الأطفال في العيد) فسميت المدرسة بذلك.
الحركة الدادئية أنشئت في المرتبة الأولى لتكون مناهضة للحرب وكان ذلك من خلال محاربتها كل المظاهر الثقافية التقليدية التي رأى معتنقو هذه الحركة أنها هي التي أدت إلى نشوء الحرب العالميّة وفي مقدمتها الجمال، لم تلتزم الدادائية إلا مبدأ النفي والإلغاء، إلغاء الكتابة المنمقة والقوافي المشغولة باحتراف، والاتجاه نحو الكتابة الارتجالية الفارغة من المعنى والقصائد الساذجة، وفي مجال الفن دعت إلى اللافن، وتبنت فكرة الرسم والكتابة على الأشياء العادية لتحل محلّ اللوحة وبذلك تُخلّص الفن من قدسيته التي كانت تكتنف اللوحات والمنحوتات في العصور السابقة، وصار التعامل مع الفن خاليا من الجدية والالتزام، فلا الفكرة صارت ملحة بل رفض الفكرة هو الأساس، ولا الجمال صار ضرورة بل نقيضه القبح هو من حضر، حيث من الممكن أن يكون بديلا له كما رأى أحد علماء الجمال (إذا بلغ القبح حدود الدّمامة، أصبح من وحي تفرده جمالا).
وخير مثال على الأعمال الفنية المنتمية للدادائية «المبولة» لمارسيل دوشامب، حيث قام بالتوقيع -باسم مستعار هو ريتشارد مات- على مبولة ثم عرضها على أنها عمل فني أصيل بعنوان «نافورة، fountain»، والذي قام بدوره أيضا برسم شاربين ولحية صغيرة على وجه الموناليزا بقصد السخرية من تلك الفنون الكلاسيكية ومن العالم البرجوازي الذي كان يسيطر على تلك الحقبة.
لم تكن الدادئية آخر المدارس الفنية بالطبع فبعدها أتت المدرسة السريالية بعد أن انشق أندريه بروتون عنها إثر خلاف مع (تريستان تزارا) وأعلن بيان السريالية لتستحضر عوالم الخيال واللامعقول لنصل أخيرا بعد الحرب العالمية الثانية لمدرسة الحد الأدنى (minimalisim) التي رأت الجمال والفن يتجسدان بالاختصار والإيجاز وفنون ما بعد الحداثة كالفن المفاهيمي والتركيبي فنون الجسد.. منحت الجمال زاوية جديدة للرؤية.
إلى اليوم ما زلنا نلمح أتباعا للمدرسة الدادئية من فنانين يرسمون بمفرزات أجسادهم (بول، براز، سائل منوي، مخاط...) وينفذون أعمالا فنية من المخلفات الصناعية.
حتى أن الفن المفاهيمي (conceptual art) يعتبر امتدادا للدادائية، ويعتبر مارسيل دوشامب هو الأب الرّوحي له، وقد ظهر كردة فعل على الثورة الصناعية التي حدثت في أوروبا -بينما الدادائية كانت ردة فعل على الحرب العالمية الأولى- وقد جاء الفن المفاهيمي ليؤكد على جمالية الفكرة والدهشة التي تتركها من خلال اختزالها ضمن مشروع أو عمل ما غير عابئ بجمال الشكل وشروط العمل الفني التقليدي.
في عام 2006 ظهر عمل بعنوان: «suri Cruises`s First poop» حيث قام الفنان دانيال ادوارز بتنفيذ عمل بالحجم الطبيعي للبراز الأول لابنة الممثل توم كروز «سوري suri» ذات الـ19 أسبوعا والتي بقيت بعيدة عن أعين الجمهور وكان أول ما ظهر منها ذاك العمل البرونزي الذي تمّ عرضه على موقع eBay وقد تمّ بيعه بـ7000$ والتبرّع بثمنه للأعمال الخيريّة، العمل مثبّت على قاعدة يذكر عليها اسم الطفلة وتاريخ الفضلات المجسدة في العمل وهو 18 أغسطس 2006.
