في الأماكن التي تُهدد بالمحو من الوجود لمجرد اختفاء الأمطار والأودية، في الأماكن التي يغدو الإنسان مُعرضًا للموت جوعا لمجرد أنّ غلّة الحقول لم تينع لشح السيل، نقنُ جيدًا أنّ الماء يمثلُ نشيد الحياة والموت في الذاكرة الجمعية.

ولأنّه يتوجب على المخيلة الخصبة أن تقص قصّة ما، وأن تمنح المنحوتات الصامتة بُعدًا دراميًا، كتلك التي نحتتها الطبيعة، فبدت أشبه بأشكال بشرية مألوفة، تظنها -بمجرد ما إن تنظر إليها- شكلًا لكائنٍ كان يتمتع يومًا ما بحياة كاملة، ثم سُلبت منه تلك الحياة لأسباب تقصها علينا الحكايات الشعبية، نجد أنّ المخيلة العُمانية التي لا تستكين إزاء تدفق أسئلتها وجموحها الفاتن، تنتج على الدوام ما يمكن أن يروى على نحو ما، فمن منا -على سبيل المثال- لا يعرف قصّة المرأة التي مسحت غائط ابنها بقطعة خبز فتحولت إلى منحوتة جبلية، تروى قصتها أجيالا وراء أجيال.

لقد أشار الشاعر سماء عيسى في إحدى مقالاته المهمة، لاحتمالية أن يكون منطق "النُدرة" هو أحد أسباب منشأ المخيلة العُمانية القديمة، الكثيفة بالمعتقدات، ففي لحظة العجز عن تفسير أسباب الموت والأوبئة الغامضة والطبيعة الغاضبة، ينحاز الإنسان العُماني لتصورات غرائبية تبرر المبهم، وكذلك الأمر بالنسبة للظواهر الأخرى من قبيل المحل والجدب.

وأسأل إن كان منطق "النُدرة" ذاته، بمعنى ندرة الماء والمطر الذي تكابده بلادنا منذ أجدادنا القدامى هو السبب الذي يحمل الناس لكي يغمروا أرواحهم العطشى بالماء؟! أسأل إن كان منطق "النُدرة" هو منشأ ذلك التطرف الغريب في علاقة بعض العُمانيين بالماء؟!

فعلى كثرة الموت والكلفة الباهظة التي تدفع إزاء تقلبات الطقس، وعلى وفرة نشرات الأخبار حول عدد الغرقى المفارقين للحياة مع كل حالة مدارية تصيب البلاد، لا أدري لماذا لا نتوقع غدر السيول الجارفة؟!

تحضر خيانات الماء بكثافة في سرديات العُمانيين وكتاباتهم وأشعارهم، حتى ضمن كتاباتهم التاريخية في الكتب القديمة، نتذكر قصّة الإمام الوارث بن كعب، عندما جاء السيل الغزير وثمّة مساجين حبسوا تحت شجرة بمكان يقع بمحاذاة القلعة، فغامر بحياته في سبيل إنقاذهم -عندما لم يجسر أحد من جنوده على ذلك- فغرق ومن معه لشدة السيل، في حادثة أرخها التاريخ، فدفن جوار الوادي حيث مات. ومن الحكايات التي تروى أنّ ماء الوادي ما إن يقترب من قبره حتى يفترق، ليظل القبر دون أن يمسه أذى.

نُقشت خيانات الماء على الصخور أيضا، من مثل "جرفة صفر" التي تركت أضرارا جسيمة، فعلى الرغم من أنّه "لا أمان في الماء" كما يقول القاص حمود الشكيلي، إلا أنّ أحدا لم يتمكن يوما من إيقاف ضمأ العُمانيين حتى اللحظة، فما أن ينزل الغيث وتسيل الأودية المغبرة فوق الحجارة الصلدة حتى ينهض "قفار" زهران القاسمي من تغريبته فيُصيخ السمع لصوت الأرض وترنيمتها الخفية. يستيقظ الحنين الأبدي والمجنون لاندفاعات قاتلة، فيترتبُ على كل منخفض جوي أو حالة مدارية موت ووجع وأنين، ولا نتحدث هنا عن موت غادر غاشم يدخل البيوت فيغرقها وهم بلا حول ولا قوة، وإنما نتحدث عن أولئك الذاهبين بأقدامهم الحرّة إليه الغائصين فيه المحمومين به، فيبدو وكأن من يقود تلك المركبات الذاهبة لمياه مُغبرة لا يعلم أحد قرارها ومدى شدتها واحتمالية قدرتها على جرف كل ما يقف أمامها، يبدو قائدو تلك المركبات كالمسرنمين، مستشعرين عطش أسلافهم القديم، يلقون بأنفسهم بإرادة تامة لموت محقق! وكأنّهم في قرارة ذواتهم يستشعرون أنّ هذا الحدث الاستثنائي القليل والنادر والضئيل لن يقضي عليهم على أية حال، يخاطرون بحياتهم وبأرواح أبنائهم الذين يجهلون الخطر المحدق بهم، ثمّ يذهبون فيتركون الضمأ الأكثر صخبا يأكل أفئدة محبيهم.

أكاد أظن أنّه ولولا الشرطة والدفاع المدني -الأكثر حرصا من بعض الناس- أولئك الذين يحرسون الأودية ويقطعون الحركة وقت شدّة الأودية لذهب كثير منا إلى حتفهم.

استعير جملة جوخة الحارثي باستبدال طفيف بين كلمتي الحبّ والماء: "ربما يكون لكل إنسان حصة مقدرة من الماء، وطلب المزيد هو مجرد تطاول"!