خرج السماك عبيد من مسجد حارته التي تغفو متكئة على صدر جبل السعالي.
كان صباحا شتويا باردا، والغبشة تلف جبال مسقط كلها، قطع الشارع إلى الجهة الأخرى لانتظار سيارة الأجرة. طوله الفاره ودشداشته البيضاء؛ جعلتا سيارة الأجرة تقف قبالته مباشرة. ركب السيارة بهدوء، بادر صاحبَ السيارة قائلا بصوت خافت: السلام عليكم، رد الأخير عليه مع سيل من الأسئلة عن الأخبار والحال والأولاد. يحب عبيد الصمت كما يحب مهنته وأهل حارته. ثرثر السائق طوال الطريق عن كل شيء طرأ على باله في ذلك الوقت، وعبيد غارق في صمته. عند وصولهما إلى سوق السمك بمطرح، دخلا في ضجيج الباعة والسماكين وحركة عربات نقل الأسماك وحراشفها. حرّكت نسائم البحر الباردة ذكرياته الصغيرة حين اصطحبه أبوه إلى سوق السمك، فعلمه لأول مرة كيف يمسك السكين، وكيف يطرح السمكة على ظهرها لينظفها ثم يقطعها إلى حلقات دائرية أو قطع صغيرة وشرائح، كيف يفتح بطن السمكة ويستخرج أحشاءها ويلقيها للقطط.
أيقظه من ذكرياته صوت البائع: عبيد.. بكم تريد؟
أخذ ما يكفيه من الأسماك الطازجة، اشترى سمك الهامور والكنعد والسهوة. تذكر ما طلبته منه المرة الماضية جارته مريم بأن يحضر لها سمك الهامور؛ لأن ولدها عبدالقادر الذي يعمل في مصنع الرخام بالرسيل يحبه مع المرق الناشف.
طلب من صاحب التاكسي أن يفتح الصندوق الخلفي ليضع الأسماك هناك. وضعها بعناية وحرص شديدين كعادته. الأسماك الكبيرة مع الأسماك الكبيرة، والصغيرة مع الصغيرة، ثم عاد إلى السيارة وقال (الصيد اليوم رخيص). ابتسم صاحب التاكسي.
أحمد عبيد يعشق مهنته، يهوى مهنة تقطيع السمك. أحب حارته وأهلها البسطاء؛ يعمل في مهنة تقطيع السمك منذ نعومة أظفاره. بعدما هدمت البلدية سوق السمك بحارة الميابين، فتح عبيد كوة صغيرة في بيته ليسد رمق أهالي حارة التكية والبحارنة والمدبغة والميابين وحلة البصرة والدلاليل والولجات وباب المثاعيب وحلة الشيخ وحلة هوجان وحلة الزدجال والطويان وحلة الجفنين وكلبوه، من حاجتهم للسمك.
يبيع أسماكه لنسوة الحارة العجائز ممن لا يستطعن الذهاب للسوق لضعف النظر. وممن لا تستطيع منهن شراء سمكة كاملة، ومن يشترين نصف سمكة بالدين. دائما يبتسم لهن بتسامح ورضا.
جاوزت سيارة الأجرة دوار السمكة، وسور اللواتيا على اليمين، وجاوزت المحلات والدكاكين المصطفة على جوانب خور بمبا. كانت النوارس تحلق حول السفن السياحية الراسية على بحر ساكن. شعر أحمد عبيد السماك بوخز شديد في قلبه، فقال للسائق بخفوت أحس بوجع هنا، وسكت ولم يكمل. أشار إلى صدره.
أسرع السائق. جاوز دوار الجحلة وحديقة ريام. وصل بوابة مسقط الجديدة، متخطيا بكل سرعته حلة الدلاليل، داخلا إلى الدهليز الذي بين متحف بيت الزبير ومركز مسقط الصحي.
هرع الأطباء والممرضات لإسعاف عبيد السماك، فرأوه صعد إلى السماء، يجر من ورائه أسماكه الذهبية بصمت.
خالد عثمان قاص عماني