وبعد عام من ذلك في 2007 قام فنان اسمه «تيرينيس كوه» بتقديم عمل مفاهيمي نفّذه في معرض بازل «artbasel» وهو عبارة عن علب زجاجية تحتوي قطع من برازه مطليّة بالذهب، وقد بيع هذا العمل بمبلغ 500,000$ !
إذن هل هذا هو الانعتاق من قيود الجمال والتّحرر من ضوابط الفن الكلاسيكي وشروطه؟ هل القبح والقذارة هي ما يُفترض أن يلتصق بالفن لنقول لا لمثاليته وابتعاده عن مآسي الطبقات المهمّشة وهموم المجتمع!
أسئلة لا تمتلك إجابةً واضحة فدعاة الحداثة والتغيير وكسر التابوهات سيصفقون لأي عمل مختلف ويفتحون الباب على مصراعيه للفنانين حاملي لواء التغيير، بينما المتشبثون بإرث الماضي والباكون على جمال عصورٍ بائدة، لن يقبلوا بأن تتربع أعمالٌ شعثاء غبراء على عرش الفن، حتى أن مثل هذه الأعمال قد تعيد الرغبة عند المتلقين الحياديين -الذين لا ناقة لهم ولا جمل في عالم الفن وطرائقه - بوضع الفن في مكانته السابقة واشتراط الجمال والروحانية في الأعمال الفنية.
أخيرا، يشغلني سؤال كيف سيتلقى الجمهور المحب للفن مثل هذه الأعمال وهل من متعة في ذلك؟
إن اتخذنا الحياد منهجا في الإجابة عن الاستفسار الأخير سنجد أن للمتعة في تلقي العمل الفني جوانب عديدة يشرق بعضها بجمال الشكل وتأمل تفاصيله التي تشي بحرفية عالية وصنعة دقيقة، بينما ينتشي جانبٌ آخر بالبحث والتفكير عن معنى العمل ومغزاه، فتأمل مثل تلك الأعمال يحرّض داخلنا الكثير من الأسئلة، وعندما يتجاوز الاستغراب والاشمئزاز اللذان يرتبطان غالبا بالأعمال الشاذة -وفق تقييم المتلقي السوي- المتعة الشكلية البصرية والفكرية، تطفو على السطح متعة تتجلى في تأريخ الفن وحيازة المفاصل التي تغيّر طريق سيره، أي أننا نهتم بعمل فقط لأنه مختلف وجديد ولابد أن يتغير شيء في عالم الفن بعد ظهوره، وهذا الاهتمام ظهر أيضا عند اقتناء لوحة فارغة بمليون دولار للفنانة لانا نيوستروم كانت موجودة ضمن معرضها في غاليري شولبيرغ، فالفن من الممكن أن يكون أحيانا تأريخيا توثيقيا فقط وليس من الضروري أن يحمل أي تفاصيل جمالية شكلية كانت أو فكرية.
إذن الجمال اليوم -إن حضر- ليس ضروريا أن يلتصق بالهيئة والشكل بل سينتقل للفكر والمضمون عوضا عن ذلك، وقد يطلّق الجمال الشكلي طلاقا بائنا.
قد نقتنع بهذا الفكر ونعطي أهمية للأفكار والمفاهيم ونهمل إبهار الفن الشكلي وسحر تفاصيله إلا أننا سرعان ما نشك بهذه القناعة ما إن نقف أمام أمهات اللوحات في متاحف العالم ونتأملها، فنشعر بحاجة مجتمعنا المعاصر للجمال واضح المعالم للتعويض عن البشاعة والمادية المفرطة التي اكتنفت جوانبه كافة؛ لكن كيف يكون هذا قابلا للتطبيق والفن في معظمه –شئنا ذلك أم أبينا- مرآةٌ للمجتمع، يعكس قيمه ومبادئه وأخلاقياته، يصوّر لنا البذخ الذي يحكم الحياة أو الشّح الذي يعصرها، يناسب ثقافة الأفراد وعمق اطلاعهم ويلائم الضحالة السائدة، يقرّب الواقع من المتلقي وينقله إليه، يتضافر مع بقية الأجناس الفنية (أدب، موسيقى، مسرح، سينما، رقص...) لإيجاد صورة للحياة معريّا المشاكل في محاولة إيجاد حلول لها، وشقّ طريق واسع للمستقبل؛ فالفن بصوره المتعددة سيكون الشاهد الحقيقي على ما كنّاه يوما سيخبر القادمين بكلّ شيء إذا ما تأملوه بأعين فاحصة وفكرٍ مفتوح على احتمالات واسعة وروحٍ متقبّلة للآخر، الفن هو وحده من يكتب التاريخ.
