توجد مفردتان إذا ذكر أحدهما ذكر الآخر، الأولى «الثّقافة»، والثّانية «الحضارة»، فلا حضارة بدون ثقافة، ولا تهذّب للثّقافة بعيدا عن الحضارة، والحضارة ارتباطها بالإنسان عقلا وعلما وكشفا وسننا، والثّقافة ترتبط بالهويّة الإنسانيّة، فهناك الهويّة العرقيّة والدّينيّة والمذهبيّة وهوّيّة العادات والتّقاليد والأعراف، ولهذا الثّقافات تتعدد وتتدافع وتتهذّب، ولا يمكن تحقّق ذلك بمعزل عن الحضارة، ومن هذا قوله تعالى: }وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ{ [الرّوم/ 22]، فالآيات السّننيّة في الكون كشفها والانطلاقة منها مرتبط بالحضارة، واختلاف الألسن (الاختلاف الكسبيّ)، واختلاف الألوان (الاختلاف التّكوينيّ) كلاهما مؤثر على الثّقافة، والثّقافة إذا فهمت من خلال الحضارة تهذّبت، وإذا قرأت بعيدا عن الحضارة كان الصّراع العرقيّ والإثنيّ والدّينيّ مثلا، وهنا يكمن البناء الحضاريّ، أي من خلال تهذيب الثّقافات وتسخيرها إيجابا في بناء الإنسان والحضارة.

والحضارة تقوم على قيم الوجود، وقيم الإنسان الكبرى، وقيم الوجود يعني كشف سننه ونواميسه، واستثماره في إصلاح الأرض واستعمارها أولا، وفي خدمة الجنس البشريّ ثانيا، والمتمثل في محاكاة هذه السّنن إلى أدوات تخدم الجنس البشريّ، فاستطاع الإنسان بمحاكاته للطّيور صنع الطّائرات، ولبعض الدّواب صنع السّيارات، وهذا لم يحدث دون كشف لسنن الكون، فسخّر ذلك في صنع الهواتف والتّلفزة والطّباعة وغيرها.

ثمّ إنّ هذا لم يحدث دفعة واحدة بعيدا عن «سنّة الاقتضاء»، أي لم نصل اليوم إلى هذه الحضارة الّتي نقلت الجنس البشريّ إلى عالم أكثر يسرا بحياته من العوالم الماضية؛ لم نصل إليها دفعة واحدة، ولم تنزل من السّماء أو تخرج من الأرض صدفة هكذا؛ بل نتيجة تدافع وسير في الأرض منذ الحضارات الأولى، حيث حاول الإنسان كشف ومحاكاة ما ييسر حياته، ويضفي إليها جمالا بعد يسر، فكشف ما يستر عورته، وطوّره إلى ما يزيده جمالا في اللّباس والرّياش، وهكذا كشف أدوات فلاحته وطبخه وصناعته وبنائه لبيته وجسوره، وتنظيم طرقه ومعاشه، كلّ حضارة تدفع الأخرى اقتضاء وفق قدراتها وسننها، إلى أن دفعت بالحضارة المعاصرة دفعا، فجعلتها أكثر تقدّما ورقيّا ويسرا، وهذا لم يحدث إلا من خلال القراءة المبنيّة على تراث الحضارات السّالفة، ثمّ السّير في الأرض وقراءة سننها وكشفها.

وأمّا قيم الإنسان الكبرى، فتتمثل في المشترك في الجنس البشريّ من حيث ماهيّة الوجود، وهي الفطرة }فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{ [الرّوم: 30]، فالنّاس خلقوا سواء من حيث الأصالة، لا يفترقون تكوينا ماهيّا، وما اختلاف ألوانهم وأنواعهم وأجناسهم إلا آية لتحقق كرامة الجنس البشريّ جميعا، }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا{ [الإسراء: 70]، لهذا كانت قراءة الحضارة والثّقافة قراءة سننيّة وتهذيبيّة ضرورة مهمّة لإنزال هذه القيم إلى مصاديق تخدم الإنسان، وتحقّق كرامته من مساواة وعدل وحريّة ورفع ظلم، ومنع لاستبداد، ومحاربة لفقر وقتل وبطش وطيش في الأرض، ولا يتحقق ذلك إلا بقراءة قيم الجنس البشري، وهو الجناح الثّانيّ – كما أسلفنا – في البناء الحضاريّ بعد قيم الوجود، وكلاهما متعلّق تحقّقا بالقراءة من خلال الوجود والإنسان.

