-1-

أريد أن أرحل عن هذه الدنيا، كما أشاء، وقتما أشاء، إلى حيث أشاء، ثأرًا من السهولة التي جئنا بها إليها.

أريد أن أرتب هذا الرحيل، حتى السطر الأخير من أنشودة وداع عرفها كثيرون قبلي.

أريد...

ولكن ثمة عائق... عائق يدعو للتريث سنوات أخرى.

فأمامي، قبل الرحيل، مهمة مقدسة: «أن أنهي هذه الحرب».

ـ2ـ

سأهرب من هذه العاصفة...وألجأ إلى المطر.

سأوغل في الابتعاد عن المألوف، من أجل الدهشة أمام أي جديد في هذه الحياة... الفجر على سفح جبل قاسيون، مثلًا.

سأحيي ما ادخرت من الماضي، لأوغل في ذاتي باحثاً عن ذهبي الضائع. وأقول للزمن: أيتها الأم اغفري لنا أننا عابرون.

سأودع الدروب وأعود إليها بعد أن أبدل أحذيتي التي أبليتها في اكتشاف الطرق الجديدة.

ـ3ـ

في الأربعين... يبدأ النسيان. العقل يصبح سيداً والقلب خادمه المطيع.

يمشي، ويحمل سلة للذكريات. يلملم حادثة وحادثة تضيع.

العقل يعرف أن نسيان المكان مبرّر، والقلب يدرك أن مَن سكن المكان تغيروا.

وأنا أبرر لعنة النسيان في جسدي.

فحين نسيت عيد الأم قلت: هذه هي الشيخوخة المبكرة.

وعندما نسيت عيد امرأة أخرى...فرحتُ: هذا ازدحام الذاكرة.

في الأربعين تقول لي أمي: كم بلَغتَ من النساء؟

وتقول لي امرأة: تذكّر كم بلغت من السنين.

ـ4ـ

أنا هنا في دمشق منذ خمسين عاما. كان قلبي، عندما أتيت إلى هذه المدينة، أضخم من جسدي. أسمع طبوله كل يوم تقرع باب الغد. الغد الذي يأتي في اليوم التالي لاحتفالنا بعام جديد.

«اليوم هو أمس غدي». لن أحتفل، ولن أشتري، كالعادة، مفكرة جديدة: (فالنسيان كائن شفوي).

تذكرت فجأة، تلك الصلوات القديمة:

«أنا قوس في يديك يا مولاي

لا تشدّني كثيرًا لئلا أتحطم.

شدني كثيرًا يا مولاي... فمن سيهتم إذا تحطمت؟»

....................

وأنا أمشي ... وصلت فجأة إلى مكتبة الكرمل (الكرمل جبل محمود درويش). دخلت إلى المكتبة. وطلبت مفكرة.

(ثمة ما يزال هناك... ما ينبغي تدوينه).

أمامي طريق عسير وحياة بين قنبلتين.

(فالكتابة تدوينٌ... للنسيان).

ـ6ـ

هناك عدد من الأشخاص كلما التقيتهم أحسست كم أن الزمن لا يزال يذكرنا بأن الموت يأتي إلى البيت، فيأخذ كل شيء.... لا يبقي على شيء، ولكنه ينسى أحيانًا لوحة على جدار لرجل ما زال شابًا، لأنه رحل منذ أمد بعيد، وبقيت صورته كما كان منذ أمد بعيد!

ـ7ـ

من دفتر قديم:

الشتاء... قال دستويفسكي: «بارد على من لا يملكون الذكريات الدافئة».