بسمة شيخو كاتبة سورية
حتى جان كوكتو (الكاتب والمصمم الفرنسي) لم يسلم من لعنة هذا السؤال، فيقول «الشعر ضرورة...وآه لو أعرف لماذا» هكذا اختصر كوكتو الحيرة التي كانت تكتنف العالم إلى اليوم حول جدوى الفن.
أمام هذا السؤال البسيط يقف العديد صامتين، ملجومي الأفواه، فلا إجابة شافية كافية، فغاية الفن تتبدّل من فنانٍ لآخر ومن عصرٍ لآخر، وحتى أنّها تختلف تبعا لشريحة المتلقين الذين يستقبلون العمل.
هناك فنان يرسم لأجل المال، وآخر ليخفف بشاعة الحياة بجمال أعماله، أحدهم يريد أن يقول رأيه بما يجري في العالم فيكون عمله صوته، وآخر يريد أن يصنع شيئا مختلفا يشغل الرأي العام.
في البدايات الأولى لظهور الفن كانت الرسومات تحلّ مكان الكلام، فالغاية من وجودها وظيفي في المرتبة الأولى لا يستدعي الجمال قبل أن يستدعي الوضوح والدقة كما في رسوم كهف لاسكو-في جنوب غرب فرنسا والذي يعد واحدا من أهم الكهوف الأثرية وأكثرها قدما. في المرحلة الثانية بدأ الفن يمتلك سلطة دينية يصوّر الآلهة بالشكل الأمثل في عصرها فآلهة الحب والجمال عشتار وأورنينا أول مغنية في معبدها منذ حوالي 3500 ق.م يختلفان جماليّا عن الآلهة التي ظهرت في العصور الكلاسيكية، حيث صار للجمال شروط ونسب واضحة فلا يكون الفن فنا ما لم يلتزم بها، فالفن صنو الجمال وقد كانت الأعمال في تلك المرحلة مبهرة بواقعيتها وسحرها وما تحمله من حكايات وكان من شروط العمل الفني أن يحقق التوازن والتناسب كذلك؛ بقي الرباط المقدس ما بين الجمال والفن خلال عصر النهضة واحتفظ الجمال بشروط صارمة جديدة يلتزم بها فنانو هذه المرحلة مثل الرجل الفيتروفي لليوناردو دافنشي، والنسبة الذهبية التي استخلصت من بعض أعماله -الموناليزا- والتي حُددت بأن تكون النسبة بين رقمين تساوي 1.618 فكانت الأعمال دقيقة ساحرة بالتفاصيل التي تملأ المساحات كسقف كنيسة السيستين لمايكل آنجلو المليء بالسحر والهيبة لشدة جماله، الزخارف هنا كانت عكازا يتكئ عليه الجمال ليشدّ ظهره ويزيد من أنفته، لكن في القرن الثامن عشر جاءت نزعة تزينية بحتة، أُغرقت فيها أوروبا بالزخارف والتفاصيل والبريق وأفرغت الفن من محتواه في محاولة لتكثيف الجمال من خلال طمر وجهه بمساحيق التجميل، تلك النزعة سميت بفن الروكوكو Roccoco الذي اعتبر فنا ضحلا إذا ما قورن بالكلاسيكيات اليونانية والرومانية؛ وكرد فعلٍ على هذا جاءت الكلاسيكية الجديدة وقد نادى بها جاك لويس دافيد بشروط تتصدرها الدقة والرصانة ونبل