وإذا كانت الحضارة لها ارتباط بالسّنن والعقل والسّير والكشف، إلا أنّها تفرز ثقافات متباينة، هذه الثّقافات منها يضرّ سير الحضارة، كانت عادات أو تقاليد أو أعراف، أيّا كان تشكلاتها، فالشّجاعة قيمة حضاريّة مضافة، إلا أنّ الثّأر وقتل الآخر واغتصاب البلدان وتهجير الشّعوب عادات جاهليّة لا تتوافق وقيمة الشّجاعة، وكما أنّ قيمة الكرم قيمة حضاريّة مضافة أيضا، إلا أنّ السّرف وأكل أموال النّاس بالباطل والطّبقيّة والمباهاة لا يتوافق وقيمة الكرم، وهكذا القيم الأخرى كانت مطلقة كالعدل أي تعمّ الجنس البشريّ من حيث الأصالة، أو مضافة يكتسبها الإنسان كالعلم، فقد يوجد من المصاديق والنّماذج من عادات وتقاليد وأعراف تكون عائقا سلبيّا في تحقّق وجودها إيجابا، ومن هنا يأتي أهميّة القراءة، أي قراءة هذه الثّقافات إمّا قراءة نقديّة تصحيحيّة بعيدا عن تعصّب وجمود }إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ{ [الزّخرف: 23]، أو قراءة تصديقيّة للحسَن مع المحافظة عليه }وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{ [هود: 88]، فقراءة الثّقافة تدور بين التّهذيب والتّصديق.

والقراءة هي كشف الذّات والوجود، وكلاهما متلازمان، فكشف الوجود كشف للذّات، وكشف الذّات كشف للوجود، وفي القرآن الكريم: }وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{ [الذّاريات: 20 – 21]، فالتفت بعد آيات الأرض [الوجود] إلى آيات النّفس [الذّات]، ومن مصاديق هذا قول عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ]:

أتحسب أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

والله تعالى أمر بالسّير في الأرض، والسّير بالأرض إمّا بالتّأمل أو الكشف، وكلاهما بقراءة الكون المنظور عن طريق البحث والتّأمل، أو بقراءة الكون المسطور عن طريق ما كتبه ودوّنه المتقدّمون والمعاصرون، فالقراءة سير في الأرض أيضا، وكشف للثّقافة، لتتهذّب من خلال الحضارة.

واليوم مع تقارب العالم، ووجود حضارة إنسانيّة واحدة، يساهم الجميع بمختلف أجناسهم وأديانهم وهويّاتهم في نمائها ورقيها؛ إلا أنّ العالم الإنسانيّ لا يزال ينحدر في بعض أجزائه إلى درجته البشريّة القريبة من الحيوانيّة، حيث تطغى بشريّتهم على إنسانيّتهم، وضيق ثقافتهم على سعة حضارتهم، ومع سعة الوجود وما فيه من خيرات تسع الجميع؛ إلا أنّهم ما زالوا يحاكون «قابيل» و»هابيل» ليقتل أحدهما الآخر، ويشعلون حروبا لا يكاد تنطفئ في مكان، إلا وتشتعل في مكان آخر، لتعيش أمم على التّهجير والمجاعة والفقر واللّاإنسانيّة، ويسّخرون في تبرير ذلك ما ورثوه من ثقافة ماورائيّة أو تأريخيّة يتقوقعون حولها، بدلا من تهذيبها بسنن الحضارة.

إنّ هذه المجاعة الكبيرة الّتي تتكرّر بشكل متقارب زمنا في الصّومال، والبدائيّة من حيث الحداثة الّتي تعيشها أجزاء من أفريقيا السّوداء، والفقر والمرض والحصار والتّفاوت البشريّ الّذي يقتل المئات في أجزاء من آسيا وبعض أجزاء أمريكا اللّاتينية، والتّشريد والتّهجير بسبب الحروب في أجزاء من الوطن العربيّ، وآثار الحرب الأوكرانيّة، مع تقدّم الحضارة ومفاهيمها وسننها، واجتماع أمم الأرض على وثيقة حقوقيّة واحدة؛ إلا أننا لا زلنا نعيش صراع الثّقافات، وأنانيّة الذّات، وغطرسة السّاسة، ومصلحيّة رجل الدّين والثّقافة والفنّ، ممّا جعلنا نعيش في ضيق الثّقافة، ونبتعد عن سعة الحضارة.

إنّ قراءة الثّقافة قراءة إنسانيّة حضاريّة ينقلنا إلى استثمار الوجود لأجل الإنسان كإنسان ماهي، لا لأجل الإنسان كإنسان منتم إلى هويّة معينة، دينيّة أو عرقيّة أو ثقافيّة، فلا معنى أن تنحصر خيرات الأمم لأجل فئة من النّاس لا يختلفون عن غيرهم، ولا معنى أن تسرق خيرات أمم ليعيش أهلها في عالم الفقر والمجاعة والتّشريد، ولا يمكن تحقّق ذلك إلا إذا تهذّبت العقول بالحضارة، لتتحقّق إنسانيّة الفرد، وكرامته الوجوديّة.

وإذا كان العالم اليوم يبحث في معنى ما بعد الإنسانيّة، فلا يعني هذا بحال تجاوز الإنسانيّة، ولكن هناك من ضيّق معناها لأغراضه البشريّة المصالحيّة، ولولا بعض المواثيق الّتي جمحت بعض الأطماع لكان هناك أكثر من حرب بعد الحرب العالميّة الثّانيّة، ومع هذا تتكرّر بعض صورها في حروب باردة متباينة، لهذا لا بدّ للعقل الإنسانيّ أن يتحرّر، وينظر إلى الوجود من سعة الذّات الإنسانيّة الواحدة، والمكرّمة كذات لا كانتماءات لاحقة، وأن يحقّق كرامة هذه الذّات من خلال سننيّة الوجود، وهذا معنى الحضارة.

بدر العبري كاتب عماني مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»