المواضيع القديمة بأغلبها والجمال المثالي، كانت هذه المدرسة دكتاتورية للغاية، لم يصبر عليها الفنانون فتأسّس مذهب الرومانسية الذي أيضا أعطى الجمال صدارة مبادئه إلا أنه ابتعد عن المواضيع القديمة وأقبل على مواضيع معاصرة واهتم بتصوير الحياة الحقيقية وحشودها، ثم ظهرت الواقعية الطبيعية وخرج خلالها الفنانون من مراسمهم وصاروا يرسمون في الطبيعة ويحرصون على إبراز جمالها وعظمتها، وبعد اختراع آلة التصوير الضوئي عام 1823 لم يعدّ للفن الواقعي أهمية توثيقية لإبراز جمال المرئي من بشر وأبنية وطبيعة فالكاميرا الآن ستقوم بمهمة حفظ الجمال الملموس؛ فبدأ الفن يبحث عن الجمال خارج إطار الجمال المشروط، فلم يعد الشّكل المحقق للشروط المسبقة شغله الشاغل، بل صار للفن رسالته وموضوعاته يعرضها كلّ مرة بأسلوب مختلف تبعا للمدارس التي تنقّل بينها أو ربما التي تأسست أثناء تنقلاته وحركته الدائمة التي تليق بالإبداع الذي يأبى الجمود على حالٍ واحد.
وخلال حركته هذه بقي الفن متمسكا بثوب الجمال عاضّا عليه بالنواجذ، فالجمال صار يتجلّى بوجوه مختلفة، فالضوء هو سيد الدهشة والممسك بزمامها في المدرسة الانطباعية، بينما يبرز الخط الملتوي الواضح في المدرسة التعبيرية ويمنح العمل رشاقته المبهرة، ثم تأتي العفوية في المدرسة الفطرية لتمنح الأعمال جماليتها الخاصة.
نلاحظ أن الفن خلال هذا الفترة كان يتدرّج مبتعدا عن الجمال المشروط -بكونه قيدا خانقا- فلم تعد وجوه النساء المشرقة وأجسادهن البيضاء محور العمل الفني، ولا المناظر الطبيعية الساحرة وساحات المدن المنمّقة هي العمود الفقري للعمل، بل صار الجمال مطواعا، كائنا مرنا ينصاع بكل هدوء للفنانين يمسكون بذراعه ويتجولون في عوالمهم، يحضر بالمقدار الذي يرغبون به، وبالصورة التي يفضلونها يتجسّد.
إذن مع تبدّل الفن وأحواله لابد لمفهوم الجمال أن يتبدّل أيضا؛ كما تتبدّل الموضة العالمية في كلّ حين فارضة صورة للجمال والكمال سرعان ما تلغيها في الموسم القادم.
وبقي الحال ما بين أخذٍ ورد بين الثنائي سابق الذكر -الفن والجمال- حتى عام 1916 حيث ظهرت في زيورخ حركة ثقافية تُسمى DADA أتت لتنسف كلّ التقاليد وكلّ الشروط التي قيّدت الفنون والآداب، حملت شعار «كل شيء لا شيء» حتى أن تسميتها تمت بشكل اعتباطي حيث أقدم فنانٌ يُدعى تريستان تزارا على فتح المعجم بطريقة عشوائية ووضع إصبعه على كلمة فكانت لفظ «دادا» (الحصان الخشبي الذي يلعب به الأطفال في العيد) فسميت المدرسة بذلك.
الحركة الدادئية أنشئت في المرتبة الأولى لتكون مناهضة للحرب وكان ذلك من خلال محاربتها كل المظاهر الثقافية التقليدية التي رأى معتنقو هذه الحركة أنها هي التي أدت إلى نشوء الحرب العالميّة وفي مقدمتها الجمال، لم تلتزم الدادائية إلا مبدأ النفي والإلغاء، إلغاء الكتابة المنمقة والقوافي المشغولة باحتراف، والاتجاه نحو الكتابة الارتجالية الفارغة من المعنى والقصائد الساذجة، وفي مجال الفن دعت إلى اللافن، وتبنت فكرة الرسم والكتابة على الأشياء العادية لتحل محلّ اللوحة وبذلك تُخلّص الفن من قدسيته التي كانت تكتنف اللوحات والمنحوتات في العصور السابقة، وصار التعامل مع الفن خاليا من الجدية والالتزام، فلا الفكرة صارت ملحة بل رفض الفكرة هو الأساس، ولا الجمال صار ضرورة بل نقيضه القبح هو من حضر، حيث من الممكن أن يكون بديلا له كما رأى أحد علماء الجمال (إذا بلغ القبح حدود الدّمامة، أصبح من وحي تفرده جمالا).
وخير مثال على الأعمال الفنية المنتمية للدادائية «المبولة» لمارسيل دوشامب، حيث قام بالتوقيع -باسم مستعار هو ريتشارد مات- على مبولة ثم عرضها على أنها عمل فني أصيل بعنوان «نافورة، fountain»، والذي قام بدوره أيضا برسم شاربين ولحية صغيرة على وجه الموناليزا بقصد السخرية من تلك الفنون الكلاسيكية ومن العالم البرجوازي الذي كان يسيطر على تلك الحقبة.
لم تكن الدادئية آخر المدارس الفنية بالطبع فبعدها أتت المدرسة السريالية بعد أن انشق أندريه بروتون عنها إثر خلاف مع (تريستان تزارا) وأعلن بيان السريالية لتستحضر عوالم الخيال واللامعقول لنصل أخيرا بعد الحرب العالمية الثانية لمدرسة الحد الأدنى (minimalisim) التي رأت الجمال والفن يتجسدان بالاختصار والإيجاز وفنون ما بعد الحداثة كالفن المفاهيمي والتركيبي فنون الجسد.. منحت الجمال زاوية جديدة للرؤية.
إلى اليوم ما زلنا نلمح أتباعا للمدرسة الدادئية من فنانين يرسمون بمفرزات أجسادهم (بول، براز، سائل منوي، مخاط...) وينفذون أعمالا فنية من المخلفات الصناعية.
حتى أن الفن المفاهيمي (conceptual art) يعتبر امتدادا للدادائية، ويعتبر مارسيل دوشامب هو الأب الرّوحي له، وقد ظهر كردة فعل على الثورة الصناعية التي حدثت في أوروبا -بينما الدادائية كانت ردة فعل على الحرب العالمية الأولى- وقد جاء الفن المفاهيمي ليؤكد على جمالية الفكرة والدهشة التي تتركها من خلال اختزالها ضمن مشروع أو عمل ما غير عابئ بجمال الشكل وشروط العمل الفني التقليدي.
في عام 2006 ظهر عمل بعنوان: «suri Cruises`s First poop» حيث قام الفنان دانيال ادوارز بتنفيذ عمل بالحجم الطبيعي للبراز الأول لابنة الممثل توم كروز «سوري suri» ذات الـ19 أسبوعا والتي بقيت بعيدة عن أعين الجمهور وكان أول ما ظهر منها ذاك العمل البرونزي الذي تمّ عرضه على موقع eBay وقد تمّ بيعه بـ7000$ والتبرّع بثمنه للأعمال الخيريّة، العمل مثبّت على قاعدة يذكر عليها اسم الطفلة وتاريخ الفضلات المجسدة في العمل وهو 18 أغسطس 2006.
وبعد عام من ذلك في 2007 قام فنان اسمه «تيرينيس كوه» بتقديم عمل مفاهيمي نفّذه في معرض بازل «artbasel» وهو عبارة عن علب زجاجية تحتوي قطع من برازه مطليّة بالذهب، وقد بيع هذا العمل بمبلغ 500,000$ !
إذن هل هذا هو الانعتاق من قيود الجمال والتّحرر من ضوابط الفن الكلاسيكي وشروطه؟ هل القبح والقذارة هي ما يُفترض أن يلتصق بالفن لنقول لا لمثاليته وابتعاده عن مآسي الطبقات المهمّشة وهموم المجتمع!
أسئلة لا تمتلك إجابةً واضحة فدعاة الحداثة والتغيير وكسر التابوهات سيصفقون لأي عمل مختلف ويفتحون الباب على مصراعيه للفنانين حاملي لواء التغيير، بينما المتشبثون بإرث الماضي والباكون على جمال عصورٍ بائدة، لن يقبلوا بأن تتربع أعمالٌ شعثاء غبراء على عرش الفن، حتى أن مثل هذه الأعمال قد تعيد الرغبة عند المتلقين الحياديين -الذين لا ناقة لهم ولا جمل في عالم الفن وطرائقه - بوضع الفن في مكانته السابقة واشتراط الجمال والروحانية في الأعمال الفنية.
أخيرا، يشغلني سؤال كيف سيتلقى الجمهور المحب للفن مثل هذه الأعمال وهل من متعة في ذلك؟
إن اتخذنا الحياد منهجا في الإجابة عن الاستفسار الأخير سنجد أن للمتعة في تلقي العمل الفني جوانب عديدة يشرق بعضها بجمال الشكل وتأمل تفاصيله التي تشي بحرفية عالية وصنعة دقيقة، بينما ينتشي جانبٌ آخر بالبحث والتفكير عن معنى العمل ومغزاه، فتأمل مثل تلك الأعمال يحرّض داخلنا الكثير من الأسئلة، وعندما يتجاوز الاستغراب والاشمئزاز اللذان يرتبطان غالبا بالأعمال الشاذة -وفق تقييم المتلقي السوي- المتعة الشكلية البصرية والفكرية، تطفو على السطح متعة تتجلى في تأريخ الفن وحيازة المفاصل التي تغيّر طريق سيره، أي أننا نهتم بعمل فقط لأنه مختلف وجديد ولابد أن يتغير شيء في عالم الفن بعد ظهوره، وهذا الاهتمام ظهر أيضا عند اقتناء لوحة فارغة بمليون دولار للفنانة لانا نيوستروم كانت موجودة ضمن معرضها في غاليري شولبيرغ، فالفن من الممكن أن يكون أحيانا تأريخيا توثيقيا فقط وليس من الضروري أن يحمل أي تفاصيل جمالية شكلية كانت أو فكرية.
إذن الجمال اليوم -إن حضر- ليس ضروريا أن يلتصق بالهيئة والشكل بل سينتقل للفكر والمضمون عوضا عن ذلك، وقد يطلّق الجمال الشكلي طلاقا بائنا.
قد نقتنع بهذا الفكر ونعطي أهمية للأفكار والمفاهيم ونهمل إبهار الفن الشكلي وسحر تفاصيله إلا أننا سرعان ما نشك بهذه القناعة ما إن نقف أمام أمهات اللوحات في متاحف العالم ونتأملها، فنشعر بحاجة مجتمعنا المعاصر للجمال واضح المعالم للتعويض عن البشاعة والمادية المفرطة التي اكتنفت جوانبه كافة؛ لكن كيف يكون هذا قابلا للتطبيق والفن في معظمه –شئنا ذلك أم أبينا- مرآةٌ للمجتمع، يعكس قيمه ومبادئه وأخلاقياته، يصوّر لنا البذخ الذي يحكم الحياة أو الشّح الذي يعصرها، يناسب ثقافة الأفراد وعمق اطلاعهم ويلائم الضحالة السائدة، يقرّب الواقع من المتلقي وينقله إليه، يتضافر مع بقية الأجناس الفنية (أدب، موسيقى، مسرح، سينما، رقص...) لإيجاد صورة للحياة معريّا المشاكل في محاولة إيجاد حلول لها، وشقّ طريق واسع للمستقبل؛ فالفن بصوره المتعددة سيكون الشاهد الحقيقي على ما كنّاه يوما سيخبر القادمين بكلّ شيء إذا ما تأملوه بأعين فاحصة وفكرٍ مفتوح على احتمالات واسعة وروحٍ متقبّلة للآخر، الفن هو وحده من يكتب التاريخ.
بسمة شيخو كاتبة سورية